قراءة في كتاب: جبال النوبة سنوات الخوف للكاتب محمود الشين د. قاسم نسيم اليوم نتقلب على صفحات كتاب (جبال النوبة سنوات الخوف) للكاتب والصحفي محمود الشين، وقد صدر حديثًا ونشرته دار الأجنحة للطباعة والنشر والتوزيع، ويقع الكتاب في مائة وخمسين صفحة من الحجم المتوسط. عتبات الكتاب: لُوِّن الكتاب في مجمله باللون اللبني من الوجهين، أو ما نقول عليه أحيانًا الأزرق الفاتح، أو قل السماوي، كلها أسماءٌ لشيءٍ واحد، جُعلت في منتصف غلافه الأمامي لوحة تشير محتوياتها إلى منطقة جبال النوبة، فثمة امرأة شمطاء تحمل حزمة حطب جاف، لا شيء يمكن أن يفاد منه سوى إيقاد حلة عصيدة بلا إدام، تحافظ على زفرات الحياة وشهقاتها، وطفلً على ظهرها، رغم أنَها عادة ليس لأهل الجبال فيها نصيب، وشيءٌ آخر بشمالها، موهه الفنان إيغالا في التعمية والإغراب والإيحاش، وتجلت قدرة الفنان في إظهار المرأة راحلة دون أن تتحرك الصورة، هذه قدرة أشبه بقدرة الحواة في زماننا ذاك، فالآن كل رب أسرةٍ حاوٍ، فضاع المعنى فلا تدركه أسماع اليوم، وأطفال آخرون يظهرون على مستوى كعب شيطان المرأة، كأنَّهم يزحفون أو يَحْبُوْن، فلو أنك أنفقت قدر ما جعلك تغتني هذا الكتاب ثم نظرت إلى هؤلاء الأطفال، ثم لم تفعل شيئًا آخر فإنك كاسبٌ جمالًا نضاحًا، ثم عظمٌ بشريٌ شديد الاحمرار، كأنَّ دمه ما يزال رطبًا لم ييبس، أو انه اقتلع عن لحمه الساعة، من شدة توهج احمراره، مرتمٍ بإهمال على الأرض، لا يجد ما عساه يأكله لانتفاخ الحيوان منه، وشبع الآفات فيه، فما أبخس الإنسان هناك، وعلامة القرصنة أو لو شئت قلت علامة الموت، بيضاء في مثلث أحمرٍ منبثٍ من الأرض، كأنها تقول هذا مكان لا ترى فيه إلا الموت فاحذره، وتولى عنه وثبًا، وصورة سلاح كلاشنكوف، وحربة، وقطاطي وجبال، زخم من التفاصيل يشير إلى الفجيعة والبؤس والموت. والبيئة والإنسان بين تلك الأفخاخ ما تزال تنبض فيها الحياة بلا وجل، وتتمسك بالأرض. اللون السماوي الذي يتمدد في أكثر الغلاف، يرمز إلى الهدوء والصفاء، وغالبًا ما يكون مرتبطًا بالماء والسماء مما يمنح شعورًا بالسكينة والاستقرار، وهذا على النقيض من الدلالة التي تضمنها عنوان الكتاب (سنوات الخوف) فالخوف ضد السكينة. أما عبارة جبال النوبة، التي كتبت باللون الأسود أعلى الكتاب، فاللون الأسود يحمل دلالات متناقضة، فهو يرمز للقوة والسلطة، وهم أهل قوة، وقد يرمز للموت، فهو لون الحداد، والموت ضرب بجرانه في تلك الجبال وما يريد يبارحها، ويرمز للشر، وهو منسجم في دلالته مع الواقع هناك. وكُتبت تحت عبارة جبال النوبة عبارة (سنوات الخوف) ملونة بلون أحمر، والأحمر كذلك ذو دلالات مكتنزة، منها القوة والقيادة والغضب والخطر، والخوف والحذر والثورة، وكل هذي الدلالات داخلة في معنى (سنوات الخوف). هذا ليس كتابًا يستقصي قضية جبال النوبة من أقطارها، أو يؤرخ لها من بواكيرها، أو يحتفي بمراحلها ويوثق لتفاصيلها، أو يظهر بطولات أبطالها، ويُنَوِّه بناشطيها، وإنما هو مشاهدات عاشها الكاتب أثناء دراسته بمدرسة تلو القومية تلك الدراسة التي ترافقت مع سني خوفها، واضطراب أمنها، واشتداد إوار أحداثها، يضيف إليها بعض ما انتقاه من معلومات من بطون الكتب، أو أفواه الرجال، ووجد فيها ملابسة بموضوع من موضوعاته بالجبال يستحق الإيراد. ولكل إنسان إذا ملك قدرة البحث العلمي، واتيحت له المراجع، أن يصدر لنا كتابًا عن قضية جبال النوبة أو غيرها، وهو قابع في ركن من أركان العالم، دون أن تكتحل عيناه بمرأى الجبال وإنسانها وحيوانها وبيئتها وترابها وخضارها ورائحتها ، وإحساسها، وطعم الأشياء فيها. فيأتي الكتاب مكتنزٌ بالمعلومات، باردٌ في المعاني، فلا ينكأُ جرحًا، ولا يشظي ذاكرة، ولا يهيج قلبًا، ولا يُثير نفسًا، أما كتابنا هذا فينوء بمشاهدات ويعايش مجتمعاتٍ، ويتنفس عطر الأمكنة، ويلاطف الناس هناك، ويفزع لفزعهم، ويفرح لفرحهم، ويأسى لمرأى المآسي، ويستحضرها لنا، ويرسم لنا صورة الخوف فنشهده بأعيننا، ونحسه بتعالي ضربات قلوبنا، واقشعار شعر جلدتنا، ويفعل ويفعل، كتاب ينقلك إلى موقع الحدث فتعيش فيه فأكرم به من كتاب. افتتح المؤلف كتابه بمقدمة تعد خير تقدمة له، خطها الأستاذ حامد بخيت الشريف، ذكر فيها علاقته بالمؤلف، وأردف ذكرًا عن انطباعاته عن الكتاب، ولم يخفِ عجبه بمزج الكاتب تجربته بما خطه آخرون، وختم بأن الكتاب نص هجين بين السيرة والوثيقة الكتاب بدأ المؤلف منذ الكلمة الأولى يسرد في قصته، التي بدأها وهو في طريقه إلى كادقلي حيث تم قبوله هناك بمدرسة تلو الثانوية، أيام المدارس القومية، كان قادمًا من التبون، وكان الخوف يتملكه، فالحرب بين الجيش ومتمردي الحركة الشعبية على أشدها، ثم يتحسر وهو يقفز على الزمن قُدمًا على اختفاء ذاك النظام في سنوات الإنقاذ، ثم يعود ليعبر عن حبه وأهله للنوبة، فالخوف الذي ينتاشه وراءه الحرب لا وحشة الإنسان النوباوي، ولعله بسبب تسامعه افتقار الطريق للأمن، وتعدد الحوادث، فقد كانوا عميٍ عن المنطقة وعن حربها، ثم تحرك بعنصر الزمان إلى الأمام، ليوقفنا أمام 1972 واتفاقية السلام الأولى بالجنوب ، وذكر إعجابه بها لذكرها الحقوق الثقافية، رغم تبكيت أبل ألير لها، ثم تقدم بالزمن قليلًا إلى سنة 1995 واتفاقية أسمرا للقضايا المصيرية، وذكر أنها أفادت من تلك الاتفاقية كثيرًا، ثم تنقل يسرد مقتل محمود حسيب أول محافظ لجنوب كردفان من أهلها عهد النميري، وفوز أحمد الصالح صلوحة في دائرة التبون المجلد الميرم في الديمقراطية الثالثة، والكتاب مادة جغرافية مهمة تكفي لمن لم ير تلك المناطق (دارفور وكردفان) تكفيه مرآها لدقة الوصف ووضوح الأبعاد والمسافات، ومادة تاريخية أيضًا تسجل الأحداث ومتى نشأت المنشآت، وفي عهد من، وتهتم بالبارزين من الرجال فتعرِّف بمناطق ميلادهم ونشأتهم وقبائلهم وأفخاذهم وإنجازاتهم. بلغ في سرده الدلنج وهو يراوح بالسرد أماما وخلفا فتغزل في معهدها، وأشبعها وصفًا لم يغادر فيه صغيرة ولا كبيرة، حتى تبلدية الشاعر جعفر محمد عثمان حيث وقف أمامها متبتلًا، ثم يواصل في سرد رحلته إلى كادقلي، لكن ليس قبل أن تكتمل الإجراءات الأمنية، ثم يقول "إن حرب الجواسيس في جبال النوبة كانت على أشدها، إذ يصعب التمييز بين الناس لمجرد سحناتهم، في منطقة يصعب أن تدعي فيها مجموعة سكانية ميزة النقاء العرقي... هذا الدمج التلقائي والانصهار الملحوظ يعكس مدى عمق العلاقات والتنوع بين أهالي جنوب كردفان". ويستمر في السرد، حيث البص يسير مخفورًا بقوة تأمين عسكرية، ووصل منطقة الكرقل التي تتوسط الطريق بين الدلنج كادقلي، ويلتقي طوف التأمين القادم من الدلنج مع القادم من كادقلي، فيعود كل منهما إلى مقره مع البص الذي كان يحرسه الطوف الآخر وتتبدل قوة التأمين، ثم ينطلق الطوف من الكرقل وهم متوجسون من الكمين المتوقع في منطقة خور الدليب، لكن تجاوزوه بسلام، بعد أن عاش القارئ مع السارد لحظات الترقب الرهيبة وحبس الأنفاس، ثم لحظة انزياح الخطر الباسمة، ثم عاد يلقي باللائمة على الإنقاذ التي جففت المدارس القومية وحولتها لمعسكرات تدريب عسكري وبذا كتبت نهاية مأسوية لمعهد بخت الرضا. ما كان الكاتب يكترث بحصر موضوعاته في جنوب كردفان، فكثيرًا جدًا ما يقفز على حدود كتابه ليتحدث عن عالمية فكر الحركة الإسلامية التي لا تؤمن بالحدود الجغرافية، وشعارات الإسلاميين واستعداءهم لأمريكا،ـ أو حرب دارفور وكارلوس والقبض عليه.وغير ذلك كثير، فكأنَّه يتداعى تداعٍ حر، وقد حاكم الشين في هذا الكتاب الحركة الإسلامية، في أقوالها وأفعالها محاكمة تندس وتتوزع بين حكاياه وسرده ومواقفه. بلغ كاتبنا كادقلي وقد شدته مظاهر إعلان كادقلي الجهاد في كل مكان، وكانت التعبئة والتجييش في كل مكان. بعد أن استيقظ صباحا قفز إلى ذهنه الحديث عن تنظيم كمولو، وقرر أن مشكلة نخب جبال النوبة لم تتوصل إلى قاسم مشترك إلا في مرحلة واحدة أنجزها تنظيم كمولو، لكن هذا القول يجانب الصواب -عندي- ففي سنة 1965 عقب أكتوبرأنشأ مثقفو جبال النوبة اتحاد عام جبال النوبة الذي اكتسح دوائر الإقليم كلها. ويواصل الشين قائلًا إن الأيام أثبتت أن تلك النخب سرعان ما يتفرق فكرها وطرحها بين الكيانات والتنظيمات السياسية، حيث تتصارع وتتلاشى الرؤى والأفكار، ويبقى إنسان جبال النوبة الصابر في متاهة الانتظار، كما ذكر أن النوبة قد خرجوا صفر اليدين من برتكول المناطق الثلاثة الذي انهار بعودة المنطقة إلى الحرب وهذا هو حصاد جبال النوبة وهو محق في هذا. وعن داخليته بمدرسة تلو يسرد معاناته مع البراغيث، ثم يطفق يصف الداخلية كأنَّك تراها، لم يترك فيها شيئًا، داخليات النوم، موائد الطعام، المسرح، الأنشطة، ميادين كرة القدم، حتى موقع المدرسة شرق المدينة والبيئة حولها وغير ذلك. عاد إلى الوراء ليحكي قصة اللواء الفاتح بشارة حاكم إقليم كردفان إبان عهد نميري مع يوسف كوة ودانيال كودي، فقد أكدت له الأجهزة الأمنية تعاملهما مع الحركة الشعبية فحاول القبض عليهما لكنهما هربا، وهذه القصة بالطبع لم يكن الكاتب واعيا بالقدر الكافي حين حدوثها، لكنه- وهذا أسلوبه يستدعي الأحداث بتقليب الوثائق ليستخرج شيئًا من الماضي يرمي به أمامنا، فحركة الزمن في سرده حركة تقدم إلى الأمام وتأخر إلى الخلف، ثم يوغل خلفا ليحدثنا قائلًا إن يوسف كوة كان نائبا لدائرة كادقلي وفي ذات الوقت هو نائب رئيس هيئة مجلس الشعب الاقليمي بكردفان ومقره الأبيض، ثم يقول وحتى لحظة وصولنا إلى هناك فإن إعلام الحركة الشعبية لم يفلح في توحيد الجبهة الداخلية على مستوى جنوب كردفان حتى تلتف حول مطالبه وقضاياه المصيرية التي وردت في أدبيات كمولو. والكتاب محشود بالمشاهدات المتفرقة، وصور الحياة بتعاستها وحلاوتها، وجمالها وقبحها، وقد نجحت كاميرا الشين في التقاطها وإبرازها لنا بأزهى جماليات الصورة تحدث الشين عن الصالح العام وصوره في كادقلي، وتحدث عن خريجي كادقلي الذين يحملون الشهادات الجامعية ثم لا يجدون فرصةً للعمل الحكومي، وذكر أن الكبت والعنصرية وعدم المساواة كلمات يمكن أن تعبر بعمق عن قضية جبال النوبة، فعلى مدى تاريخها الطويل في الحكم لم تنصف أحزاب الأمة والاتحادي والجبهة الإسلامية والقوميون العرب النوبة البتة، وذكر أنه رغم نيل الأحزاب التقليدية ثقة الأهالي هناك إلا أنها لم تقدم للمنطقة شيئا كما وعدت، الشيء الذي دفع أبناء المنطقة الى تأسيس تنظيمات سياسية مثل اتحاد عام جبال النوبة والحزب القومي السوداني وتنظيم كمولو والحركة الشعبية، لكنه يستدرك ويقول إن الأحزاب التقليدية عملت على إجهاض ذلك العمل أيضًا بدلًا من الاعتراف بالقضية اثنى الشين على نساء جبال النوبة، وأعجب بجمالهن، لكنه كره ذلك اللون البني الي يطلى ثنايا بعضهن، فلما استفسر عنه علم أنه بسبب رواسب المياه الجيرية ويعتقد الشين أن الإنقاذ عاقبت النوبة بتفكيك مشروعاتهم الحيوية نحو مؤسسة جبال النوبة الزراعية، ومشروع التنمية الريفية لجنوب كردفان كما فعلت نحو ذلك في دارفور. وقد سرد الكاتب لقاءاته مع أهل السياسة والنشاط والفكر في كادقلي، ويرى أن نخب جبال النوبة متفقة في قضيتها العامة لكنها تتحدث بأكثر من لسان لا أدري (أبثية) هذه امرأة حقيقية أم من نسج خياله رمزًا أراد بها تجسيد تضحيات المرأة النوباوية، لكن بلا شك أن المرأة النوباوية قد ضربت أروع المثل بنضالها تاريخيًا تمثلًا بمندي بنت السلطان عجبنا، وحاليا بعشرات النسوة اللائي يحملن السلاح، وقاتلن وحرضن الرجال على القتال، والجميلة بثينة هذه كانت تقوم بأدوار خطيرة حين وطأة القبضة الأمنية- من تجنيد وتكوين خلايا واتصال وغير ذلك. إن صورة الطفلة ماريا التي بترت ساقها بلغم في مناطق أم دورين صورة مأساوية من الصور التي جسدها لنا المؤلف بكلماتٍ جعلتنا كأنَّنا نراها تحجل تارةً أو تتكي على عصاها أخرى، فنقل لنا الألم مجسدًا في طفلة في شجن الطفولة، وصورة صاحب الكارو (العربجي) وهو يسوقهم إلى داخلية تلو وبلالي لساتكه تصيح بسبب انعدام الشحم الأمر الذي سيؤدي إلى عطب الكارو حتمًا وبالتالي توقف مصدر دخله صورة تجعلك تستحضر قوله تعالى (كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون) فهو يعلم عاقبة حال عربته لكنه يمضي في السبيل الذي يؤدي إلى هلاكه لا محالة، وصورة ذاك القابع في القهوة فحين سأله الكاتب سؤالًا له علاقة بالسياسة جعل يفر وهو يقول إنت طالب ولا سياسي صورة تعبر عن الكبت والإرهاب الشديدين كنت أود أن اعتبر هذا الكتاب رواية واستخدم أدوات تحليل الرواية فيه، فلعل كاتبه راو ٍضل سبيله، فكل عناصر الرواية مكتملة فيه ، فهو ينقلك إلى المكان فتحسه، ويعود ويمضي بك في أزمنته للوراء والأمام ، فيعيد لك بناء المتن الحكائي وفقًا للمبنى الحكائي الذي يراه وفي هذا يلعب بالزمن جيئةً وذهابًا، وفي منظوره السردي أو زاوية الرؤية كان يستخدم ضمير المتكلم، وهكذا يمكن إعادة نقد وتحليل هذا العمل من منظور روائي، لكن هذا المزيج أعطى الكتاب روحًا جديدة، وأعطى الحقيقة إشراقًا أبزغ. فهنيئًا للكاتب بهذه الإصدارة ذات الطريقة المتفردة، فهي لا تقرر الحقائق مثل الكتب، إنما تجعلك تحسَّها وتعيشها وتؤمن بها وتنتصر لها
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة