رحلت وأنت ثابتٌ على المبادىء التي ناضلت من أجلها وأفنيت ريعان شبابك لتحقيق حلم السُّودان الجديد، وإنَّا برحيلك وفراقك لمحزونون، يا إدوارد. لقد غيَّبك الموت وقد نذرت نفسك وأعددتها فكريَّاً وسياسيَّاً وأدبيَّاً لقيادة وطنٍ مصطرع – السُّودان الكبير آنذاك - للخروج به من مستنقع الركود والجمود الذي كان ولا يزال يعيشه إلى فضاء الأمان والاستقرار لشعبه المتعدِّد الأعراق والأديان والثقافات. كان إدوارد لينو من الرواد الذين ناضلوا ضد الطغيان. فلذلك تم فصله من دراسة القانون بجامعة الخرطوم عام 1973م نتيجة لنشاطه السياسي المتميِّز ضد حكومة مايو الظالمة للوقوف بجانب الحق انتصاراً للكادحين في السُّودان. إذ لم يرض بما كان يتعرَّض له السُّودانيون، فسلك طرقاً وعرة وعمل بكل جدٍ وهمة ممهِّداً السبيل للثورة ضد التهميش بجميع أشكاله التي مارستها حكومات المركز المتتالية في كل الأزمان. إدوارد من المؤسسين الأوائل للحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان التي هدفت لخلق وطنٍ كبير يسع الجميع، بلا أفضليَّة لفئة دون أخرى، برؤيته الثاقبة، وأفقه الواقعي الواسع، إذ لم يقترنه بخيالٍ طافح وطامح، ولا بأطماعٍ شخصيَّة، بل كان همه السُّودان الكبير. لقد عمل الفقيد وسط تجمعات وتحالفات الأحزاب السياسيَّة، وبرع في تكوين الخلايا السريَّة للحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان مع كوكبة مستنيرة من المناضلين الأشاوس قبل الالتحاق بالنضال الثوري المسلَّح بعد أن تأكَّد من انضمام الكثير لصفوفها على المستويين التظيمي والثوري مع زملائه الذين شهدوا ببسالته وشجاعته. ولخوض المواجهة مع حكومات الأمر الواقع في الخرطوم، أعدَّ إدوارد نفسه بالعزيمة التي لم تلن أبداً وشق طرق الثورة وهو يؤكِّد ذلك في قوله: "إنَّنا قد هيأنا أنفسنا لقيادة المهمشين لمواجهة نظام مايو الذي فرض قوانين الشريعة الإسلاميَّة على القطر كله، وقد قمنا بذلك من واقع واجبنا الوطني ومسؤوليتنا الوطنيَّة". كان إدوارد يعي ما يعنيه بتلك الكلمات تماماً، إذ كان لا بد من، بل كان ينبغي مراعاة تعدُّد السُّودان العرقي والثقافي والديني، وهذا في حد ذاته توجه أخلاقي تجاه المواطنين. لم يكن النضال الثوري الذي خاضه إدوارد ضد فرد أو جماعة عرقيَّة أو دينيَّة، بل ضد المنظومة الظالمة. فعرقيَّاً ينتمي إلى قبيلة الدينكا، وكان مسيحيَّاً ومع ذلك تزوَّج من السيدة آمال الطاهر عبد الرحيم المسلمة – عليها رحمة الله – والتي كانت شماليَّة أباً وجنوبيَّة أماً، وبذلك ترجم واقع التسامح الديني الأصيل في السُّودان، والعقد الاجتماعي المفترض أن يكون، ولهذين السببين – ضمن أسباب أخرى كثيرة – نهض وانتفض من أجل تحقيقهما واستدامتهما في وطن تتشعَّب وتتفرَّع فيه الواقائع. وفي مجال الشعر كان الراحل شاعراً حساساً يتذوَّق شعره من قرأه أو استرق السمع له. وفي الأدب كان بليغاً عارفاً مما خلق له قاعدة أدبيَّة كبيرة واجتماعيَّة واسعة. بيد أنَّ رثاء الأديب الفطن والشاعر الفحل فضيلي جمَّاع كان كاملاً متكاملاً حلَّق بالجميع في فضاء المناضل إدوارد أبيي لينو الإنسان. حقاً كان إدوارد إنساناً وطنيَّاً عبَّر عن ملكاته هذه بالكتابة في تأليفيه باللغة الإنجلبزيَّة: "تحيا القرودLong Live the Monkeys-"، و"جون قرنق دي مبيور أتيم، رجل تجب معرفته Dr. John Garang de Mabior Atem: A Man to Know-" إن صحَّت ترجمة العنوانين. ومن إنسانيّة إدوارد وأخلاقه ووفائه تجاه رفقائه في النضال، لم يمنعه المرض اللعين من المشاركة في حدث كبير وعظيم. ففي ظهر يومٍ مطيرٍ أعقبته أشعة شمس مبشِّرة بما هو آتٍ من خير، جلس إدوارد على كرسيه مرفوع الرأس رغم ما كان يعاني منه لحضور عقد قران وزواج "نضال يوسف كوة مكي"، كريمة رفيقه وصديقه المعلِّم يوسف. كان إدوارد نجماً ساطعاً وبطلاً بين الحضور، وقد كان الرفاق البروفيسور بيتر أدوك نيابا، والبروفيسورعلي العبيد بريمة وآخرين من كبار رفقاء يوسف في النضال حضوراً أيضاً. في الحقيقة والحق يُقال، لقد أذرفنا دموعاً كثيرة خطفت منا حلاوة المناسبة حينما رأينا بطلنا وأستاذنا إدوارد حبيساً للمرض لم يقدر على التعبير بكلمات عما كان بداخله من قريحة نظم الشعر وتقريضه، ونثر الأدب بامتياز السبك. غير أنَّ لغة عيونه، وابتسامة وجهه الدائمة، وجسده النحيل قالت الكثير، فأذهبت عَنَّا الحَزَن، وشاركناه الأحاسيس النبيلة وكبرياء إنسانيته وعانقناه بشدة تعبيراً لامتنانا له لما قدَّمه لأهل الشمال والجنوب معاً، حينئذٍ تأكَّد لنا أنَّ الحياة اجتهاد ومثابرة، يظهر فيها ضعف وقوة الإنسان. في ذلك اليوم أرانا إدوارد قوته مرتين، وضعفه مرة، بما تحمل ذاكرتنا. أرانا قوته ونشاطه عندما التقيناه مصادفة بنيروبي ونحن في طريقنا إلى حضور مؤتمر كل النُّوبة بكاودا في ديسمبر العام 2002م، ومرة يوم مهرجان الزواج في 25 مايو 2019م، حيث كان وداع الكثيرين له. ثم كان ضعفه وهو قد رحل عن دنيانا، تاركاً وراءه حلماً لم يتحقَّق ولكنه قيد التحقيق إذا عمل قادة السُّودانين: شمال وجنوب برسالته التي وصى بها، ولئن كانت تخص جنوب السُّودان.
فلترقد روحك الطيبة بسلام في جنات الخلد، فقد عهدناك أستاذاً ومعلَّماً، وإنَّا والله لفراقك لمحزونون. "إنَّ لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى". و"الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركاً".
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة