الذين هاجموا مبادرة فرع الحزب الشيوعي السوداني في عطبرة بتوفير تمويل وخبرة فنية لإنشاء شبكة طاقة شمسية لمحطات المياه، لم يلتقطوا جوهر الفعل السياسي الثوري الكامن في هذه الخطوة. المقال الذي نشره خالد كودي تحت عنوان "لا تغيير جذري في كنف السلطة" ليس سوى قراءة مبتسرة، تفترض أن أي تلامس ميداني مع أجهزة الدولة القائمة هو بالضرورة تطبيع أو تواطؤ، متجاهلة أن العمل الثوري ليس عزلة طهرانية، بل ممارسة مادية لإعادة توزيع السلطة والموارد في قلب المجتمع، حتى من داخل مؤسسات يسيطر عليها الخصم الطبقي.
المقال المذكور حاول بناء حجته على ثلاث ركائز: اتهام الحزب بالتطبيع السياسي والمالي مع سلطة الانقلاب، الزعم بازدواجية المعايير الجهوية، والقول بانعدام مشروع تحرر حقيقي. غير أن هذه الركائز تنهار أمام قراءة جدية للوقائع، وأمام تقاليد الحركة الماركسية التي عرفت عبر تاريخها كيف تحوّل العمل الخدمي إلى منصة للتحريض والتنظيم وبناء الشرعية الثورية.
أول ما تجاهله الكاتب هو أن مبادرة عطبرة لم تكن تفويضاً سياسياً لحكومة بورتسودان ولا دعماً مجانياً لبنيتها، بل كانت فعلاً موجهاً نحو جماهير المدينة، يلبّي حاجة ماسة هي المياه والكهرباء، في ظرف تعمّدت فيه السلطة المركزية ترك الأحياء عطشى كوسيلة إخضاع. حين يوفّر الحزب هذه الخدمة، فهو ينتزع أداة ابتزاز من يد السلطة، ويبرهن للجماهير أن قوتها ومصالحها يمكن أن تُدار خارج جهاز الدولة البيروقراطي الخاضع للعسكر. هذا ليس دعماً للسلطة، بل انتقاص من قدرتها على التحكم بحياة الناس.
التاريخ الثوري مليء بأمثلة مشابهة: في إسبانيا الجمهورية، كانت لجان الدفاع العمالية تنظّم المخابز وتوزيع الغذاء بينما لا تزال بعض البلديات تحت إدارة الدولة الرسمية، ولم يعتبر ذلك تطبيعاً، بل كان توسيعاً لسلطة الثورة على الأرض. في جنوب أفريقيا، خلال الثمانينيات، أدارت اللجان الشعبية خدمات النظافة والمياه في أحياء سويتو بالتوازي مع جهاز بلدي خاضع للأبارتهايد، وكان الهدف حرمان نظام الفصل العنصري من احتكار شرعية الخدمة. غرامشي نفسه أشار إلى أن السيطرة على المجتمع المدني تبدأ حين تنشئ الطبقات المقهورة مؤسسات بديلة، حتى لو اضطرت للعمل مؤقتاً في ظل هيمنة الخصم.
أما تهمة "ازدواجية المعايير" التي ساقها الكاتب، فهي تقوم على مقارنة مضللة بين مبادرة محلية في عطبرة وبين أزمات إنسانية في مناطق الحرب. منطق العمل الجماهيري الثوري لا يقوم على توزيع الموارد بالتساوي الجغرافي الميكانيكي، بل على قدرة التنظيم على الفعل حيث له قواعد ونفوذ ووسائل مادية. الحزب لم يتخلّ عن الهامش، وهو في بياناته ومواقفه ظل من أشد المدافعين عن قضايا دارفور وجبال النوبة، لكن لا يمكن مطالبة فرع محلي بأن يتجاهل أزمته الماسة المباشرة في انتظار حل كل أزمات السودان دفعة واحدة. كما أن العمل في مناطق النزاع له شروط مختلفة، منها الوجود الميداني والأمن اللوجستي، وهي مهام تظل من اختصاص البنية المركزية والتحالفات القاعدية هناك.
ثم إن الزعم بأن هذه المبادرة تكرس "ذهنية النخبة الشمالية" يتجاهل حقيقة أن أزمة المياه في عطبرة ليست رفاهية، بل مسألة بقاء. التيار الكهربائي اللازم لضخ المياه كان يُقطع لأيام، في سياق عقاب جماعي غير معلن، وهذه السياسة ليست مختلفة جوهرياً عن حصار معسكرات النزوح. الفعل الثوري هنا ليس في المفاضلة بين دماء وأعصاب الناس، بل في تفكيك أدوات القهر حيثما وُجدت.
أما الادعاء بأن الحزب الشيوعي "بلا مشروع تحرر"، فهو قلب للوقائع. الحزب، في وثائقه ومؤتمراته، لم يتراجع عن هدف العلمانية، ولا عن مبدأ تقرير المصير، ولا عن تفكيك جهاز الدولة القائم. لكن التكتيك الثوري ليس إنشاد الشعارات في الفراغ، بل استخدام كل فرصة لبناء القوة المادية والتنظيمية اللازمة لفرض هذه الأهداف. لينين في "الدولة والثورة" كان واضحاً بأن تحطيم جهاز الدولة يتطلب أولاً انتزاع إدارة الشؤون اليومية من يد البيروقراطية، وهذا بالضبط ما تعنيه مبادرة عطبرة: ممارسة الإدارة الشعبية لشريان حيوي للحياة، حتى لو تم ذلك عبر قناة مؤسسية شكلية.
التجارب التي أوردها الكاتب كمقارنات فاشلة، من الحزب الشيوعي الفرنسي إلى الإندونيسي، تتعلق جميعها بتحالفات سياسية على مستوى الدولة أو الدخول في حكومات ائتلافية أفرغت البرنامج الثوري من مضمونه. المقارنة مع حالة عطبرة خاطئة منهجياً، فهنا لا يوجد تحالف سياسي ولا مشاركة في سلطة، بل مشروع خدمي ميداني منفذ بالكامل بإرادة الحزب وتمويله وخبراته، يضع الدولة أمام أمر واقع: إما قبول خدمة لا تتحكم هي في مصدرها، أو تحمل تبعات رفضها أمام الناس.
من جهة أخرى، فإن إغفال الكاتب لفكرة "الشرعية الثورية" يضعف تحليله. حين يرى المواطن أن حزبه، لا سلطته، هو من جلب له الماء والكهرباء، فهو ينقل ولاءه المعنوي والسياسي نحو هذا التنظيم. هذا جوهر بناء الهيمنة المضادة كما شرح غرامشي: لا تكفي السيطرة على الشارع بالمظاهرات، بل يجب كسب الثقة عبر إدارة الحياة اليومية. التجارب الناجحة في أمريكا اللاتينية، مثل اللجان البوليفارية في فنزويلا قبل صعود تشافيز، تؤكد أن تقديم الخدمات المقرون بالتحريض السياسي يبني قاعدة صلبة للتغيير الجذري.
الخلاصة أن مبادرة عطبرة ليست "شهادة سوء السلوك الثوري"، بل مثال حي على كيف يمكن للعمل الخدمي أن يتحول إلى فعل سياسي يهز بنية السيطرة، متى كان مرتبطاً بخطاب ثوري وتنظيم قاعدي. المعيار ليس شكل القناة التي يمر بها المشروع، بل مضمونه وأثره على ميزان القوى بين الجماهير والسلطة. الحزب هنا لم يهادن الانقلاب، بل أضعف سلاحه، وربط جماهير المدينة بتنظيمهم الثوري عبر منفعة ملموسة. من يعارض هذه الخطوة إما أنه يخلط بين التكتيك والتحالف، أو أنه أسير لفكرة النقاء الثوري التي جرّت على الحركات اليسارية هزائم متكررة.
كما قال تروتسكي: "الثورة لا تنتظر الظروف المثالية، بل تصنعها من مواد الواقع". الحزب الشيوعي في عطبرة استخدم مادة الواقع – أزمة المياه – ليصنع ظرفاً يفضح عجز السلطة ويفتح باب التنظيم الشعبي. هذا هو المعيار الثوري الحقيقي.
النضال مستمر،،
08-08-2025, 01:12 AM
Omer Abdalla Omer Omer Abdalla Omer
تاريخ التسجيل: 03-02-2004
مجموع المشاركات: 4276
Quote: المقال الذي نشره خالد كودي تحت عنوان "لا تغيير جذري في كنف السلطة" ليس سوى قراءة مبتسرة، تفترض أن أي تلامس ميداني مع أجهزة الدولة القائمة هو بالضرورة تطبيع أو تواطؤ، متجاهلة أن العمل الثوري ليس عزلة طهرانية، بل ممارسة مادية لإعادة توزيع السلطة والموارد في قلب المجتمع، حتى من داخل مؤسسات يسيطر عليها الخصم الطبقي.
غايتو! قالوا البرقص ما بغطي دقنو.. إنتو كونوا شجعان و قولوا نحن نرفض إسقاط النظام القائم ونعمل على دعم الحكومة و سوف لن تغلبنا الحجة و لا يعجزنا التبرير. قولوا نرفض هذه المجهودات التي تعمل على تأسيس جديد سيهد كيان السودان القديم.. أدخلوا الحرب عديل أحسن بدل الفذلكة دي. شايف عندكم مجموعة قالوا هنالك خطأ في لغة البيان سببه الإستعجال و عدم التيار الكهربائي كما حصل خطأ كبير قبل كدا في الميدان إعتذرت عنه! أها يا تو الصحيح؟ ننتظر إعتذار عن البيان و تصحيح إذا كان فعلا خطأ. It is a catch 22 You can fool some people for some times, but you can't fool all the people all the time
08-09-2025, 05:49 AM
Imad Tayeb Imad Tayeb
تاريخ التسجيل: 08-08-2025
مجموع المشاركات: 1
الحزب الشيوعي لم ولن يمد يده لدعم حكومة الانقلاب، وهو ثابت على موقفه المبدئي في إسقاطها ورفض أي تسوية معها. ما جرى في عطبرة ليس خدمة للنظام، بل هو خدمة مباشرة للجماهير عبر توفير حل عملي لأزمة المياه والكهرباء، دون أن يدخل أي تمويل أو دعم في جيوب السلطة أو يقوّي أجهزتها القمعية.
القول إن خدمة الناس تعني دعم النظام هو خلط متعمد بين النقيضين، والتجارب الثورية حول العالم أثبتت أن خدمة الجماهير تحت سلطة قمعية ممكنة دون فقدان البوصلة النضالية. أما التركيز على أخطاء لغوية في البيان فهو تهرّب من صلب القضية، فالمواقف تُقاس بنتائجها السياسية لا بعدد الفواصل.
الحزب اختار أن يبقى في قلب الشارع، ينتزع حقوق الناس ويقدم لهم ما يحسّن حياتهم، بدلاً من تركهم للعطش والظلام والاكتفاء بالتصريحات.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة