يبدو أن بعض كتّاب" كارب قاش "عندنا يؤمنون بأن الحضارة يمكن استيرادها مع الشحن الجوي، أو تُستخرج بتصريح رئاسي، أو تُمنح كهبة كريمة من زعيم عالمي اشتهر أكثر بعدد مطاعم الوجبات السريعة التي يملكها من عدد الكتب التي قرأها. هكذا، وبحماس لا يقل عن حماس بائع متجول في موسم كساد، نقل لنا عثمان ميرغني بشرى تاريخية: الرئيس ترامب اقتنَع—نعم اقتنع!—بأن السودان بلد له حضارة وتاريخ، بعد أن همس له ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بذلك. وكأن حضارة السودان كانت في حاجة إلى شهادة “بحث سلوك” من رجل لا يرى في العالم سوى خريطة صفقات، ولا يعرف من التاريخ إلا ما كُتب على جدران الكازينوهات. ومع ذلك، تحوّل الاقتناع الترامبي إلى فتحٍ حضاري مبين، يستدعي – في رأي عثمان – أن يخاطب السودان العالم من “مدخل الحضارة والتاريخ”، شرط أن يُنتج ذلك بأدوات السينما الحديثة، وبـ«أفضل صورة». وهنا تبدأ المفارقة الكوميدية: أن يُطلب من رجلٍ يمثل نموذجاً لحضارة الهمبرغر والفاصوليا المعلّبة، الرجل الذي تنتمي دولته إلى سجل طويل من إبادة حضارات المايا والإنكا والهنود الحمر، أن يكون شاهداً أو صانعاً أو حتى مقتنعاً بحضارة الآخرين! هو ذاته الذي لم تصدر عن بلاده سوى أفلام الدمار، وألعاب الحروب، ونشرات الأخبار المغموسة في الدم والنزاعات. لكن عثمان، في هذا المشهد، لا يكتب بقدر ما يتسوّل. يتسوّل اعترافاً من بخيلٍ لا يعطي إلا إذا أخذ أضعافه. يتسوّل إعجاباً من إمبراطور لا يرى في الحضارة سوى خلفية تصوير لصفقة سلاح أو إعلان سياسي. كأن لسان حال المقال يقول: “يا سيدي ترامب، نحن عندنا حضارة… صدقني، أقسم لك… بس شوفنا بعين الرضا”. المضحك المبكي أن السودان، الذي يمتد تاريخه آلاف السنين قبل أن تُكتشف أمريكا نفسها، لا يحتاج إلى “إقناع” من ترامب، ولا إلى وساطة من ابن سلمان واموال ال الشيخ، ولا إلى مقال استعطافي يُكتب بروح التلميذ الذي ينتظر تصفيق الأستاذ. الحضارة لا تُستجدى، ولا تُعرض في واجهة سينمائية لإرضاء ذائقة من لا يرى في الثقافة سوى مؤثرات خاصة. إن وهم حضارة ترامب ليس في جهل الرجل وحده، بل في وهم من يظن أن الاعتراف الخارجي هو شهادة الميلاد، وأن الحضارة لا تكون حضارة إلا إذا صادق عليها البيت الأبيض. وهنا تحديداً، يسقط المقال من مقام الفكرة إلى مقام الشحاذة الفكرية: شحاذة عند بخيل، لا يعرف من الكرم سوى كرم الكلمات الفارغة. ولو كان لترامب أن يعترف بشيء، فسيعترف بما يناسبه: النفط، المواقع، الصفقات. أما الحضارة، فهي آخر ما يخطر في بال رجلٍ لا يرى العالم إلا من ثقب البرغر. وهكذا، بين وهم ترامب، وحماسة ال الشيخ، وتسول عثمان، تضيع حضارة السودان الحقيقية… لا لأنها غير موجودة، بل لأن البعض يصر على تقديمها في طبق استرضاء، بدل أن يراها واقفة، شامخة، غير محتاجة لتصديق أحد. ،،،،
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة