في ذروة الكارثة التي يعيشها السودان، ومع احتدام التدهور السياسي والاجتماعي والاقتصادي، تطفو على السطح بين حين وآخر دعوات مشوّهة تفضح خواء أصحابها، وتواطؤهم العميق مع منظومة الانحطاط التاريخي. من بين هذه الدعوات التي تُفصح عن عقلية هزيلة تتكئ على أوهام ما قبل الدولة، أطلت علينا أطروحة المدعو "عمسيب"، المقترحة لما سمّاه "دولة النهر والبحر"، التي يدّعي أن قيامها مبرَّر بحكم أن سكان مناطق نهر النيل، الشمالية، وشرق السودان ينحدرون من سلالة العباس بن عبد المطلب، عم النبي محمد ﷺ، وكأن الدولة الحديثة تُبنى على وثائق الأنساب لا على عقود المواطنة والحقوق. هذه الدعوة، التي قد تبدو للوهلة الأولى مجرد عبث لغوي أو نزعة فولكلورية، وقشرة هشة تغلّف تصوّراً سلالياً متخلفاً، يتناقض جوهرياً مع الدولة الوطنية الحديثة، ومع كل ما راكمته البشرية من وعي سياسي وأخلاقي ومعرفي خلال القرون الثلاثة الأخيرة. إن ما يدعو إليه عمسيب ليس إلا ارتداداً إلى منطق عصبوي تجاوزه العالم منذ أن كتب فولتير عن التنوير (1764) في قاموسه الفلسفي الذي هاجم فيه الاستبداد والتعصب، وجان جاك روسو عن الإرادة العامة في "العقد الاجتماعي" (1762) بوصفها مصدر السيادة الشعبية، وكانط عن الاستقلال الأخلاقي للعقل في "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" (1785)، وهيغل عن الروح المطلقة في "فينومينولوجيا الروح" (1807)، وماركس عن تحطيم البنية الطبقية وتاريخ الصراع الاجتماعي في "البيان الشيوعي" (1848)، مروراً ببندكت أندرسون في كتابه "الجماعات المتخيلة" (1983) الذي كشف عن أن الأمة كيان متخيّل لا أساس له في العرق بل في الثقافة والمواطنة، وإرنست غيلنر في "الأمم والقومية" (1983) الذي أكد أن القومية نتاج التحديث الصناعي والتعليم الرسمي لا النسب أو الدم- هذا وناهيك عن الفكر القومي العربي التقدمي حتي.
وفي زمن كانت فيه أوروبا تبرر خطابها الاستعماري بشعارات "العبء الحضاري" أو تفوق العرق الأبيض، كانت على الأقل تُنتج الفكر والآلة والفنون والعلوم. فخلال فترة قصيرة نسبياً، اخترع جيمس وات المحرك البخاري عام 1769، مما فتح الباب أمام الثورة الصناعية، وأسّس إسحاق نيوتن لقوانين الحركة والجاذبية في "المبادئ الرياضية" عام 1687، وقدم تشارلز داروين نظرية التطور في كتابه "أصل الأنواع" (1859)، وكان لويس باستور يضع اللبنات الأولى لعلم البكتيريا ويبتكر أولى اللقاحات ضد داء الكلب والكوليرا خلال خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر، واكتشف إدوارد جينر أول لقاح ناجح للجدري عام 1796، وأعاد ألبرت أينشتاين تعريف مفاهيم الزمان والمكان من خلال النظرية النسبية الخاصة عام 1905 أما في الفلسفة، فقد دافع ديفيد هيوم في "مقال في الفهم الإنساني" (1748) عن العقل النقدي والتجريبية، وكتب نيتشه عن موت الإله وتحرر الإنسان من الأوهام في "هكذا تكلم زرادشت" (1883-1888)، وحرّر فوكو الخطاب من السلطة المعرفية في "أركيولوجيا المعرفة" (1969). وفي الاقتصاد، وضع آدم سميث أسس الاقتصاد الليبرالي في كتابه "ثروة الأمم" (1776)، ليرد عليه كارل ماركس لاحقاً في "رأس المال" (1867)، مفسّراً العلاقة بين رأس المال والعمل والسلطة. وفي الأنثروبولوجيا، أعاد كلود ليفي-شتراوس في "الأنثروبولوجيا البنيوية" (1958) تعريف البنية الثقافية، أما في علم الاجتماع فقد بلور إميل دوركايم (1858–1917) مفاهيم التضامن العضوي والميكانيكي... وفي المعمار، شيّد كريستوفر رن كاتدرائية سانت بول بين عامي 1675 و1710، وأعاد فرانك لويد رايت تعريف المسكن الحديث في الولايات المتحدة في بدايات القرن العشرين من خلال مفهوم "بيت البراري"، بينما أبدع إيتالو كالفينو في بناء مدن خيالية تستند إلى الفلسفة في روايته "المدن غير المرئية" (1972). أما في الموسيقى، فقد أرسى باخ (1685-1750) أسس الكونترابُوينت، وابتكر موزارت (1756-1791) تقنيات جديدة في الأوبرا، وحرّر بيتهوفن (1770-1827) السيمفونية من القوالب الأرستقراطية إلى التعبير الذاتي البطولي. وفي الرسم، جاء رامبرانت في القرن السابع عشر يرسم الظلال العميقة للإنسان، وبيكاسو في القرن العشرين يكسر المنظور الأكاديمي (بالكوبزم)....
كل هذا الإنتاج الحضاري الهائل، ورغم ما رافقه من قسوة استعمارية، كان على الأقل مشفوعاً بجدارة معرفية ومادية دفعت بالبشرية إلى الأمام. أما نحن أمام عمسيب، فبماذا نواجه؟ لا فلسفة، لا فكر، لا مؤسسات، لا إنتاج معرفي، لا علوم، لا فن، لا معمار، لا نظرية. أقصى ما أنتجته هذه المدرسة هو ورقة نسب باهتة، وفقه بدائي في تملك الأرض، وتحالفات مع شبكات النهب والفساد... لو مات عمسيب اليوم كل مايمثل بنسبه العباسي، فلن تذكره مكتبة، ولن تنعاه جامعة، ولن يسمَّى شارع او طفل باسمه، ولن يبكي عليه كتاب أو مختبر أو مشروع. وإذا ذُكر، فسيُذكر في باب السخرية او الحكايات السخيفة التي تُروى في أزمنة الفاقة الفكرية وانحطاط العجز. دعوة عمسيب، في جوهرها، لا تطرح رؤية لبناء دولة، بل تُعيد تدوير أسوأ ما في التراث من خرافات. هي محاولة فاشلة لصناعة هوية عرقية مصطنعة، تستبدل العقد الاجتماعي بالعصبية، والتخطيط العقلاني بالاستعلاء السلالي، وتقدح في فكرة السودان كدولة لجميع مواطنيه بجهل وتخلف.
حتى دولة بني العباس، التي يُفترض أن عمسيب ينهل من عظمتها المتخيلة، لم تكن سوى واحدة من أكثر الدول الإسلامية مركزية واستبداداً، اتخذت الدين ستاراً للتوسع والسيطرة، بينما مارست أبشع أشكال الإقصاء والبطش السياسي. فمنذ لحظة تأسيسها بعد انقلاب دموي على الدولة الأموية عام 750م، بدأت الخلافة العباسية حكمها بمجازر جماعية ضد خصومها، وعلى رأسهم الأمويون في المجزرة الشهيرة في نهر أبي فُطْرُس. لم تكن دولة العباسيين دولة عدل وازدهار كما تُصورها كتب التمجيد، بل كانت نموذجاً للاستبداد المركزي، حيث تم اغتيال الخلفاء أنفسهم في صراعات القصر (كما في حالات الأمين والمعتز)، وأُقيمت دولة تحكمها الصراعات بين الحاشية التركية، والفرس، والعلويين، والمماليك، مما أدى إلى فقدان وحدة الدولة تدريجياً... اقتصادياً، لم تقدّم الدولة العباسية نموذجاً إنتاجياً مستداماً. كان اقتصادها قائماً على الجباية الثقيلة من الفلاحين، والاعتماد على الرقيق والخراج، دون أي مشاريع تنموية واسعة النطاق. عاشت بغداد، عاصمة الخلافة، على التناقض بين بذخ القصور وانهيار البنى التحتية في الأطراف، ولم تُعرف بمدارس علمية مؤسسية منظمة إلا في مراحل لاحقة بدفع من وزراء مثل نظام الملك السَلْجوقي، لا من الخلفاء أنفسهم.
أما من الناحية الأخلاقية، فقد شهد البلاط العباسي انحطاطاً مدوناً في كتب الأدب العربي نفسها، من قصص الجواري والغلمان، ومجالس المجون بعد ان يلعب الخمر بالرؤوس، إلى اغتيال الأقرباء والوزراء، ومنهم البرامكة الذين أُبيدوا رغم أنهم مؤسسو الدولة فعلياً. ولم تكن فكرة التداول السلمي للسلطة معروفة، بل كانت كل ولاية عهد تُحسم بالدم. وخلافاً لما يُروَّج عن بيت الحكمة والنهضة العلمية في عهد المأمون، فإن تلك المشاريع كانت محصورة في النخب ومعزولة عن عامة الناس، كما أنها اعتمدت على الترجمات من الحضارة اليونانية والفارسية والهندية دون إنتاج فلسفي أصيل مستدام. وقد توقف ذلك المد سريعاً بانقلاب المزاج الديني في عهد المتوكل وما تلاه، حيث عادت العقلانية للانحسار وسيطر الخطاب النقلي والسلفي البائس. سقطت الدولة العباسية أخلاقيا وفعلياً قبل سقوطها العسكري، إذ انكمشت من دولة واسعة إلى ظل فارغ في بغداد، ثم اجتاحها المغول عام 1258م بسهولة مذهلة، بعدما فرّ الجنود والولاة، ولم تبكِها الجماهير. ولم تكن تلك النهاية نتيجة خيانة وحسب، بل نتيجة تراكم قرون من الاستبداد، والفساد، والانفصال عن واقع الناس، وتقديس النسب على حساب الكفاءة والعدل- النسب الذي يريد عمسيب ان يلهم به السودانيين في القرن الواحد والعشرين!
ثانياً: الدولة الحديثة لا تُبنى على الدم والنسب بل على العقد الاجتماعي والمواطنة: إن جوهر الدولة الحديثة هو التعاقد بين مواطنين أحرار، لا علاقة الدم والنسب، ولا الانتماء الإثني المبني علي العرق. كما أوضح جون لوك في كتابه "مقالتان في الحكومة" (1690) وروسو في "العقد الاجتماعي" (1762)، فالعقد الاجتماعي هو الأساس الشرعي الذي ينبثق منه الحق السياسي، وليس شجرة النسب- أي نسب واياك الن مصدرها. إيمانويل كانط في "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" (1785) شدد على ضرورة إخضاع الدولة للعقل والمبادئ الأخلاقية العامة، لا لتاريخ العائلات والأنساب. وقد أشار بنديكت أندرسن في "الجماعات المتخيلة" (1983) إلى أن الأمة الحديثة ليست كيانًا بيولوجيًا، بل تخييل مشترك يصنعه التعليم، اللغة، والإعلام، ويتأسس على المبادئ المدنية الحديثة. كما شدد إرنست غيلنر في "الأمم والقومية" (1983) على أن القومية هي نتاج الحداثة الصناعية، لا رابطة الدم، وأنها تنشأ عندما تفرض الدولة التعليم الموحد وتخلق سوقاً وطنية، وعمسيب هذا عايز يرجعنا الي القرون الوسطي! أكد جون راولز في "نظرية في العدالة" (1971) أن أسس الدولة العادلة تقوم على مبدأ الإنصاف والمساواة في توزيع الفرص، وليس على الأنساب أو الانتماءات القبلية. وكتب حنة أرندت في "أصول التوتاليتارية" (1951) أن تحلل الدولة الحديثة يبدأ عندما يُستبدل مفهوم المواطنة بمنطق الانتماء العرقي، وهذا بالظبط مايفسر حروب السودان وطبيعتها. التجربة السودانية نفسها أظهرت أن التعدد الإثني والثقافي هو جزء من البنية التكوينية للدولة، وأن محاولات القفز فوق هذا الواقع كانت دائمًا سببًا في الانهيارات الكبرى. إن إعادة إنتاج خطاب سلالي اليوم تحت مسمى دولة "النهر والبحر"، يعيدنا إلى لحظة تصور الدولة السودانية القديمة بما تحمله من إقصاء وتهميش، بدلًا من أن يدفعنا نحو تأسيس جديد يرتكز على المساواة والاعتراف والعدالة التاريخية.
ثالثاً: التشابه المظلم مع التجارب الاستعمارية والنازية والفاشية: ما يدعو إليه عمسيب ليس مجرد هذيان فردي، بل يحمل أصداءً بائسة من تجارب فاشلة عرفها العالم في القرن العشرين، بدءًا من صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وصولًا إلى الطغيان الفاشي والنازي. في ثلاثينيات القرن الماضي، رفع الرايخ الثالث شعار "النقاء العرقي" كأساس للانتماء الألماني، مفضيًا في نهاية المطاف إلى أوشفيتز وغرف الغاز وملايين الضحايا الأبرياء. حينها، كانت ألمانيا تحتضن أعلام الفلسفة والعلم من أمثال مارتن هايدغر (1889–1976)، الذي رغم عبقريته سقط في فخ تأييد النظام النازي، بينما كان فيرنر هايزنبرغ (1901–1976) يطور ميكانيكا الكم، وآينشتاين يكتب رسائل الهروب من جنون العرق، وغوته لا يزال حيًّا في ضمير أوروبا الثقافي. وفي يوغوسلافيا، تحولت السردية العرقية إلى جحيم دموي حين استخدم الصرب الهويات الإثنية والدينية ذريعة للإبادة الجماعية في البوسنة خلال التسعينيات، وسط عالم بدأ يدرك خطورة تلك الهويات القاتلة .
كل هذه الكوارث بدأت بخرافة عن الدم، وانتهت بمقابر جماعية. واليوم، وسط هذا الإرث الكوني من الفشل العرقي، ينبعث صوت عمسيب ليمجد خرافة النسب العباسي، دون أن يسأل نفسه: هل بنى العباسيون يومًا دولة عادلة؟ هل خلفوا منظومة معرفية تُقاس بما أنجزه الأندلسيون أو الفاطميون؟ بل إن دولتهم قامت على الغدر بأبناء العم، ونُكّل فيها بالفكر والعلم، وتم فيها اضطهاد المعتزلة والفلاسفة من أمثال ابن الراوندي والسهروردي، الذين كانوا أكثر إنسانية من خلفائهم القتلة. دعوة عمسيب تُعيد إلى أذهاننا شبح تلك الحقبة المظلمة. من النازية، إلى تطهير الصرب، إلى نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، كل تلك الأنظمة ابتدأت بحديث عن الأصل النقي، وانتهت بحمم الكراهية والعنف. الفرق الوحيد أن أولئك الديكتاتوريين وصلوا إلى أفكارهم وهم في ذروة الإنتاج الصناعي والفلسفي، بينما عمسيب ياعيني، لا يملك سوى خيال بدائي وفقر مدقع في التفكير.
رابعاً: السودان دولة متعددة/ مركبة لا تقبل التنميط: إن محاولات تصنيف السودان ضمن ثنائيات ميكانيكية ساذجة كـ"عربي/أفريقي" أو "عباسي/غير عباسي" لا تصمد أمام التحليل العلمي أو التاريخي. مئات الدراسات في التأريخ السوداني اثبتت إن السودان عرف منذ آلاف السنين موجات متعاقبة من الهجرات والتداخلات الثقافية والعرقية التي شكّلت نسيجه المعقد والمتنوع. بل إن كتابات هؤلاء الباحثين تشهد على أن السودان لم يعرف يومًا لحظة "صفاء عرقي"، لأن صفاء كهذا لم يكن حتى موجودًا في جينات المخلوقات المجهرية وعندما ننتقل إلى علم الجينات الحديث، نجد أن فكرة النقاء العرقي تنهار أمام الحقائق البيولوجية؛ فالبشرية كلها متداخلة السلالات، وما يُسمى بـ"العرق" هو بناء اجتماعي وثقافي لا بيولوجي. أبحاث الجينوم البشري التي ظهرت منذ مشروع الجينوم البشري في عام 2003، أثبتت أن التنوع الجيني داخل ما يُعتبر "عرقًا واحدًا" يفوق أحيانًا الاختلاف بين الأعراق المختلفة. ولم يعد هناك أي مجال علمي يقر بإمكانية تصنيف البشر عرقيًا دون الوقوع في الفضيحة الأكاديمية. لكن عمسيب، الذي يخطط لدولته من فوق "فُرش الجامع"، يرفض هذه العلوم، ربما لأنها لم تُذكر في كتب مثل مورد اللطافة فيمن ولي السلطنة والخلافة ، أو لم تُروَ في مجالس الحَكَم الشعبي. في عالمه، يكفي أن تكون سلالتك مكتوبة بخط الرقعة على ورق مذهب لتصير مالكًا للأرض. وربما يكفيك أن تقول "أنا عباسي"، لتتحول من متسكع وجهلول سياسي إلى خليفة يُنتظر بيعة بلهاء الاسافير السودانية.
خامساً: نحو مشروع بديل – دولة المواطنة لا دولة القبيلة: إن اللحظة السودانية الراهنة تتطلب فكرًا جديدًا لا يعيد إنتاج بؤس الماضي، بل يبني على التراكمات النضالية والتاريخية لشعوب السودان المتعددة. هذا المشروع البديل يجب أن يرتكز على أربعة أعمدة جوهرية: • المساواة الكاملة بين المواطنين أمام القانون والمؤسسات. • الوحدة، والاعتراف الدستوري بالتعدد الإثني والثقافي. • العلمانية، فصل الدين والعرق عن بنية الدولة، وحق تقرير المصير. • تحقيق العدالة التاريخية للمناطق التي عانت التهميش والاستغلال فرانز فانون (1925–1961)، المفكر الثوري والطبيب النفسي، كتب في "معذبو الأرض" أن الثورة الحقيقية لا تعني استبدال طغاة، بل قطيعة جذرية مع البنية الاستعمارية. وهذا هو بالضبط ما يتجاهله عمسيب: أنه يعيد إنتاج الطغيان القديم في قالب عباسي مزوق، لا جديد فيه سوى الضحالة. ما يحتاجه السودان ليس مزيدًا من الخرائط المرسومة على أساس عدد السجدات في الصلاة، أو عدد الأحفاد المنسوبين إلى العباس أو أبي جهل، بل مشروع وطني مدني، قائم على عقد اجتماعي جديد، يكرّم الإنسان بوصفه مواطنًا لا بوصفه حاملًا لشجرة نسب ما. مشروع عمسيب ليس إلا إعادة تدوير للهوس الاثني في شكل دولة. دولة قوامها الأوهام، وملهموها مجموعة من العاطلين عن الإنتاج، لا يملكون سوى التباهي بصكوك النسب، بينما لا يملكون براءة اختراع واحدة، ولا أطروحة علمية معتمدة، ولا حتى فكرة تنموية واحدة. إنهم مثل من يحاول بناء صاروخ باستخدام طين وخرافة، ويتوقع أن يصل إلى المريخ، بينما بالكاد يدرك شكل الكرة الأرضية.
خاتمة: الخرائط لا تُرسم على أوراق النسب، بل على تعاقد العقول والأرواح: دعوة عمسيب لتأسيس كيان عرقي ليست سوى صدى أجوف لخطابات أكل عليها الدهر وشرب، تُكرّر بؤس الفاشية وتُعيد تدوير فشل الأبارتهايد، لكنها هذه المرة تأتي من على منصة واهية، يقف عليها من يخلط بين خريطة الوطن ومخطط توزيع المواريث. السودان ليس أرضًا بلا شعب ولاتاريخ، ولا مرعى لقبائل تبحث عن مجد مفقود، وتاريخ السودان لم يبدا بدخولالقرشيين ولا العباسيين ولا المسلمين ولا الإسلام حتي (وهذا حديث اخر). السودان وطن تاريخي متجذر، تنبض تربته بأقدام النوبة، والبجا، والفور، والزغاوة، والدينكا، والمساليت، والأنقسنا... وغيرهم من الشعوب الأصيلة التي صنعت تاريخه قبل أن يُولد أي عمسيب او بني عباس او بني ابوجهل ... لن يُحوَّل أيا كان سكان السودان إلى "هنود حمر" يجُردوا من وطنهم، ولا إلى "أبوروجينال" ليطُمسوا باسم حضارة مزعومة. فالشعوب السودانية لن تقبل بإعادة إنتاج الاستعمار هذه المرة بزي قبلي وبحجة النسب.
ولمن يدّعي المجد العباسي، نقول له: العباسيون – رغم تاريخهم الدموي – كانوا في الجزيرة العربية، في بغداد، في خراسان، ولم يكونوا يومًا في كجبار أو سنكات أو القضارف. فليعد عمسيب وقبيلته إلى موطنهم الأصلي إن شاءوا إقامة دولة عباسية. أما السودان، فله أهله، وله تاريخه، وله مستقبله، ولا يُؤسس على دفتر أنساب، بل على عقد اجتماعي يحترم الجميع الدولة الحديثة لا تعترف بالنسب، بل بالقانون؛ لا تُبنى على القبيلة، بل على المواطنة؛ لا تعترف بالمجد الموروث، بل بالإنتاج والمساهمة. فكما قال جون لوك وروسو، الدولة هي تعاقد بين أفراد أحرار، لا امتداد لسلالة. وكما أشار بندكت أندرسون، الأمة الحديثة خيال سياسي لا نسب بيولوجي. السودان، لن يُرتهن لجموح قبلي، ولا لفانتازيا نَسَبية. السودان مشروع حديث، علماني ديمقراطي مدني، عادل، تعددي، يحتفي بالتنوع، ويكفل الحقوق لا الامتيازات الوراثية. الدولة التي نحلم بها لا مكان فيها لأمراء العرق، بل لمواطني العقل وإذا كانت هذه بداية حلم عمسيب، فنهايته ستكون من علي ظهر بعير اجرب، و على الأرجح جمهورية "الخور والترعة المتحدة"، بلا دستور، بلا كهرباء، وبلا معنى – فقط دفاتر أنساب، ومزامير من الخرافة، وجوقة من المصفقين للماضي فالخلاصة: هذا الوطن لن يُختزل في نسب، ولن يُرهن لخيال من لا يعرف الفرق بين الدولة وتصفح المستطرف في كل فن مستظرف...
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة