"الجوع الكافر ينهش في أعماق مدينتنا الإنسان". ما زلت أذكر، ونحن نتخبط في عتمة سنوات التمدرس، ذلك المعلّم النابه اسمه فرّ من الذاكرة، لكن ظله بقي في الوجدان، كان يردّد بلا كلل أن الشعب السوداني يعاني من جوعٍ علمي. يومها كنّا نبتسم ابتسامة غبية لا تفهم من “العلم”، سوى كراسات بلون اللبن توزع لنا مجاناً، تأتي فيها كلمة تربية قبل التعليم، وكتاب انيق التصميم تتصدر مقدمة غلافه كلمة "الكشكول"، وسبّورة مشروخة و"بشاورة"، من اتساخها تكاد تنفر منها اليد. لم ندرك أن الرجل كان يقرأ مستقبلنا كما تُقرأ الفاتحة على جسد لم "يُبّردْ" بعد.
كان جوعنا يومها جوع معرفة وتعلم. أما اليوم فقد أصبح جوع حياة. قبل أن يجتاحنا طوفان الجراد الملتحي، ذاك الجراد الذي لا يشبع مهما التهم من قوت الفقراء والمسحوقين. كان السوداني، رغم ضنك الحال، يجد ما يسد به رمقه. إفطار في العاشرة صباحا، غداء توقيته محفوظ في الذاكرة تبدأ "اللقمة" الأولى مع بداية موسيقى برنامج "عالم الرياضة"، الشهير، وعشاء لا يُسقطه إلا من قرر النوم على خصام مع نفسه، أو لتخمة يخاف عواقبها. كنا نشتكي من رتابة الوجبات، من غياب التنويع، من كثرة الفول، والعدس، وملاح القرع، والبطاطس، وضيق الخيارات… ولم نكن نعلم أن الزمن يخبّئ لنا ما يجعل تلك الرتابة حلماً فاخراً.
لم يكن في تصورنا، حتى حين استدعاء كوابيس “سنة ستة”، أن يقف السوداني مصطفّاً أمام “حلّة التكيّة” ينتظر نصيبه من البليلة العدسية. ولم يداعب خيالنا في اكثر لحظاته جموحاً أن يكون الإنسان السوداني مضطراً ليأكل “الأمباز”، وصفق الأشجار ولحائها، أو يمضغ جلود الماشية لعلّها تخدعه بشيء من البروتين الوهمي. من كان يتوقّع أن نصبح في القرن الحادي والعشرين مادةً لفصول التاريخ عن المجاعات، وكأن الزمن قرّر أن يصفعنا بيده الباردة ويعيدنا إلى أسوأ ما عرفناه من لحظات قاتمة؟
هذه هي المأساة في أبشع تجلياتها وضوحا، أن تصبح عزة الإنسان نفسها مادة للصدقة، وأن تتحوّل الحياة إلى طابور ذلة. لهذا رفعنا أصواتنا ضد الحرب منذ اللحظة الأولى. صرخنا حتى بحّت حناجرنا: لا للحرب، نعم للسلام، كفى دماء. لكن شهوة الخراب لدى تجار الدين والسلطة لا تُشبع. هؤلاء لا يستنشقون الهواء إلا ممزوجاً بالدم، ولا يعرفون معنى الحياة إلا عندما يرون الآخرين يفقدونها.
لكن، رغم كل شيء، سيجيء ذلك اليوم. سيستفيق الشعب من غفوته المجبَرة، وسيرفع صوته لا طلباً للغوث بل لإعلان النهاية: نهاية الفوضى، نهاية الوصاية، نهاية العصابات التي تدّعي القداسة فيما أصلها النجس قادم من وراء الحدود. سيستعيد الشعب دولته عبر عقد اجتماعي لا يكتب بالحبر، بل بإرادةٍ تُقطع بها يد الفساد، وتُفتح بها أبواب المستقبل لمن يستحقه. فالجوع الحقيقي ليس جوع البطون…الجوع الحقيقي هو جوع الكرامة، جوع الوطن، جوع الإنسان إلى أن يعيش كإنسان أو لا شيء على الإطلاق.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة