منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021، ثم اندلاع الحرب الكارثية في أبريل 2023، ظلّت الثورة السودانية تتأرجح بمرارة بين حلم الدولة المدنية وكابوس العسكرة والانهيار. اليوم، عند هذه اللحظة الحرجة التي تتصاعد فيها الكارثة الإنسانية وتتلاشى فيها معالم الدولة، يُعيد غياب اللواء أبو عاقلة كيكل—سواء أكان ناتجًا عن إصابة خطيرة، أو استهداف مباشر، أو قرارًا تكتيكيًا بالانسحاب المؤقت—طرح سؤال جوهري: هل تتحرك الحرب فعلًا بقوة السلاح، أم بقوة الرجال الذين يحركون السلاح؟ غيابه، أياً كان سببه، ليس مجرد ظرف عابر. إنه نافذة لفهم هشاشة طرفي الصراع، وعمق الانقسام المدني، وحجم الفراغ الذي يبتلع السودان من أطرافه. أولًا هل غياب كيكل… ضربة للقيادة الشخصية في الجيش كان كيكل—بعد عودته للجيش في أواخر 2024—أحد أكثر القادة الميدانيين تأثيرًا في جبهات الجزيرة والبطانة وشمال كردفان. أسلوبه القتالي المباغت ونجاحه في استعادة بعض المناطق منح الجيش قدرة على المبادرة بعد أشهر من التراجع. بالنسبة للجيش: ضربة معنوية قبل أن تكون عسكرية غياب كيكل يخلق ارتباكًا فوريًا في الجبهات الوسطى التي تعتمد فيها العمليات العسكرية على القيادات الشخصية (War Lords) أكثر من الاستراتيجية المؤسسية. لقد كان يجمع بين كاريزما قبلية وجرأة ميدانية، الأمر الذي جعله رمزًا لـ"عودة" الجيش إلى القدرة على المناورة. إن فقدانه، ولو مؤقتًا، يعني فراغًا قياديًا صعب الملء، خصوصًا في مناطق تتطلب خبرة محلية وفهمًا للخرائط الاجتماعية المعقدة. هذا يؤكد أن الحرب السودانية لا تزال حرب أفراد وعصابات وليست حرب مؤسسات وطنية. بالنسبة للدعم السريع: مكسب سياسي ورمزي بالنسبة لقوات الدعم السريع، يُنظر إلى كيكل كـ"الخائن الأكبر" بعد انشقاقه. غيابه يمثل فرصة لرفع معنويات مقاتليهم وإعادة صياغة خطاب القوة - "أكبر من خاننا قد سقط." هذه المكاسب الرمزية والبروباغندا مهمة جدًا في حرب تعتمد بقدر كبير على الاصطفافات القبلية والتحشيد العرقي. الخسارة للسودان الخسارة الأعمق للسودان هي أن حربًا تعتمد على ولاء وجسارة الأفراد لا على مؤسسات الدولة ستظل حربًا هشة، قابلة للانفجار مع كل غياب، وكل مقتل، وكل تبدّل ولاء. هذه هشاشة القيادة تضمن استمرار دورة العنف. ثانيًا - المدنيون… بين الشارع المفقود والمنفى المزدحم إذا كان غياب كيكل يربك المعسكرات المقاتلة، فإن غياب مشروع مدني موحد يربك مستقبل البلد نفسه. الداخل ووضعيته النجاة قبل السياسة المدنيون في الداخل يعيشون اليوم في بيئات منهارة: انعدام أمن شامل، اعتقالات، احتلال مليشياوي للمدن، ونزوح جماعي غير مسبوق. إن لجان المقاومة، التي كانت عماد الثورة، تحولت بفعل ظروف الحرب من أدوات ضغط سياسي إلى خلايا إغاثة وبقاء. لقد ضاع الشارع بين الخوف وغياب دولة تحميه، مما أجبره على خيارات "براغماتية قاسية" اضطرت لجان مقاومة الفاشر إلى حمل السلاح للدفاع عن أحيائها من هجمات الدعم السريع. تبنّت مجموعات شبابية في بورتسودان خطاب "نحن مع الجيش" ليس دعمًا للعسكر، بل بحثًا عن حماية عاجلة من الفوضى المتربصة. هذا التحول يوضح أن أولويات الداخل هي البقاء وليس النقاشات النظرية حول السلمية. المنفى وكيفية استغلاله حرية الكلام… بلا قوة فعل في المقابل، أصبح الخارج مزدحمًا بالسياسيين والناشطين في عواصم المنفى. هذه القوى، رغم صوتها العالي وتعدد بياناتها، تبدو منفصلة عن الواقع الميداني وحاجة المدنيين الملحة للأمن والدفاع.
*هذا الانفصال يترجم في انعدام التأثير العملي: القوى المدنية في الخارج تصدر بيانات وتُعقد مؤتمرات، لكنها تفتقر إلى تأثير حقيقي على مجريات الحرب أو قدرة على توحيد الجبهات الداخلية. الانقسام حول السلمية والدفاع عن النفس: يتمسك تيار رئيسي في المنفى بـ**"السلمية الكاملة"** والمطلقة، رافضاً أي دعم دفاعي للمدنيين بالداخل، حتى في مواجهة التطهير العرقي والعنف الجنسي الممنهج. هذا التباين كشف الفجوة الأخلاقية والسياسية بين من يدفع الثمن يوميًا في الداخل، ومن يمتلك رفاهية الجدل النظري في الخارج. النساء… الوجه الخفي لعمود المواجهة من الأخطاء الكبرى في تحليل اللحظة السودانية هو تجاهل الدور المحوري والمزدوج الذي تلعبه النساء في هذه الحرب. الواقع أنهن—وكما في ثورة ديسمبر—في قلب المأساة وفي صدارة الفعل: العمود الإغاثي: نساء لجان المقاومة والعمل الطوعي في مدن مثل بورتسودان ومدني (قبل سقوطها) يقُدن مبادرات الإغاثة وحفظ نسيج الحياة اليومية في ظل انهيار الدولة. سلاح حرب في دارفور والخرطوم، يُستخدم الاغتصاب كسلاح حرب ضد النساء والفتيات، في أكبر موجة عنف جنسي تشهدها البلاد في تاريخها الحديث. المرأة السودانية اليوم ليست "ضحية" فقط، بل هي "عمود مواجهة وصمود" في بلد بلا دولة، تحمل عبء الحماية الاجتماعية في ظل الفراغ الأمني. المعركة الآن على تعريف المستقبل تتمثل المعضلة الآن في الآتي: كيف تبقى الثورة سلمية في بلد تتحكم فيه المليشيات المسلحة؟ وكيف يمكن للمدنيين أن يحافظوا على جوهر مشروعهم بينما الأرض نفسها تُعاد رسمها بالبندقية؟ الحرب نسفت البيئة التي سمحت للسلمية بأن تكون استراتيجية ناجحة، وحوّلتها إلى مبدأ أخلاقي باهظ التكلفة. ومع غياب قائد مثل كيكل، وارتباك الجيش، وتمدد الدعم السريع، وتشتت المدنيين… يبدو أن السودان يتحرك بسرعة نحو نموذج "البلد المكسور" لا "البلد المتحارب فقط". المعركة الآن ليست على الأرض فقط، بل على تعريف المستقبل. ما لم تتشكل جبهة مدنية موحدة لديها مشروع وطني مركزي، وما لم يُعاد تعريف معنى النضال بين السلمية المطلقة وحق الدفاع عن النفس المنظَّم، فإن كل غياب—سواء كان غياب قائد عسكري أو غياب صوت مدني—سيترك فراغًا تملؤه البنادق لا السياسة. وإذا لم تملأ القوى المدنية هذا الفراغ بالمشروع والوضوح والتنظيم، فستملؤه المليشيات… وسيبقى السودان رهينة لمن يملك أكثر الرجال شراسة، لا أكثر الناس حقًا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة