سَد النَّهضة: المشْرُوع أم المَشْرُوعية (إشكالات منهجية ومؤسسية) دراسة إجتماعية - سياسية ونظرة جي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 02:53 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-11-2020, 10:31 PM

الوليد ادم مادبو
<aالوليد ادم مادبو
تاريخ التسجيل: 10-26-2013
مجموع المشاركات: 80

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
سَد النَّهضة: المشْرُوع أم المَشْرُوعية (إشكالات منهجية ومؤسسية) دراسة إجتماعية - سياسية ونظرة جي

    10:31 PM May, 11 2020

    سودانيز اون لاين
    الوليد ادم مادبو-السودان
    مكتبتى
    رابط مختصر




    سَد النَّهضة: المشْرُوع أم المَشْرُوعية
    (إشكالات منهجية ومؤسسية)

    دراسة إجتماعية - سياسية
    ونظرة جيو- إستراتيجية

    أعدها
    د. الوليد آدم مادبو
    خبير الحِكمانية ومستشار التنمية العالمية
    الرئيس المؤسس لمنصة السياسات التنموية

    "إرادة القوة، أن تكون للإنسان غايات وأهداف ومقاصد"
    فردريك نيشه

    مستهل التقرير:
    ظلت إثيوبيا تتنقل بين خانتي الممانعة غير المنطقية والاستجابة اللحظية حتي أربكت حسابات دولتي المصب، وجعلتهما تتخذان من التفاصيل الفنية والهندسية وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، كثيراً ما كانت تجرفهما بعيداً عن مجرد التفكير في أمر السيادة الوطنية. لقد ظلت إثيوبيا تراوغ حتي وجدت نفسها مُرغمةً على الاستجابة لموجهات الهيئات العلمية والعالمية التي قضت بضرورة الاستعانة بمكتب إستشاري يلزمه النظر فيما تقدمه الدول الثلاث من مستندات، أي أن يقوم بدور المُحَكَّم. وعندما أقر المكتب الاستشاري الفرنسي في تقريره الاستهلالي بضرورة إجراء دراسة فنية، رفضت إثيوبيا بحجة أنه تدخل في أمر سيادتها الوطنية. أيَّ سيادة وطنية هذه التي تَدَّعيها إثيوبيا وهي تشيد صرحاً كهذا في ارضٍ سودانيةٍ تاريخاً وحضارةً ونضالاً وفكراً وموروثاً؟
    لقد استغلت إثيوبيا انعدام الثقة بين القيادات السياسية لدولتي المصب، وضعف التنسيق بين شعبيهما، وإنعدام الرؤية الاستراتيجية عند كليهما فيما يخصُ الشأن الإفريقي، فغدت تُعَوِّل علي إحداث الفُرقة بين دولتي المصب، حتي أصبحت إحداهما شريكاً (مصر) والأخرى وسيطاً (السودان)، فكان أن أحدثت اختراقاً جعلها تظفرُ بالموقف لولا أن انبرى لها نفر من العلماء الغيورين من كافة أقطار العالم فبيَّنوا هشاشة موقفها الرافضِ لتقديم دراسة فنية متكاملة، وفضحوا موقفها المتعنت في شأن الوساطة السياسية، ذلك الموقف المكابر، المغالي، والمجافي، والمعِرض عن مجرد الإشارة إلى أي موضوع يتعلق بملكية الأرض، ذلك أن الحكوماتِ السودانيةَ وقعت في الشرك (أو المطب)، إذ ناقشت جدوي المشروع الاقتصادية عوضاً عن التفكر في مشروعيته السياسية. الملاحظُ أن كل السدود في إثيوبيا تسمّى بأسماء أقاليمها، ما عدا هذا السد سمّى "سدَ النهضة" إمعاناً في التزوير وحجباً لأحقية بني شنقول في ملكية الأرض. يستهين الأثيوبيون بالسودانيين هذه الأيام إلي درجة تجعلهم يصرحون بأنهم سيشيّدون ميناءً في أرض سودانية. هل يا تُرى سيسمونها ميناء أكسوم (أم) ميناء أبي سينيا؟
    هذه الورقةُ تسعي لمعالجة هذا الخطأ المفاهيمي وذاك الإجرائي، كما لا تُغْفِلُ الجانبين الفني والمهني، بمحاولتها التعرضَ لتاريخ الشعوب التي قطنت هذه الأرض ولم تغير ولاءها رغم الحيفِ الذي أصابها من الحكومات الوطنية السودانية. ولا غرابة، فهؤلاء أحفاد ملوك سلطنة الفونج الذين لا تُعْوِزهُم عزةٌ ولا يغريهم اعترافٌ من أحد. كل ما يطلبونه هو عدم استخدام السياسيين لقضيتهم كمُسَوَّدة لإحداث توازنات سياسية/اجتماعية ربما تضحي بالشأن السيادي الوطني. والمرء في مثل هذه المواقف لا يعذر بجهله إذا ما كان مشتطاً ولا يثاب بعلمه إذا ما كان معتداً، يغمط الأدلةَ والبراهينَ حقها في سبيل الإنتصار لحجته (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (19) صدق الله العظيم.

    غياب ديار بني شنقول عن مَخْيلَة الرعيل الأول:
    قبل تعرضي للحقائق الهندسية والعملية، وراء "سدِ النهضة" وتبياني أنها واهية في أحسن تقدير وخاطئة علي أسوأ تقدير، يلزمني أن أشرح للقارئ الدوافع السياسية والاجتماعية التي جعلت إثيوبيا تُقدم علي هذه المغامرة. إثيوبيا دولة مأهولة بالسكان (120 مليون)، محدودة المصادر تمتاز ، بأحادية جغرافية إذ يبعد سهلها المثمر على تخوم السودان (دار بني شنقول) عن عمقها الجبلي المُجْدِب، مما جعل قادتها عبر التاريخ يتبعون سياسةً توسعيةً لا يعتمدون فيها علي المدافعة قدر اعتمادهم على الملاطفة، سِيما مع السودان لأنهم يعرفون قدرة أهله على التصدي حالما يكونون متحدين، مستبصرين وموقنين بحقائق التاريخ.
    إن إهمال الرعيل الأول لقضايا الهامش كان سببه الانشغال الذي أثر سلباً في قدرتهم على ترتيب الأوليات وإنكار حقوق الأقليات؛ أما الأجيال التي عقبت فمنها من أضاع الإحداثية، لجهله بعاملي الجغرافيا والتاريخ، ومنهم من امتهن السياسة وسيلة للارتزاق الذى دفعه تدريجياً نحو الخيانة وتغليب مصلحة دولة أجنبية على مصالح بلده.
    إذا ما استعرضنا جغرافية المنطقة على عُجالة، فإن ديار بني شنقول تمثل شريطاً حدودياً عرضه 250-300 كيلو متر داخل الحدودِ السودانية، مُبْتَدَأُها من (الجِكو) حتي حدود إرتريا. لقد حاز الإثيوبيون هذه المنطقة بسبب إهمال السودانيين، وعدم إدراجهم لكل القضايا الحدودية في بنود التفاوض مع المستعمر البريطاني. ومن جاءوا لاحقاً تقلدوا دعاوى آيدولوجية لم تبرح أن أدخلتهم في خضم الصراع المحمومِ بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، فتسبب إنحيازُهم إلى الكتلةِ الشرقية في دعم الغرب لإثيوبيا التي لم تتوان مذئذ في سحب بساط الريادة تدريجياً من تحت أقدام السودانيين.
    ننوه القارئ إلى أن إثيوبيا لا تزدهر إلاَّ في لحظات الاضمحلال بالسودان والذي بدأ بتلبس النميري أوهام "الدولة الدينية" وخضوعِه لموجهات فئةٍ ضالة نَحَت بالسودان منحىً أفقده وجهته الحضارية وأضاع هُويته دونما مبرر، فالاعتزاز بالهُوية العربية الإسلامية أو الإفريقية المسيحية لا يستلزم مطلقاً انسلاخ المرء عن جلدته وتخليه عن موروثه ومرتكز اعتزازه. على النقيض؛ فالحضارة الإسلامية اكتسبت مِنعتها بالقدرة على إحداث التدامج بين الثقافات المختلفة. الشاهد في الأمر، أن تلك كانت لحظةً ابتهلتها إثيوبيا للمطالبة بنقل الاتحاد الإفريقي من الخرطوم إلى أديس أبابا، التي لم تكن حينها غير أرضٍ جبليةٍ تفترشها بيوت الصفيح، تفتقر إلي أبسط مقومات الحياة، وتعاني من انعدام طبقة وسطى يمكن أن تكون نواة للمدنية وتسهم في انتعاش المؤسسات الديمقراطية المدنية.
    لم يمض عقدان من الزمان حتي انقلب الحال، فأصبحت هذه صورة السودان، بعد أن أُهين العلماءُ، وهُجِّر النجباء، واحتكر الإنقاذيون الأقتصاد والتجارة وهيمنوا علي الفضاء العمومي بأكمله، مما تسبب في هجرة رأسِ المال، ولجوء التجار، صغارهم وكبارهم، إلى تهريب البضائع، والمحاصيل، والثروة الحيوانية لدول الجوار. والمضحك المبكي، أنك تجد إثيوبيا مدرجةً كواحدةٍ من أهم المصدرين للصمغ العربي، وهذا محصولٌ هي لا تنتجهُ أصلاً، لكنه سوءُ السياسات الذي أرغم المنتجين على تهريب بضاعتهم عبر الحدود. ليس هذا فقط، بل إنَّ المستثمرين الأجانب الذين كانت وجهتهم الطبيعية السودان، لجأوا إلى إثيوبيا. هذا تنافسٌ مشروعُ وإن كان غيرَ متكافئ، أمَّا محاولتُهم تزويرَ الخرائط والتطاولَ علي حقوق الآخرين فأمرٌ دونه خرط القتاد.
    باقتصارهم الحديثَ عن السد علي مناحي فنية صِرفة، فإن السياسيين السودانيين يرتكبون خطأ جسيماً، يتبدي في تمثلهم للأرض وكأنما هي مُسطح هندسيٌ يخلو من التضاريس الثقافية والوجدانية، والوديان الاجتماعية والإنسانية، علماً أنَّه وادٍ يعتمل في عُمقه عبقٌ وإرثٌ لشعب يُعتبر من أعرق شعوب الأرض قاطبةً، إن لم يكن من أغناها إرثاً وأجملها معنىً. بمحاولتهم بناء سدٍ في قلب بُومْبُدي (مَحلية قُبا)، التي تُعتبر ُعاصمة دولة الفونج (منطقة حمدان أبو شوك)، فإنَّ الإثيوبيين لا يكرسّون فقط لسلطة سياسية/عسكرية، وقد نجحوا في التمدد عرضاً والولوج إلي العُمق قسراً وسراً، كما فعلوا في الفشقة وقمبيلا ، إنّما يتحدَّون السودان منذرين بإزالة حضارة وادي النيل بالكلية، وقد أغرتهم غفلة السودانيين، إن لم نقل جهالة وعمالة قادتهم السياسيين. وهم إذ يعتمدون أساليب ناعمة مثل المكر والخداع وأخرى خشنة شَمِلت الحرق، القتل، التهجير القسري، الترويع، فإنهم هذه المرة لن يتورعوا بل سيعمدون إلى إغراق ديار بني شنقول، لأنهم أيقنوا أنهم مهما فعلوا فسيظلون غرباء عن قبائل بني شنقول، الذين لا تربطهم بهم وشائج قربي أو صلات أرحام. فأهل هذه الديار هم الفونج أصل الإنسانية وعماد الدولة السودانية قديماً وحديثاً.
    إنَّ من يقولون إِن الإثيوبيين تحرضهم إسرائيل، يهملون حقيقة تاريخية أساسية، وهي أن هنالك عقدة ظلت تعتمل في صدور الإثيوبيين منذ أن هزمهم الفونج وأزالوا عاصمتهم أكسوم وذلك قبل قيام دولة إسرائيل بقرون. وهم بعد لم يَرْعوُوا، لكنهم سيعرفون كيف يقفون عند حدودهم، إذا ما عزمت الدولة السودانية يوماً علي دعم جبهة تحرير بني شنقول دعماً حيوياً، يشمل الدعم اللوجستي والإعلامي والمالي، وليس فقط العسكري. فالدفاع عن ديار بني شنقول هو دفاعٌ عن الأمة السودانية جمعاء. إنّ الخطر الذي يتهدد السودان من الغرب او الشمال أو الجنوب يتضاءل أمام الأخطار التي تتهدده من الشرق يشمل ذلك تغول إِرتيريا السافر، أو الجنوب الشرقي.

    فيما يؤكد الشق المدني من الحكومة الانتقالية – متمثلاً في حمدوك ورفاقه – رغبته في تحقيق السلام، فإنَّ تحالفات العسكر مع بعض دول المحور التي باتت تهيمن على المشهد السياسي السوداني حالياً، ربما جرفت بسفينة السودان بعيداً عن شاطئ الحرية، وذلك بعد أن استبانت في ديسمبر الماضي 2019م معالم المشروع الوطني النهضوي الذي يتطلب قيامه توافر مجموعة من العوامل أهمها:
    1/ الخروج عن الوصاية الإقليمية، والنظر بعين فاحصة وبديهة ناصحة لمصلحة البلاد العليا، التي تتطلب قضاء المشورة داخلياً – في شكل مؤتمر دستوري – دون الامتثال لأي موجهات خارجية؛
    2/ إجراء حوار وطني حقيقي، حيوي وشفاف، مع "الممثلين الشرعيين" للجماعات المتضررة في ربوع الوطن كافة، والتي ظلت تقاوم الآحادية الفكرية والعقادية للدولة المركزية طيلة السنين العجاف التي أعقبت خروج المستعمر، وما زالت مستهينة بوابل الرصاص ومستخفة ببراميل المتفجرات، في سبيل تحقيق كرامتها الإنسانية؛
    3/ تكوين برلمانٍ، (أي: جهازٍ تشريعيٍّ)، تُشْرف على اختياره لجنةٌ قوميةٌ ذات تأهيل أخلاقي وفكري وحضور ثقافي ومجتمعي، يُنْتَدب له نُقباء حريصون على مصلحة البلاد ولهم في البوادي مِهاد، ويكون بمثابة الحاضنة الأساسية للقوى الثورية العازمة على نبذ العنصرية والجهوية، والمعتمدة جُلاً وأصلاً، على الأطر الحديثة في تكوين مجتمع مدني وديمقراطي.
    تحقيق هذه البنود الثلاثة يتطلب وجود قيادة مدنية ذات جسارة فكرية وبراعة روحية تصونها عن الخضوع للمؤثرات، تستفزها لتجاوز الثنائيات، وتستحثها على تخطي العقبات التي أوردت السودان موارد الهلاك واستنفدت قواه في حروب قوضت قواه وكادت تقضي على هيبته بين الأمم. يكفي ما تعرضت له شعوب الهامش من مهانة، وما عايشته جماهير المدن من مسغبة، وها هي نذر الحرب تطالهم جميعاً من جراء العجز الذي أصاب قادتهم، ومن جراء الشلل الذي عانته مطاياهم فاقعدها عن مبلوغ مراميها، وقد كانوا قادرين على درء الفتنة وتدارك الأمر بالحكمة والرحمة التي تشربت بها التربة السودانية الغنية بالأقوال والمعارف والأفعال. يكفي ما أصاب الناس من ضنك في شأن دنياهم، فيجب الّا يُفتنوا في دينهم بجعله مَعْرِضاً يستغله البعض في محاولة لشراء الوقت، فلم يعد هناك وقتاً وإنَّ من وراء الأكمة ما وراءها. عليه، يجب تأمين الجبهة الجنوبية الشرقية، والتي منها دفق النيل الأزرق وانهمار مجاريه، بالتوافق مع قيادة الحركة الشعبية – شمال، ومع كافة القيادات الآخري، سيما تلكم النابذة للفرقة والحاضّة على قيمة التماسك الوطني. إنَّ فاعلية القيادة السياسية المدنية للفترة الانتقالية تعتمد على قناعتها وقدرتها على الالتزام بالرجوع إلى قوانين 1974، واستمساكها بمبدأ الديمقراطية الفدرالية كوسيلة لتحقيق التوافق والرضا بين شعوب السودان كافة. إنَّ تأمين الجبهة الداخلية ضرورة لصيانة البلاد من المؤامرات الخارجية.

    إنَّ تهرب الإثيوبين من عقد اجتماع إقليمي لترسيم الحدود مع السودان حتي الاَن، يفضح نيتهم وعزمهم علي التمدد قدر إمكانهم داخل الحدود السودانية، مستغلين: أولاً، تردد الإنقاذيين الذين كانت تستفزهم أوهام الخلافة الإسلامية، مما جعلهم يتوجهون نحو العالم العربي، فيهملون عمقهم الوجداني وعماد إرثهم وحضارتهم. ثانياً، هم ينتهزون هذه الاَيام فرصة وجود متعاونين مخلصين علي رأس هرم السلطة الانتقالية، فيسعون لإبرام أي عقود من شأنهم إبرامها، فلن ينتبه لها أحد مهما جاءت مُجحفة في حق الشعب السوداني. ثالثاً، ولوج الإثيوبيين إلي قلوب السودانيين، سيما، وبكافة الطرق، جعلهم يأنسون ولا يتخوفون من بوائق مخططاتهم الماكرة. لقد بلغت السذاجة بالنخب السودانية حدَّ ظنِّهم أنَّ أبي أحمد توسط حباً فيهم، علماً بأنه جاء ليتأكد من إبرام اتفاقية تجعل السودان يترنح ريثما يقع في بئر فيتخلص منه، ولكن الله حافظ هذا البلد من كيد الكائدين ومكر الماكرين.
    إن ضعف السودان الحالي ناجم عن تضعضع أحواله الاقتصادية واضطراب ساحته السياسية، وعدم وجود مؤسسة عسكرية قادرة على مواجهة أقل التحديات، التي تمثلت في تعدي الجيران على جميع حدوده إلا أن الحدود الشرقية – والتي تعتبر أعظمها خطورة من الناحية الاستراتيجية – لم يُعِرْها أيٌ من الحكومات بالاً، تعدياً جعلهم يتفننون في قتل المواطنين السودانيين والاستخفاف بكرامتهم وأرواحهم. بيْدَ أن التاريخ يُنبئنا أن لحظة الضعف هذه، يُمكن أن تستحيل إلى لحظة قوة، بفعل الطاقة السارية والسيَّالة التي تتولد في قلوب السودانيين بفعل الضيم والاستهانة بحقوقهم، فكيف و هذه الحالة تهدد حيواتهم. يتبجح أبي أحمد، رئيس وزراء أثيوبيا، ضابط الاستخبارات الذي سخّر براعته المعلوماتية لتقنين سطوته السياسية (مثلما فعل مع نشطائنا السياسيين؛ بالأحرى الأفاعي التي طوقت رقابنا من يوم مقدمه للتوسط)، بأنه قادر على حشد مليون مقاتل، ونسي أنَّ السودانيين كانوا يختالون في حربهم ضد الفرنجة يوم أن قيد الله لهم في 1884م قيادة شجاعة، عازمة، وغيورة، والخيل تصهل وتجول، ولسان حالهم يقول (القصيدة للفِند الزماني):
    صفحنا عن بني ذهل وقلنا القوم إخوانُ
عسي الأيام أن يَرْجِعْنَ قوماً كالذي كانوا
فلما صرَّح الشرُّ فأمسي وهو عريان
ولم يبق سوي العدوان دِنَّاهُم كما دانوا
مشينا مِشيةَ الليث غدا والليثُ غضبانُ
بضرب فيه توهينٌ وتخضيعٌ وإقرانُ
وطعن كفمِ الزِّقِّ غذا والزِّقُّ ملأَن
وبعضُ الحِلْمِ عندَ الجهلِ للذلةِ إذعانُ
وفي الشرِّ نجاةٌ حينَ لا يُنجِيكَ إحسان
    فها هي ديار بني شنقول (التي يقطنها 4 ملايين من السودانيين يعيشون تحت الاحتلال الإثيوبي، ومليونان آخرون يعيشون في جوارهم داخل حدود السودان)، تنادينا وهي تئن تحت وطأة الإستبداد الذي تمارسه السلطات الإثيوبية التي لم تتورع عن ارتكاب مجازر ضد مواطنين سودانيين، في محاولة منها لتكريس سيادتها بوضع اليد، يساعدها في ذلك غياب سلطة سودانية مركزية، تناكف وتكافح في استرداد هذه الأرض المستلبة، التي استئجرها الإنجليز لمليك الثاني مكافأة له لوقفته معهم ضد الخليفة عبدالله التعاشي. لم تخضع ديار بين شنقول للأحباش – تسميتهم حينها – إلا بعد انتهاء الحكم الوطني في السودان، بيد أن المواطنين ظل انتماؤهم للسودان لا يستبدلونه ولا يقدمون عليه ولاء، بمعنى اخر هم سودانيو الهوى والهوية؛ أمّا المريدون فقد ظلوا ينعمون بالرعاية الروحية ويتلقون التربية الدينية من آل الهندي، الأسرة الدينية المشهورة صاحبة الألق الديني والمكانة الوطنية السامقة.
    كان من أول قرارات د. عبدالله حمدوك تعيينه د. سلمان محمد سلمان اميناً لمجلس أمناء جامعة الخرطوم. هل كان ذلك تدعيماً لموقف اللوبي الإثيوبي داخل السودان أم إقراراً بكفاءة الخبير الأممي؟
    اعترفت الحكومة الإثيوبية مؤخراً بسودانية الفشقة، بعد احتلال دام ربع قرن من الزمان، فهل سيكونُ هذا توطئةً للاعتراف بسودانية ديار بني شنقول، والتي لم تدخر الحكومات الإثيوبية جُهداً في المحاولة لطمس هُويتها، أو إذابة قوميتها في كِيانات قبلية، مثل: (قالة، وأورومو، ومكادة، وأمهرة، وتقري، وأقو) ... إلى آخره؟ فيما كان الرحالة يشيرون إلي قوميات ديار بني شنقول "بعرب سنار"، فالأصل أنَّ هؤلاء هم أبناء وبنات ملوك الفونج، الذين أسسوا السلطنة الزرقاء التي حكمت السودان وذادت عن حياضه لثلاثة قرون خلت (1504م – 1821م). غزا الأحباش في تلكم الفترة مملكة سنار مرات متتالية: أولاها حَمْلتان جردهما ملك الحبشة صوصنيوص في عامي 1706م و1707م على التوالي. وفي عام 1844م، غزا ملك الحبشة "إياسوا الاول" مملكة سنار بقواتٍ ثقيلةٍ تم دحرها. لكنهم لم ييأسوا، واستمروا في محاولتهم التوغلَ في العمق السوداني بقيادة مليكهم يوهانس الرابع، حتى دحرتهم قوات المهدية عام 1886. ومن بعدها لم يجترئوا ولم يستطيعوا الاقدام على أي محاولة حتى انهارت الدولة الوطنية السودانية، فاستقوى "منيلك الثاني" بالإنجليز في محاولة لاستتباع ديار بني شنقول. التاريخ ينبئنا بأنّ للأحباش استراتيجية لا تتبدل، فهم يغزون السودان دوماً في حالة الضعف! فقديماً؛ غزا الملك "عيزانا" مملكةَ مروي (305م – 400م(، وذلك بعد خروج الرومان الذين احتلوا المملكة النوبية، ممّا أضعفها، وتسبب في تشظيها إلى ثلاث ممالك :- علوة، والمقرة وسوبا.

    السودان: الترقي الروحي وارتباطه بالازدهار المادي والحضاري
    تشير شواهد كثيرة إلى أنّ السودان القديم كان مسرحاً لأحداث تاريخية جليلة أشارت إليها الكتب السماوية، رغم ما طرأ على الأماكن من تغيير في المسميات، وما أقحم من تبديل في الحادثات، والتي تمت – معظمها – بدافع الإنكار للدور الريادي الذي قام به "الرجل الأسود" في إنشاء أول حضارة في التاريخ الإنساني، فلجأ البعض إلى استقطاع الذاكرة، ولجأ البعض الآخر إلى حيلة الاستحواذ الجغرافي، الذي قسم أرض السودان إلى مصر العليا ومصر السفلى، وأنكر مستوى الترابط الحضاري والإنساني بين إثيوبيا ودولتي وادي النيل. قبل أن نجد الفرصة للاتساق مع ذواتنا وذلك بالتعرف على فخامة أسلافنا، أفقنا مؤخراً على اكتشاف من شأنه، أن ينفي الأساطير التي حيكت عن مجد الأوائل، ويغيرَ وجه التاريخ.
    تحدث الشيخ بهاء الدين بن الشيخ موسى بن الشيخ هجو لحيرانه وتلامذته في حلقات مطوّلة بثت من بعد على اليوتيوب، مُدعمّا أقواله بآراء الرحالة التركي أوليا شلبي (أوليا جلبي)، ومستنداً إلى إحداثيات حددها (بالغوغل إيرث)، عن وجود أحد المحاريب الضخمة (المعابد الضخمة) لسيدنا سليمان عليه السلام، بالقرب من قرية الكُنِيسة في شمال السودان، وذكر أنَّه مدفونٌ بأكمله في الرمال، وحوله مدن بكاملها مدفونة داخل الأرض. وفي ذلك يقول الرحالة التركي أوليا شلبي (أوليا جلبي) الذي زار السودان خلال الفترة ما بين عام 1650م و1670م – في مؤلفه بعنوان (الرحلات) – إنّه زار أحد محاريبِ (معابد) سيدنا سليمان عليه السلام في شمال السودان، وقد وصل إليها بعد مسيرة ثلاث ساعات بالقافلة من قرية الكُنِيسة (سمّيت على كَنِيس سليمان عليه السلام)، في محافظة مروى في شمال السودان. واستطرد الباحث يقول: إنَّه ثَبُت من خلال الآثار، أنَّ (المدينة) التي عاش فيها كلٌ من سيدنا يوسف عليه السلام، وسيدنا موسى عليه السلام، تقع في وسط صحراء أبو حمد في شمال السودان، وعلى ضفاق المجرى القديم لنهر النيل، قبل أن يتحول مجراه إلى المجرى الحالي، وأنَّ أرض (التيه) لبني إسرائيل هي صحراء بَيَّوضَة في شمال السودان.
    يمكنّا الحصول على معلومات قيمة من كتاب (جيمس بروس) المستكشفِ الأسكتلندي، فهو أول من تتبع النيل الأزرق من مصدره حتى التقي مع النيل الأبيض، ففي 29 نوفمبر 1772 وصل (جيمس بروس) إلى أسوان، ونشر كتابه "البَعَثات لاستكشاف منابع النيل بين 1769 – 1773"، والذي يعتبر من أهم الكتب المرجعية في فحص جغرافية إفريقيا ووادي النيل. ذكر بروس بلدة تنحدر الأنهار نحوها لتخلق تربة عالية الخصوبة، لها قدرة كبيرة على الاحتفاظ بالماء، وتوفير العناصر الغذائية الأساسية للنباتات، تقعُ على سفوح مرتفعات الحبشة على الحدود السودانية، واسمها الحقيقي "طوى"، وتعرف اليوم بمدينة القضارف. يعتبر هذا المكان من أكبر مناطق الانتاج الزراعي في السودان، وتوجد به وديان عالية الخصوبة. كما تعتبرُ القضارف من أكبر مناطق إنتاج الذرة البيضاء والسمسم في العالم، ويُقدرُ حجم ثروتها الحيوانية بحوالي 7 ملايين رأس من الماشية، حيث تتقاطر إليها القطعان من المناطق المجاورة. وفي الواقع، لا توجد بقعةٌ مباركةٌ الزراع والضرع، مثلُ هذه البقعة في المنطقتين العربية والإفريقية بأكملهما، من حيث عدد الأنهارِ وهي: نهر عطبرة، وسِيتيت، والرهد، وبإسلام، إلى آخره وتنوع الحصاد الزراعي، والمساحات الخضراء الشاسعة.
    وإذا تتبعنا القصص القرآني، وجدنا أن الله قد كلم موسى في الوادي المقدس (طُوى)، يقول الله عزّ وجل في القرآن الكريم "إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12(" سورة طه، هذا الوادي على جانبِ مرتفعٍ جبلي عالٍ جداً وضخمٍ يسمّى الطور "وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)". السؤال: أين يقع وادي (طُوى) المقدس؟ وفي أي بلد هو؟ هل حقيقةً أنَّه يوجدُ بجوار مرتفع الحبشة "الطور" على حدود المنطقة السودانية الإثيوبية؟ ما العلاقة بين هذا الموقع وبقية الإشارات التي وردت في أماكن متفرقةٍ من القرآن الكريم، تحديداً تلك التي وردت في شأن موسى وبني إسرائيل؟ هل هناك ثمةَ رباط بين البقعة المُباركة والشجرة التي تنبت بالدهن وطور سينين ووادي (طُوى)؟ إلى آخره، من الدلالات العظيمة التي ربطت رحلة الإنسان الروحية برقيه الحضاري وتطوره المادي. إذا علمنا أن "البحر المسجور" يعني "الجسم المائي الكبير الممتلئ" حتى يفيض، يلزمنا التفكر مباشرة في المرتفع الذي يُعرف "ببرج الماء" الذي هو مصدر الحياة! سيما وأنَّ هناك لقباً آخر لمرتفع الحبشة هو "برج الماء"، لأنه المصدرُ المائيُّ لوادي نهر النيل بأكمله، جنوباً من الحبشة إلى الشمال والشرق من السودان، وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط.

    بما إنَّ موسى كان عائداً مع عائلته من مَدْيَن (اليمن)، فمن الواضح أنه دخل مصر من الجنوب، ممّا يعني أنه مرّ من الحبشة والشمال الشرقي للسودان، على الحدود الحالية بين السودان والحبشة، تحديداً المنطقة التي تسمّى الآن بمدينة القضارف السودانية، حيث الأنهار الكثيرة وتنوع المحاصيل والأشجار والزراعات والخيرات التي تدل على البركة والنّماء. لعل الله وصف هذا المكان في القرآن "بالبقعة المباركة"، لما فيه من تعدد الأنهار وتنوع المحاصيل والأشجار والزراعات والخيرات. حيث يخرج من مرتفع الحبشة أكبر حزام من الأشجار ويمتد إلى السنغال في غرب إفريقيا (حزام أشجار دُهْن أو زبدة الشيا الممتد على مساحة تزيد عن 3.7 مليون كيلومتر مربع، عليه فإنّه أطول حزام من الأشجار على الأرض)؛ ينمو هذا النوع من الشجر فقط عند خط الاستواء، وتحتوي ثماره على زبدة (دُهْن) ذات لون عاجي، وتعتبر هذه الشجرةُ سخيّةً إذ تنمو من تلقاء نفسها، ومعمِّرة إذ تظل تنتج ثمارها لأكثر من 400 عام. يقول الله في القرآن الكريم، "وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ (20)، سورة سورة المؤمنون. إذا بحثنا في قاموس أوكسفورد الإنجليزي سنجد أن أصل كلمة طاور (برج) هي ذاتُها كلمة (طور)، وهنا تجدر الإشارةُ أيضاً إلى أن كلمة طور باللغة العربية، وكلمة طاور (برج) باللغة الفرنسية هي "طور"، وبالإسبانية "طور ي"، وباللغة الإيطالية، أيضا "طور ي"، وباللغة الألمانية "طرو م."
    طبقاً لما ذكره علماء التفسير في القرآن الكريم، فإنَّ سيناء وسينين هما اسمان على عَلمَين من أصل حبشي؛ وفي مرتفع الحبشة نجد قِمّةً جبلية تُسَمّى جبل "سينين". على الرغم من اختلاف أسماء القمم الجبلية سينين، سيمين، سيناء، سينان ... إلخ، فإنها جميعاً – ومن منظور جيولوجي – تمثل كتلة جبلية واحدة تسمّى "المرتفع البرج"، ويطلق عليه أحياناً "البرج الإفريقي"، لأنه يمثل أكبر مرتفعٍ ذي كتلة جبلية واحدة ممتدة على مسافةٍ طويلةٍ جداً تقدر ب 519278 كيلو متراً مربعاً. يطلق أيضاً على مرتفع الحبشة "بلاتوه إفريقيا" أو "سقف إفريقيا"، وارتفاعاته متعددة تتجاوز 4000 متر، وتصل أقصاها 4500 إلى متر؛ أمّا سيناء وجبل سيناء الموجود اليوم في مصر فيبلغ متوسط ارتفاعه 2300 متر فقط، ومساحة سيناء كلها بما فيها الجبل لا تتعدى 61000 كيلو متر مربع. جدير بالذكر، أنَّ سيناء التي نعرفها اليوم في مصر الحديثة، لم يكن اسمها سيناء في زمن موسى وفرعون، بل كان اسمها "مفكات" وهو ما يعني أرض الفيروز، وما يسمّى جبل الطور في سيناء مصر الحديثة كان يسمّى جبل "ريثو" (المصدر أعلاه).

    مواقف مُرِيبَة في قضايا مَهِيبَة:
    لا مناص للسودان من التعامل مع مصر وإثيوبيا على حدِ سواء، انطلاقاً من استراتيجية اقتصادية تنموية تتكامل فيها المرايا النسبية لدول المنبع والمصب كافة. بيد أنه لا يخفي على الجارتين أن السودان في موقف تفاوضي ضعيف، إذا لم نقل أنه يعجز عن الارتكاز الذي يؤهله لاتخاذ موقف مبدئي في هذه الظروف الحرجة. يحتاج السودان لهدنة كي يتعافى ويستعيد أنفاسه. حتي يحدث ذلك، يجب أن لا تسعي الدولتان أو إحداهما على استغلال ضعفه أو الاستهتار بمصالح شعبه، فإن ذلك يؤثر على الأمن الاستراتيجي للمنطقة، ويجعل من الصعب – إذا لم نقل من المستحيل – التخطيط لمستقبل تنموي تهنأ فيه شعوب المنطقة كافة، وتتهيأ لكونفدرالية هي حلم الآباء المؤسسين من الأفارقة والعرب المستنيرين.
    لا يخفى على أحدٍ أن السودان هذه الأيام تتناوشه اللوبيات كافة، أهمها اللوبي الإثيوبي الذي يستخدم نفوذه على الجهاز المدني، واللوبي المصري الذي يستخدم نفوذه على الجهاز العسكري. وكان الأحرى بالأخيرة أن تستند على الوعي الشعبي، كأن تُنشئ إذاعة تخاطب الشعوب المحتلة في ديار بني شنقول، وتبعث بمختصين كما كانت تبعث في السابق، عوض عن اعتمادها على المُخبرين. وأنا أعجب من بلد تتنازعه الأهواء وأهله نجباء، فذلك إن دلّ إنما يدل على أن ساسته حيارى لا يدرون مع أي جهة يميلون. لكنني لم أتوقع مطلقاً أن يستحيل أصحاب الحق الأصليون والمتضررون الأولون من بناء هذا السد إلى وسطاء، فيما يجب بل يفترض أن يكونوا شركاء.
    إن السياسيين في كل العالم، الرؤساء خاصة يعتمدون في قرارتهم على مستشارين متخصصين، أو يستعينون بمراكز بحثية سخرت مواردها البشرية والمالية – على مدي أعوام – لإعداد سياسات وتحديد خيارات، تجعل من السهل على القائد أو الرئيس التنفيذي، اتخاذ القرار استناداً على الأسس العلمية والموضوعية . هذا الأمر إنعدم في السودان لأسباب معلومة تمثلت في تشريد العصابة الإنقاذية للكوادر الوطنية، واتباعها لأوهام ايديولوجية، وتغليبها المصلحة التنظيمية (التي في الأغلب لا تنفصل عن المصلحة الشخصية) على المصلحة الوطنية. لا أتوقع أن يكون موقف الحكومة الحالية مختلفاً عن موقف الحكومات السابقة، التي كثيراً ما كانت تحدد مواقفها من القضايا الكبرى، انطلاقاً من مصلحتها الآنية لا من مصلحة الوطن.
    كيف تقنع السلطة الحالية والتي جاءت بعد ثَورةٍ عظيمة كثورة ديسمبر المجيدة، بالصمت حيال قضايا حيوية مثل قضية سد النهضة، فيما تنصرف وتبذل جهودها في قضايا ثانوية؟ أخشي أن ينطوي صمتهم هذا على خداع، ومكر وخيانة، تتبدى في مزاعم جوفاء يختلقونها كل يوم، سرعان ما يكتشفها الشعب السوداني الأبي، ابتداءً برهن إرادة البلاد لجهات عديدة، مروراً بفض الإعتصام، ثم تخلي رئيس الوزراء عن صبغته الرسمية والذهاب بصفته الشخصية عند زيارته لكاودا، وإعطاءِ الإثيوبيين إذناً ببناء ميناء إثيوبي في بورتسودان، تقنين احتكار بعض الجوكية لذهب السودان، والقبول بتهريبه لدول خليجية، وإعطاء دول أجنبية مثل روسيا حق بناء قواعد عسكرية، والقبول بتفعيل البند السادس ووضع السودان تحت الوصاية الدولية، إلى آخره من المواقف المتسقة مع بعضها البعض، والمفارِقة للموقف الوطني المطلوب. فأيُ خير يرجى بعد هذا؟ وإذْ عمدت النخب السياسية عامة على موالاة دولٍ خارجية بصورة فاضحة، فقد أعد الشعب عدته للتخلص منهم في أقرب وقت، وبصورة ستذهل العالم، مثلما أذهلته وحيرته ثورته البيضاء. إنَّ الشعب منتصرٌ لا محالة، وهم ذاهبون، بما هو أشبه بالغارة.
    كان من واجب الحكومة الحالية تعيين مجالس استشارية عُليا من علماء مختصين لكل واحد من القضايا المهمة والعاجلة، سيما تلك التي تمس الأمن الاستراتيجي للبلاد، مثل سد النهضة. فقد ظللنا كمواطنين نتابع عن كثب الجهود المضنية التي بذلها علماء وخبراء، أمثال المهندس كمال علي، المهندس حيدر يوسف بخيت (مدير إدارة نهر النيل لمدة ثلاثة وثلاثين عاماً)، بروفسير عاصم مغربي، والمهندس يحيى عبدالمجيد، بروفسير محمد الرشيد قريش (أستاذ السدود والمياه)، المهندس عبدالكافي الطيب، القانوني أحمد المفتي. أمثالُ هؤلاء، كان يلزم أن تُكوّن منهم لجنة، تُدعم بمجموعة من العسكريين الوطنيين، لا سيما وأنَّ موضوعَ السد "هو موضوع أمن قومي بامتياز"، وليس موضوعاً فنياً فقط، كما بيّن الدكتور محمد عبدالحميد، أضف إلى ذلك دعوةَ الفاعلين في المجتمع المدني، المعنيين منهم بهذا الأمر، والسياسيين البارعين الوطنيين، للتفاكر في هذا الأمر الحيوي، وفق معطيات الواقع وتحديات المستقبل. هذه الجهود حتما تُفضي إلي خيارات، يتبنّى بعضَها معالي السيد رئيس الوزراء، وفق ما يمليه عليه الراهن السياسي والعسكري. فالمسألة لا تخضع لأهواء وأمزجة شخصية، بل هي تقتضي وقفة وطنية، وبسالة فكرية وميدانية، تبدأ بتخصيص إذاعة تخاطب الشعب السوداني وشعوب بني شنقول بشكل أخص، من باب إطلاع الرأي العام وحثه على خوض معركة في الوقت المناسب، على سلطة محتلة، جائرة، وغاصبة، تأبى أن تثوب إلى صوت المنطق والحق.
    لم يقبل الإثيوبيون بإعداد دراسة فنية عن السد، إلا عندما أوصى التقرير الذي أعدته جامعةMIT في عام 2014، بإعداد دراسة فنية أوكلت بعد تلكؤٍ من الإثيوبيين والذين اختاروا شركة فرنسية (EDF France) أقل كفاءة من الشركة الهولندية .. ورغم ذلك، رفضوا تقريرها الاستهلالي الذي أبدى ملاحظات على التصميم الأولي، وأوصى بعمل دراسة فنية متكاملة، سيما وأنّ الإثيوبيين قرروا تجاوز سعة السد التي حددها الأمريكيون في الستينات (1964)، ب 11 مليار متر مكعب. رغم كل المخاطر أقدم الإثيوبيون على بناء السد، دون أن يجدوا أي شركة تتعهد بالتأمين، نظراً للمخاطر الجمة التي تعتور هذا المنحى المتهور، بل إنَّ البنك الدولي رفض تمويل هذا المشروع، بسبب زيادة السعة.

    سؤال: لماذا ذهبت إثيوبيا إذن لبناء "سد النهضة" مخالفة بذلك مقترح مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي تقرير عام 1964 الذي نصح ببناء أربعة سدود متوسطة الحجم؟

    جواب: صحيح أن تشييد أربعة سدود يكلف أكثر من تشييد سد واحد بنفس السعة، لكن متوسط المخاطر ستكون أقل، والقدرة علي التحكم ستكون أكبر.



    سؤال: كيف تُبرر إثوبيا إستبدال "سد الحدود" والذي يبلغ إرتفاعه 85 متر، مقارنة بسد النهضة، الذي يبلغ إرتفاعه 145 متر بذات الموقع في سبيل الحصول على زيادة قدرها 3% فقط من الطاقة (ميقاواتس)؟
    جواب: لا تريد إثيوبيا تسويق فائض الطاقة كما تَدَّعي أو كما يُرَوِّج لها البعض، لكنّها تزمع ابتزاز السودان بارغامه على دفع رسوم تخزين "المادة الطاقة الخام" التي يحتاجها كي تعود إليه "كمنتج" في فترات الشح . بمعنى آخر، هي تريد استخدام المياه كسلاح، يمكن أن تهدد به السودان، بل قد تنذر بفنائه مرة واحدة.

    يجب التنبيه إلى أنَّ الإثيوبيين شرعوا في بناء السد عام 2011 وهم بعدُ، لم ينتبهوا للإشكالات الفنية التي اعتورت التصميم والتنفيذ، الذي تشرف عليه شركة ساليني إمبر جيلو الإيطالية، والتي صحبت ممارستها في تنفيذ الخزانات في إيطاليا كثيرٌ من الإخفاقات، إلا من بعد ما أطلعتْهم سفارتُهم في الخرطوم على كتابات بروفسير قريش، الذي نوه إلي أن الطاقة المستخلصة لا تزيد عن 1639 ميغاوات، أي %33 من الطاقة الكامنة 6000 ميغاوات (15692 قيقاواتس) التي تضمنتها الدراسات، إلى جانب قصور آخر شاب التصميم الهندسي والجيولوجي الفني. مّما دفع أبي أحمد لاعتقال بعض المهندسين والمسؤولين الإثيوبيين، يشاع أن أحدهم قُتِلَ قبل شروع الجهات الرسمية في التحقيق معه، وهو مهندس صرح أو كاد يوثق شهادةً في المحكمة مفادها أن جميع مواد البناء التي استخدمت في الفترة (2011-2018) من إسمنت وحديد وغيرها مغشوشة، ولم تخضع لأقيسة الجودة المحلية، دعك عن العالمية (راجع المصادر في النت). الجدير بالذكر أنَّ أبي أحمد قد قام بإلغاء العقد مع شركة مِيتيك، المقاول الرئيسي التابع للجيش، وأودع مدراءها التنفيذيين السجن عام 2017، بعد أن اتهمهم بالفساد، وعدم الكفاءة ولم يخرجهم إلّا في فبراير 2020.
    دون الداعي إلى الخوض في تفاصيل علمية دقيقة. أودُّ أن اُحيل القارئ الحصيف إلى خطوط عريضة من دراسات بذلها بسخاء بروفسير قريش، بعنوان: "شهادتي للتاريخ"، وهي متوفرة دونما مِنّة، بل إقراراً مستفيضاً بتفضُّل الله عليه، في الفضاء الإسفيري. يقول بروفسير قريش، والذي اقتبست من كتاباته جُل التفاصيل الفنية والاستنتاجات العلمية التي ادرجتها في تقريري هذا، في الحلقة العاشرة "إنَّ قمة طموحات السودان – وإن شئت أمانيه – تتمحورُ حول الآتي:
    تعظيم الاستفادة الكهرومائية، على سبيل المثال من خلال زيادة الخيارات  البديلة لموضعة محطة توليد الكهرباء، لكيلا تصبح كل قدرة "الشريك الربطي" (كالسودان)  للتوليد، مقصورة علي "خارج أراضيه" ( أو علي موقع لم يُخْتَرْ علي أساس أفضل المواقع في الرقعة الجغرافية لمجمل الشركاء قاطبة)، وهذا أمر جوهري؛

    ومن أهم مزايا الربط الكهربائي والتي أجهضها سد النهضة، أن يحرم  شركة الكهرباء السودانية مثلاً من فرصة تخطيط كل مشاريعها على أساس أرشدِ  المواقع (طبوغرافيا، وجيولوجيا ومائيا، بغض النظر عن؛ أي دولة شريكة في الربط يقع اختيار موقع التوليد)؛

    ومن هذه الطموحات تحقيق التفاضل و التكامل بين شبكة يهيمن عليها التوليد الكهرومائي (كالسودان)، وأخرى تهيمن عليها النظم  الحرارية (كمصر أوليبيا أو السعودية)، والاستفادة من تباين الأنظمة السنوية الحرارية والمائية" (كمُل حديث بروفسير قريش).

    عدم استيفاء الموقع لأغلب الاِعتبارات الهندسية والجيولوجية السبعة التالية:
    رمو الخزان
    زلزالية الموقع
    جيولوجيا الموقع
    طبوغرافية الموقع
    هايدرولوجيا الموقع
    حجم التصرف المائي
    عدم توفر المواد والعمالة


    إنَّ بناء سد النهضة، سيهدد حياة السودانيين، حال انهياره بفعل فاعل – ضربة عسكرية، أو بفعل العوامل الطبيعية، إذْ إنَّ قوة الاندفاع ستوصل الماء إلي الخرطوم في 9 ساعات، يغمر فيها العاصمة بعرض 15 كيلومتر على ضفتي النهر، مرتفعاً حتي يصل العمارة الكويتية، من باب التمثيل والتجسيد، الذي يُعين القارئ على تصور الكارثة التي إذا حلّت فلن تُحدثَ دماراً للخرطوم فقط، إنما تنذر باندثار حضارة وادي النيل بأكملها: كما ابتلع السد العالي جزءاً أصيلاً منها من قبل.
    إنَّ اختصاصيي السدود من مهندسين وعلماء وخبراء، يكادون يؤكدون أنّ سداً بهذا الحجم (90 مليار متر مكعب، المعلن منها 74 مليار متر مكعب والتي تساوي 18 ضعف سعة خزان الرصيرص)، وبهذه الخصائص، لا يُمكن أن يصمد لأكثر من خمس سنوات (نسبة لأنه بُني في أرض بركانية هشة، كما بيّن بروفسير قريش)، سينهار بعدها أو قبلها بقليل، مُحدثاً انفجاراً لا يقل دماراً من ما قد تُخلفه قنبلة عنقودية حلّت بقوم وهم نيام. (يُقدِّرُ الخبراء دافعية هذا الفيضان، بتضعيف يبلغ قدره 120 ما بلغه فيضان 1988). من الغريب في الأمر، أننّا نري ما قد يتهددنا في القريب العاجل، بمعني أننا أيقاظ، ولا نسعي للتفكير بصورة منهجية ووفق خيارات موضوعية، فما زالت نخبنا السياسية تتحرك بمزاجية هي أشبه بالسبهللية، إذا لم نقل التؤاطو وعدم الوطنية. صدع الغيورون برأيهم، ولكن لا حياة لمن تنادي.
    إنَّ فقداننا لنصف الاراضي الزراعية التي ترتوي من نهر النيل الفيضي، – الذي يعتمد عليه الفقراءُ – بحجة زيادة الدورات الزراعية، واعتمادنا على التخزين خارج سيطرتنا (6.5 مليار متر مكعب)، مقارنة باعتمادنا على سعة تخزينية يمكن أن تُطَّور داخل أراضينا (70 مليار متر مكعب بالكلية إذا ما عمدنا على تطوير خزان الرصيري: 7.5، مروي: 12، وبحيرة النوبة: 50)، أمر يثير الغرابة، إن لم نقل الشفقة، على نخب لم يكن التخطيط يوماً من أولوياتها. إذ ظلت تناكف بعضها لعقود، ويتقاتل أفرادها على قضايا ثانوية، تأتي في مراتب دُنيا بالنسبة لكافة القضايا الاستراتيجية التي تهدد السودان. هذا؛ إذا اكتفت بالإهمال ولم تشترك في الفساد، أو تتاَمر جهرةً على مصالح بلدها، من مثل ترسيم الحدود، السياسة السكانية، التربية والتكوين، حماية الحياة البرية التي لا تقل أهمية عن الثروة المعدنية .. يشمل الشعب المرجانية البحرية، إحدى أكبر السمات الجاذبة للسياح، تسجيل الأراضي إعداد مشاريع ورصد ميزانيات لتشييد تُرع تقينا شرور الاحتقان المائي، إلى آخره. وها هي ذات النخب اليوم، تتلكأ في قضية مصيرية، ستتأثر بها حياة الأجيال، وقد تغير بيئتهم إلي الأبد.

    ما مدي كفاءة سد النهضة في إنتاج الكهرباء؟
    إن التفاوت في حجم التصريف المائي ومنسوب النيل الأزرق في بيئة سد النهضة سيجعل التوليد الكهرومائي يتقلب من موسم لأخر؛
    كما إن التوليد الكهربائي وإنتاج الطاقة سيكون مكبوتاً، قياساً بتجربة الروصيرص ومتأثراً بانخفاض فرق التوازن المائي، بحيث لا يسمح بتشغيل التوربيات أو قد يتسبب في تعطيلها بالكامل.

    التفكير الوطني الراجح:

    رفع منسوب خزان الروصيرص فوق 490 متر ، كان سيدخل رمو الخزان إلى الاراضي الإثيوبية، ليمتد الرمو لمسافة 20.40 كيلو متر داخل إثيوبيا، ويتسبب في غمر كبير لتلك الاراضي بما في ذلك إغراق موقع سد النهضة الحالي علي بعد20 متر من الحدود السودانية.

    تعلية خزان الروصيرص إلى 510 متر كان سيحقق استغلال أفضل لإمكانات المواقع المائية في السودان ينعكس في قدرته على زيادة السعة التخزينية، زيادة الرقعة الزراعية المروية صناعياً، تأمين فرق توازن مائي أعلي وبالتالي زيادة التوليد الكهرومائي، وتوفير قدر أكبر من السيطرة على إمدادات المياه.

    زيادة هامش الأمان للسدود من خلال تقليل فرصة حدوث علو الماء للجسم الخرصاني للسد أو لأجنحته الترابية.

    لقد اعتمد رئيس الوزراء الحالي على طاقم ليس لديه خبرة تنفيذية، كما تُعْوِزُهُ المقدرة العلمية والفنية في هذا الصدد، بيْدَ أنه وجد نفسه مجبراً للإفتاء في شأن ليس من تخصصه. الأدهى؛ أنه يُبدي رأيه في أمر خارج دائرة السلطات المُخَوَلة له بحكم الدستور، إذْ إنّ السدود أُخْرِجت من وزارة الري والموارد المائية التي تعج بالمختصين، وأُسنِدت إلى أسامة عبدالله مسؤول السدود في الزمان البائد لحاجة في نفس يعقوب. وقد نصحتُ مراراً أول أيام الثورة بصفتي مختصاً في التحديث والتطوير المؤسسيى – بإعادة الهيكلة لكافة أجهزة الدولة، حتى يكون هناك تناسقاٌ بين الاِختصاصات، يُعين على تحسين الأداء ويسهم في زيادة الفاعلية المؤسسية. لكن القوم فوَّتوا فرصة ما كانوا ليُزهقوها! وقد زادهم غيّاً ركوبهم موج العاطفة الثورية، وغفلة الجماهير عن مخططاتهم المبهمة والمريبة في آن واحد. وما ذلك بغريب، بل هذه خاصية لازمت مواقفهم في كل القضايا التي تمس السيادة الوطنية.
    إنّ حالنا حالُ المحب الذي لم ينل من محبوبته ما ابتغي، فشبه حرمانه منها بوقوف المرء في ساحة تسمّى (الفشق). أرضها يباس فيما السماء تمطر ما حولنا، فنحن معشر الطيبين انتظرنا كثيراً وذقنا مريراً، بيْدَ أنّنا لم ننل مُبتغانا إذْ إبتلانا الله بقوم عِيس، لا هم من الملائكة ولا من ملة إبليس. إليك قول الشاعر العامي الذي عبّر عمّا نحن فيه من معاني بأبياته التالية:
    من سَنة الهبوب الحمرا
    عاصم نفسي بالسوط
    والفؤاد فيه جمره
    قابلني (الفشق)،
    عِينْتك تَكُر ما بتملا،
    البوبْ ليكي يا ام حاجباً هلال القمرا

    إنَّ ضبابية موقف معالي رئيس الوزراء حمدوك وحكومته قد جعلت المصريين يعولون على العسكر في المجلس السيادي، أو قد تكون هذه سجيتهم في "حسم الأمور". علماً أنّ "الحسم" ليس من الأمور التي يفضل استخدامها في أوقات تتطلب المرونة، المناورة، الاستعانة بمجموعات الضغط داخل المؤسسات الإقليمية والدولية. بمعنيً اَخر الدبلوماسية، التهديد المبطن، التباطؤ، التساهل (حتماً ليس التنازل) في بعض البنود إلي اَخره. من الحِيَل التي لا تُحوِجُ الدول إلي مواجهة عسكرية، وقد تعود بالضرر على كافة الأطراف.

    يجب التنويه إلى أنَّه لم يتم استشارة إثيوبيا، المصدر الرئيسي ل 86% من مياه النيل، في "إتفاقية الاستقلال الكامل لمياه النيل"، التي أُبرمت عام 1959م بين مصر والسودان. فقد رفضت مصر حينها طلب إثيوبيا بالانضمام إلى المجموعة، رغم قناعة الجميع بأنَّ اتباع النهج التكاملي في التخطيط أمر ضروري وحيوي. وإذ حلَّ الاستقواء مكان التنسيق، فقد انتظرت إثيوبيا لحظة اتسمت فيها دولتي المصب بالضَّعْف وقلة النّصير، فأعلنت عن اعتزامها بناء "سد النهضة"، الذي تبلغ سعة تخزينه ضِعْف الإيراد السنوي للنيل الأزرق ونِصْفَه. الأمر الذي أذهل المراقبين، وجعل المختصين يطالبون برفع معدل الأمان من 1.5 (تحسباً لفيضان قد يحدث كل ألف عام)، وذلك بتغيير التصاميم كافة وتصميم البوابات خاصة، تحسباً لفيضان قد يحدث كل عشرة الف عام.
    تقول بعض الجهات إنَّ إثيوبيا تعاملت بإيجابية، واستجابت لكافة موجهات اللجنة، بَيْد أنّه لا يوجد أي دليل على ذلك باستثناء التطمينات التي يقدمها وزير وزارة الري والموارد المائية. يتسم الأسلوب الحكومي السوداني بعدم العلمية وبغياب الشفافية؛ الأخطر إننا نلحظ عشوائية، مصدرها المزاجية الشخصية (أو السياسية)، وعدم المؤسسية، شأن كل الحكومات السودانية، وليس فقط الإنقاذ. وها هو السودان يتنقل بين خانتي الرفض غير الواقعي لانضمام إثيوبيا لاتفاقية 1959م، والقبول غير المبدئي لإعلان المبادئ الذي تم توقيعه عام 2015م. يحتاج السودان لاستراتيجية ترتب خطواته، تحدد أولياته وتقنن كافة توجهاته انطلاقاً من مصالحه التي لا تتعارض بالضرورة مع مصالح الآخرين.

    ضعف التنسيق بين دول المصب: مصر والسودان
    هنالك عدة عوامل تسببت في تلكؤ مصر منذُ أمد بعيد، وتقاعُسها عن تطوير استراتيجية – دعْكَ عن قيادة الأمة – تُحدِّدُ مسار تعامُلها مع القرن الإفريقي، ومع إفريقيا قاطبة، نذكر منها ما يلي:
    اعتماد النظم العسكرية على الجهد الاستخباراتي في تجنيد عملاء، من المدنيين والعسكريين، يعينونها على استتباع الدول، عوض عن العمل معها لتطوير استراتيجية تنموية واستشراف رؤية مستقبلية تعود بالنفع على الجميع.
    لعل التاريخ الاستعماري قد خلّف عاطفةً سلبيةً وجب تخطيها، كي يتمكن البَلَدَان على التنسيق الذي يؤهلهما للعبور نحو إفريقيا بصورة حداثية. يجب أن يكف المصريون، عوامهم ومثقفوهم عن ترداد مقولة "إنّ مصر والسودان كانتا إقليميْن تحت سيادة التاج المصري"، فهذه مجرد عاطفة تستخدم بوعي ومن دون وعي، لتغطية إرث استعماري يجب العمل قاعدياً على تصحيحه، بزيادة الوعي والتفاعل الحيوي بين الشعبين الشقيقين – لُحمةً وليس شِحْنةً – كما التكافؤ في الفرص، الذي يجب أن تسعي في سبيل تحقيقه الحكومات السودانية، لا سيما وأنَّ الإعلام الحكومي لدولة مصر كان طاغياً، مهيمناً ومؤثراً جداً حتى زمنٍ قريبٍ على وعي الشعب السوداني خاصةً والشعوب العربية كافة. الواقع؛ أنَّ مصر كانت دولة محتلة، أعانت المستَعْمِريْنِ البريطاني والعثماني على حكم السودان ردحاً من الزمن: منذ غزوها للسودان عام 1821 وحتى خروج المستعمر البريطاني عام 1956.

    ممّا يُؤسَفُ له حقاً، أنّهُ وعلى مدى فترات متقطعة، بدا أنَّ الأنظمة المتعاقبة على حكم مصر، لم تغير نظرتها الاستعمارية والاستتباعية للسودان، فمصر الخديوية لا تختلف عن مصر الوفدية، ومصر الناصرية لا تختلف بدورها عن الأُخْرَيَيْن إلا من حيثُ الدرجة، حتماً ليس النوع. لأن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لم يقر بسيادة السودان، إلا بعد ضغط شعبي مرير وتضحيات من الأرواح مهولة. وهذا يشرح حساسية الشعبين، ولا يبرر العداوة بين الأخويْن، لكنها حساسية يمكن تخطيها بالسعي لتحقيق دمقرطة اجتماعية واقتصادية، تنشد التعقل والأريحية في كلا البلدين.

    إنشغال الفئة الحاكمة في مصر، سيما العسكرية، على تثبيت أركان حكمها بالداخل مُعتمدةً على البطش وتكميم الأفواه، الأمر الذي أعاق إمكانية تفعيل رؤي علمية تُسَخّر فيها طاقات الأمة وأبنائها النجباء، لصالح المشروع النهضوي.
    وعندما سنحت فرصة قصيرة للحكم الديمقراطي المدني في مصر، آلت فيه الأمور إلى فئةٍ ذات أحلام طوباوية، تبنّت في سبيل تحقيقها أساليبَ في الحكم، أقل ما توصف به أنها مجرد حيل رجعية، لا تصلح للقرن الواحد والعشرين. يقيني أنّ الديمقراطية، كانت قادرة على تجاوز هذه الفئة، إلا أن تدخل العسكر وأد التجربة برمتها، دون أن يتصور أحدٌ سيما مّمن أيدوهم أنهم سينفردون بالحكم، وقد كان المنوط بهم تكريس جهودهم لتهيئة مناخ معافىً يساعد على استدامة الديمقراطية. ما يهمنا في هذا الأمر أن وجود العسكر في مصر وبهذه العقلية الارتكاسية، يهدد مستقبل السودان الديمقراطي، لأنهم يعتمدون على أقرانهم العسكريين في تحقيق مطامعهم.
    لقد عطلت الأنظمة العسكرية تطور الأمة العربية الإسلامية، وحان الوقت لإحداث اختراق من قبل القوة المدنية في هذه الدائرة الفارغة، بالعمل الدؤوب الذي يؤمن بحرية الشعوب، يحافظ على كرامتها، ويومِّنُ لها حقها في الرخاء، مُتّبعاً أسساً علمية ومنهجية، تنأي بأفراد شعبها عن الاَيديولوجيات والأوهام الماثلات غير المجديات في هذه اللحظة الراهنة، كالعلمانية (بمعناها الوجودي)، الخلافة الإسلامية (بمعناها القروسطي)، الهوية (كثابت وليس مرتكز يتبدل بتبدل الحال وتطوره)، الكونفدرالية (في إطارها الفوقي الذي أقرت بفشله كل الأنظمة العربية فلجأت للتقوقع)، إلى اَخره. فمثل هذه الأمور تُرجأ لوقتها، يوم أن يتبدل حالنا من رعايا إلى مواطنين، يكفل الدستور لنا الحقوق ويحدد لنا الواجبات. وقتها فقط يمكن أن تتضح وتتبلور ملامح العقد الاجتماعي، وينسجم الوجدان الإنساني. بغير ذلك؛ تصبح هذه الدعوات مثاراً للجدل ومدعاة للفرقة.

    إنَّ العسكريين في مسعاهم لتحديد حلفائهم في السودان، لا يعتمدون في استمالة الرأي العام لصالح القضية التي تهم البلدين، معتمدين على كوادر ذات نفوذ ثقافي واجتماعي واقتصادي وأدبي وفكري، إنّما يعتمدون على وكلائهم التقليديين، تحديداً القيادات الطائفية التي تجاوزها الزمن، ولم تعُد تحُظى بذات النفوذ الذي كانت تستخدمه من قبل، في تعطيل مصالح السودان، من أجل تحقيق مصلحة "حلفائها" في شمال الوادي.
    أرجو أن يَكْذبني حدْسي في هذه اللحظة، لأنني أعتقد أن مصر العسكرية لا تفكر في شيء الآن، قدر تفكيرها في ابتعاث رجال استخبارات، والاستعانة بعملاء محليين يعينون العسكر الحاليين على الانقلاب على الحكم الديمقراطي، أو استخدام نفوذهم على النخب السياسية الحاكمة في السودان، للتخلُص من رئيس الوزراء الحالي، الدكتور عبدالله حمدوك، متهمة إياه بالتؤاطو مع الإثيوبيين. كلا الخيارين قد يتسببا في احتقان سياسي واجتماعي، الأمر الذي قد يؤلب الشعب ضدهم، ويجعل كثيراً من السودانيين يصطفون مع الجانب الخطأ – في هذه الحالة إثيوبيا دون غيرها من الدول، باعتمادها على العاطفة، واستنادها إلى حقائق تاريخية وجغرافية – تُعزز فكرة وحقيقة المصير المشترك لدول المصب: (مصر والسودان).

    إنني أؤمنُ بوحدة المصير لدول المصب، من منطلقات استراتيجية تنموية بحتة، بعيداً عن أي عاطفة مائلة إلى الانهزام، الذي يجعل السودان حديقة خلفية لمصر كما يتصوره العالم، وكما قننّته تصرفات النخب السودانية الحاكمة منذ الاستقلال، أو اتباعاً لعاطفة ماهلة كالكراهية التي تتوارى – أحياناً – خلف الأنفة والاعتداد بالنفس! فالسياسة تُبنى على المصالح وليس على الاستلطاف: و المهم أن يحافظ الجيل على حقه وحق الأجيال القادمة. إن العاطفة المعتدلة هي التي تجعل الشخص أو الدولة تفكر في تحقيق المصالح بناءً على أسس منطقية، غير خاضعة لحيل الاستغفال/الإستهبال، أو مُستدْفَعةٍ بأمواج الانفعال. كما يجب أن لا تترك الأمور لحسن النوايا، فيصبح حالنا كالأيتام الذين تكفل بهم مضيع للذمة غير حافظٍ للعهود. وما أكثرهم هذه الأيام، التي كثر فيها اللئام. إنني أدعو الكل من هذه الخانة لتجاوز الخساسة، وتقديم السياسات على السياسة!.
    يخطئ السودانيون إذ يظنون أنهم يقفون مع مصر، إنهم يقفون مع أنفسهم لأن هذا السد يهدد حاضرهم ومستقبلهم. ألم نتعلم أي درس من السد العالي الذي دفعتنا العاطفة أو السذاجة للقبول به رغم الأضرار الأيكولوجية، الجيولوجية، البيئية والاجتماعية التي بينّها حينها العلماء والخبراء؟ إنَّ من يقفون مع مصالحهم الخاصة أو تستدفع بعضهم ذات العواطف الساذجة. كل ذلك بسبب غياب استراتيجية تنمية وطنية وتضعضُع المؤسسة العسكرية. فلو أن الحكم يوم غدٍ آل لوطني غيور، فإنه لن يستطيع المدافعة لما عليه المؤسسة العسكرية من ضعف وتهلهل. وقد يضطر إلى الحشد الجماهيري والحمية الوطنية كخطوةٍ أوّلية.
    إنَّ مصر، رغم حرصها على وضع حد لتجاوزات الإثيوبيين قد اتخذت التدابير اللازمة لتفادي أي مخاطر قد تنجم من بناء السد في الأمد البعيد والقريب. أمّا السودان كعادته وغياب دولته، فما زال عالقاً في عشوائيته التي تتمثل في عدم اتخاذ التدابير المؤسسية اللازمة، يشمل ذلك الدبلوماسية الحاذقة، لتدارك الأمر. يحتاج السودان التنسيق مع مصر بطريقة متسقة لا تدع مجالاً للمياعة السياسية، التي قد تصل أحياناً إلي درجة التواطؤ الإثيوبي، الذي يتطلب تغيير اللجنة الفنية عاجلاً؛ فجلُّ أعضائها هواة غير متخصصين ومؤدلجين عُينوا في العهد البائد، تبصير الراي العام بخطورة التهاون في هذا الأمر، والشروع في بناء جيش وطني يتوجه عاجلاً إلي حدود ديار بني شنقول، تحسباً لأي فوضى قد تسببها ضربة استبقائية ربما يعد لتوجيهها الطيران العسكري المصري، فاستهداف السد بعد بنائه، يعتبر ضرباً من التهور.
    هذه الخطوة خطوة حازمة وجارفة قد تجد دول المصب نفسها مضطرة لاتخاذها، إذا ما استنفدت كافة السبل في إقناع إثيوبيا العدول عن موقفها المتعنّت والمستخف بمصائر شعوب دول المصب، التي استمرأت سياسة الأمر الواقع، مستندةً على اختراقٍ استخباراتي علها، أحدثته نتيجة وصول بعض منسوبيها إلي دفة الحكم، أو ربما مستفيدة من هالة كاذبة نالتها من جراء التوسط في اتفاقية مهلهلة، سرعان ما استحالت إلي وثيقة فارغة من أي مضمون. بيْدَ أنَّ موقفها ذلك لا يقارن بموقف الجارةِ مصر، التي أخطأت، إذْ أمدّت العسكريين بخُطةِ فض الاعتصام الخاسرة، فجعلتْها في مواجهةِ شعبٍ قد عشق الحرية وروّاها بدمه، دون أي مبرر، غير أنها عجزت عبر تاريخها في تعديل مسارها الذاهب في الوجهة المعاكسة للتاريخ والمناهضة لمنطق الأشياء.
    لقد اعتمدت " الجارة العزيزة" إثيوبيا حيل المماطلة والمرواغة والتسويف في محاولة لشراء الوقت؛ لعل هذا هو سبب تغيبها عن اجتماع نيويورك الأخير، علماً بأنها قد حضرت الأول. وما ذلك إلا لأنها أحست بأن المنصات الإقليمية والدولية ستضعها في موقف تفاوضي بئيس، وذلك للأسباب القانونية والسياسية الآتية:
    ترفض إثيوبيا الاعتراف بمعاهدة 1902م، والتي خولتها الاستفادة من ديار بني شنقول، وحرمت عليها بناء سدودٍ تهدد أمن السودان. هذا في حد ذاته يُعد تحدياً للقوانين الدولية، قبل أن يكون خرقاً للاتفاقية. لا سيما أن مثل هذا السد، وبعد الدراسات التي أجرتها هيئة أمريكية في الستينات يعتبر مجازفة، يمكن أن تسبب كارثة بيئية وإنسانية.

    ليس هذا فقط، بل إنَّ إثيوبيا تتحدي دول المصب تحدياً سافراً، إذْ تعلن أنها ستبني سدوداً حتي تصل سعة تخزينها للمياه 200 مليار متر مكعب، علماً بأنها أعلنت قبل الشروع في بناية سد النهضة، أنها ستبني هذا السد بالسعة التي حددتها دراسات أعدتها هيئة الاستطلاع الأمريكي K1964 وهي تبلغ 11 مليار متر مكعب، فلم تفتأ حتي زادت سعته إلي 74 مليار متر مكعب، المعلن منه. وهي إذ تنفرد بهذه القرارت الخطيرة فإن إثيوبيا لا تكاد تهمش دول المصب فقط، إنما هي أيضاً تستخف بحق دول حوض النيل كافة، 11 دولة معنية بالتخطيط الجمعي والشامل لكل ما من شأنه أن يتعلق بالسلامة والصحة البيئية لمواطنيها؛ لا سيما وأنَّ النيل قد أصبح مكباً للنفايات الصناعية والسكنية لبعض الدول التي تفتقر إلي المقدرة المؤسسية لضبط المعايير وإلزام الهيئات والمؤسسات بها.

    يرفض الإثيوبيون إطلاع السودانيين والمصريين على الدراسات الفنية، بحجة أن ذلك أمر يخص السيادة الوطنية، علماً بأن ذلك أمر يخالف المعاهدات الإقليمية والدولية، وقد كان لزاماً أن يشركوهم ليس فقط بل يطلعوهم على دراسة الجدوي الاقتصادية والبيئية والإيكولوجية والاجتماعية، إلي آخِره، سيما وأنّهم شركاء استراتيجيون. فلا معني إذن للتعرض لكفاءة الإنتاج الكهربائي، وانخفاض الموارد المائية. ما الذي يلزم إثيوبيا إذا لم تُبرَمْ إتفاقية فيها بنود محددة تحدد حصة السودان من الماء والكهرباء؟



    حجج المدافعين عن "سد النهضة":
    لعله قد تبين للقارئ الكريم أنه لا توجد حجة قدمت لبناء هذا السد إلا وهي واهية، ذلك أنه لا توجد دراسة فنية متكاملة، والمتوفر هو فقط مجرد تقارير استهلالية رُوِّجَ لها على أساس أنها دراسات من قبل "بعض الجهات" كلها تشير إلى ضرورة إعداد دراسة مستفيضة، تقي دول حوض النيل شرور مثل هذه الفيضانات، التي عمِدت أمريكا مؤخراً إلى تفكيكها تفادياً للمخاطر ودرأً للكوارث؛ خاصةً وأن كل شركات التأمين أو معظمها بات يتفادى الدخول في مثل هذه الصفقات الغالية ذات العواقب الوخيمة. ومن استدلوا بآراء سامح أرمنيوس المهندس المصري، ينسون أنّ رأيه كان مقيداً؛ إذ ظل يرافع عن مصلحة بلاده بقوله: "من المستحيل أن يؤثر سد النهضة على حصة مصر من مياه النيل." إذن هو معنيٌ بحماية بلاده، ومن أشهروا القول على إطلاقه، يفتقرون إلى الأمانة العلمية، ويتحملون تبعات هذا التزوير والتجيير لإرادة الآخرين، سيما المتضررين.
    لم أجد شخصاً واحداً مؤهلاً من السودانيين (أو غيرهم)؛ ينافح عن حق الإثيوبيين في بناء "سد الدمار الشامل" كما يسميه السيد/ إبراهيم يوسف الخنّاقي (عضو حركة تحرير بني شنقول والشخص الأبرز في الدفاع عن حقوق أهله)، غير الإنقاذيين الذين لبثوا ردحاً من الزمن يبثون خطاب الكراهية تجاه مصر، بسبب موقفها من الإسلاميين. اللجنة الفنية التي تم تعينها في عهد البشير، والتي ظلت تعمل بموجهاته، والدكتور/قانوني سلمان محمد سلمان، سوداني الأصل والمنشأ، والذي اطلعت على مقالاته، فوجدت جُلها ينطلِقُ من انحياز تام، وموقف مسبق لا يخضع لأقيسة المنطق، ولا يقبل الأدلة؛ فهو كثيراً ما يدل على رجاحة قوله بعبارات من مثل: "وقد اتفق معظم خبراء المياه" وقد يضخم من هالة هؤلاء الخبراء بإضافة مناصبهم الأممية، دون أن يفصح عن التفاصيل العلمية والمنطقية لهذه الفئة. علماً أنّ الحجة تتخذ قيمتها من ذاتها وليس من إنتسابها لصاحبها؛ فإن هي رجحت كان خيراً وإن هي فسدت كانت في إخفاقها مرداً على متقلدها. وإذا ما ذهب القانوني الضليع ومستشار إثيوبيا في مفوضات نهر النيل، د. سلمان محمد سلمان، لتفنيد أراء الآخرين المختصين في الهندسة والجيولوجيا، قد لا يجد أكثر من وصف حججهم الراجحة، بأنها مجرد "كلام سياسي". علماً بأن القانونيين سُمُّوا قانونيين لأنهم يقننون آراء السياسيين. حتماً، هم لا يعتمدون على التعاون بين الدول المشاطئة أو غيرها على حسن النية.
    نلاحظ أنَّ دكتور سلمان كثيراً مايلجأ لتدعيم حجته بالإشاره إلي كبريات الجامعات، وما يذكره من حجج "راجحات"، سرعان ما تنقلب حجة عليه و دليلاً على رجحان رأي خصمه. وهذا دوماً حال من يخوض في غير مجاله، ويتدخل في غير ما يعنيه. الأمثلة كثيرة لكنني أخص بالذكر، أولاً ، قوله (أن السد سيحد من أثر الفيضانات)، علماً بأنَّ فيضان النيل الأزرق هو فيضان نهري عادي، إذا ما قورن بنهر القاش الذي يسمّى نهراً جارفاً، نسبةً لاندفاعه بمعدلات عالية، قد تفوق سبعين كيلومتراً كما بيّن دكتور محمد عبدالحميد، لمن كان قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد (راجع اللقاء الذي لقاء أجرته مع حضرته الأستاذة نجاة الحاج لصالح جريدة أخبار اليوم 24 مارس 2020م). ثانياً، من الحجج التي يقدمها دكتور سلمان، هو يعتبر أن الطمى الذي يحتجزه السد مزية على اعتبار أن الإطماء يضعف إمكانية التوربينات لإنتاج الكهرباء، فيما هي بلية تفقد التربة خصوبتها وتسهم في تعرية الجزر والسواحل. ثانياً، من الحجج التي يقدمها دكتور سلمان، أنَّه يعتبر احتجاز السد للطمي مزية، فيما هي بلية تفقد التربة خصوبتها. ثالثاً، من جملة الحجج التي سعى لدعم حجة مُخدميه بها أورد القانوني الضليع ومستشار إثيوبيا في مفوضات نهر النيل، د. سلمان محمد سلمان "أن انحسار فيضان النيل الأزرق يقلل من الدمار الذي قد يسببه اندفاعه" علماً بأن هذه (الخسائر) التي يسببها – والتي شملت في السابق انهيار بعض البيوت التي يبنيها أهلها مخالفين نصيحة المهندسين – لا تقارن بالمنفعة التي يجنيها فقراء المزارعين في الشمالية من زراعة الجزر وزراعة الجروف (راجع الجدول أعلاه).
    الكل يعلم أن كبرى هذه الجامعات غدت أداة في يد الاستخبارات التي تحرك الفاعلين السياسيين فتجعل منهم جماعة ضغط تعمل لصالح الصناعات العسكرية. بالمناسبة. قديماً دشن نيشة نقداً جذرياً واستكماله هايدغر أفقد "المعرفة الإنسانية والمفاهيم المتشعبة عنها كالقضايا والأحكام والتصورات" أوصاف الإطلاقية والوثوقية، حيث غدت أثراً أو مفعولاً لإرادة القوة أو السلطة (دكتور عبدالرازق بلقروز، المعرفة والارتياب 2013، ص 166). عليه يجب أن لا يلجأ د. سلمان لجعل هذه الجامعات ذاتاً ويجعل منا موضوعاً، بل أن يقرر بأن الذات لا ينفصل عن الموضوع في هذه الحالة، وفي جميع الحالات الأخرى. وللعلم، حتى هؤلاء لم يؤيدوا سلمان فيما ذهب إليه من حجج.
    انظر إلى براعة دكتور سلمان عندما طفق يفتي في مجاله القانوني، إذ كان يومئذٍ من ضمن المدافعين عن قانون 2005، الذي تم بموجبه إلغاء قانون مشروع الجزيرة لعام .1984 تتضمن القواعد الأساسية لقانون 2005 الأتي: إتاحة حرية اختيار المحاصيل الزراعية، خيار تمليك الأراضي الزراعية، إعطاء المزارع الحق في التصرف في الأراضي الزراعية، إنشاء روابط مستخدمي المياه، وتقليص دور مجلس الإدارة. بعد هذا؛ لك أن تتصور أيها القارئ الكريم ما أحدثه هذا القانون من تدمير لمشروع الجزيرة، شمل الاتي: إعطاء حرية زراعة المحاصيل، أدى الي توفر عدد محدد من المنتجات الزراعية لم تجد التسويق الكافي، إلغاء وإعفاء الخفراء والمفتشيين الزراعيين أدى الي تدهور عام في مشروع الجزيرة، تقليص مهام إدارة مشروع الجزيرة، أدى إلي فقدان عدد كبير من أصول المشروع الجزيرة.
    هكذا تصرفات في أي بلدٍ غير هذا البلد السايب، يمكن أن ترقي إلى جريمة الخيانة العظمى، لكنّا بعد لم نصل إلى البلية الكبري، والتي تتمثل في تقلد البعض لمنطق رأسمالي في بعض الأحايين، ولجؤهم إلى منطق اشتراكي في أحايين أخرى. وما ذلك إلا بسبب الانفصام الفكري والانشطار المفاهيمي الذي يحدثه غالباً التفكير المصلحي والأفق الذاتي الذي يجعل شخصاً يعمل مع جهة ويفتي لخصمها!
    أمّا الدكتور النور حمد فلم يُقْحِم نفسه كخبير في شأن هندسي وفني، لكنه كأديب يهمه أمر التدامج الثقافي والإجتماعي عَوّل على التلاحم الحيوي بين شعوب الهضبة والسهل؛ وهذا أمر حميد على ألا يُتَخَذ ذريعةً لإحداث قطيعةٍ غير منطقية مع الجارة الشمالية (مصر المؤمَّنة بأهل الله)، واستيهام واقع شعوري لإسقاطه على حالة اقتصادية حرجة وسياسية مضطربة. لن يستطيع السودان العبور بقوة إلى إفريقيا دون الإستعانة بالجارة الشقيقة مصر، على أن يستهل ذلك بتعاون ينشد الندية، إحترام سيادة السودان الوطنية على أراضيه كافة (يشمل ذلك حلايب)، استشرافاً لمستقبل استراتيجي تنموي، وضماناً لتلاحم حقيقي وحيوي بين شعوب وادي النيل.



    الخاتمة
    إن الصراع الدائر الآن في المنطقة لا يمكن تجنبه إلّا بطرح رؤية استراتيجية جامعة تعزز وتدعم المشاريع الوطنية لشعوب المنطقة كافة. لذلك يرى التقرير بأنَّ اولى خطوات جمع الشمل هو الالتزام بالهدف الاستراتيجي الأعلى المتمثل في عدم اتباع نهج التجزئة، بل الشروع في التخطيط جِدياًّ كي تشكل جميع المشاريع المائية في حوض النيل جزءاً من خطة أو منظومة متكاملة. تحتاج دول حوض النيل لفتح حوار سياسيٍ متزن، ليس فقط حول الجوانب الشكلية أو الاعتبارات البيروقراطية، إنَّما أيضا حول المضامين والأهداف. لا يمكن ترتيب سُلم الأوليات الاستراتيجية وفق ما هو مدرج أعلاه، إذ أن أغلب الشروط أو جلها غير مستوفاة (خاصة إذا ما عمدنا لتفحص كل مربع على حداه، ثم العمل للربط بين جميع المرابيع أفقيّاً)، وما هو متوفر منها لا يخضع لمعايير مهنية وعلمية دقيقة؛ ألامر الذي من شأنه أن يحدث فوضى إدارية عارمة وتنفيذية صاخبة نتيجة لغياب الأقيسة التي تسهل على التنفيذيين مراجعة تقارير الأداء كي ما يكونوا على استعداد على تدارك أي شروخ قد ترصد في دورة تصميم وتنفيذ السياسات أو تعمل جاهدة على مراجعة الأهداف غير الواقعية. سيما الوقوف على تفاصيل الخطة التنفيذية التي تكشف عن تفاصيل المسار التشغيلي.
    لقد وافقتا (مصر والسودان) في إعلان المبادئ (2015)، على طلب إثيوبيا بزيادة سعة السد، شريطة أن يُسلما نسخة من التصميم وإجراءات السلامة؛ علماً بأن الإثيوبيين شرعوا في بناء السد عام 2011م، وذلك في حد ذاته يعد خرقاً لاتفاقية (1902م)، والتي تشترط التزام الأطراف كافة وعدم بناء سدود على النيل الأزرق وفي ديار بني شنقول خاصة، إلا بعد التشاور مع الأطراف المعنية في هذه الحالة، السودان البلد الذي يمتلك الحق السيادي، غير أن الإدارة المصرية البريطانية (1898م إلى 1956م)، أعطت إثيوبيا بموجب الاتفاق الذي أبرم عام 1902، حق الانتفاع المشاع فقط، فأوْلَتها مهمة إدارة ديار بني شنقول، مقابل تقرير شهري عن أحوال المواطنين السودانيين، يقدم من مدير إقليم بني شنقول إلى مدير مديرية فازوغلي (حالياً النيل الأزرق)، و99 كيلو من الذهب ترسل سنوياً لملكة بريطانيا. لا ننسى أن محمد علي باشا غزا السودان من أجل ذهب بني شنقول وظل يحكمه في الفترة 1821م إلى 1885م، حتى أخرجته المهدية عُنوة وظل السودانيون يحكمون أرضهم ويفرضون سيطرتهم على كافة الأراضي حتي سقوط أخر جندي في أم دبيكرات.
    إنَّ الأمر اليوم يتعدى حق الانتفاع إلى تهديد حياة الشعوب، فقد تنقلب وفرة المياه إلي جفاف يحرم السودان من زراعة دورة واحدة، دعك عن دورتيْن، بل قد تنعدم الكهرباء إذا ما قرر الإثيوبيون استخدام السد كسلاح في محاولتهم للاستيلاء على موارد السودان الأخرى، وقد تكون هذه نيتهم، إذا ما نظرنا إلى تصرفاتهم غير المهنية وغير الأخلاقية. لقد رفضت إثيوبيا إيراد أي فقرة في إعلان المبادئ عن التزامها عدم الإضرار بمصالح دول المصب، فيما اخذت مصر تدابير تحوطية وعَنِيت فقط ببند الملء والتشغيل (وقد رفضت إثيوبيا إشراكها حتى في هذا البند، فلم يكن من الرئيس السيسي إلّا أنه استضاف أبي أحمد وألزمه أن يقسم في مؤتمر صحفي، بعدم الإضرار بمصر وأهلها، وطلب منه تكرار ذلك مراراً!)، في حين اكتفى السودان بمجرد تطمينات قلبية وأمنيات شبقية كقولهم "الحبش بِحِبُونا"؛ إنها ذات العقلية الساذجة التي أدارت النخب السياسية بها السودان ردحاً من الزمان.
    لقد دعم السودان عبر تاريخه جُل حركات التحرر الوطني من دول الجوار، منطلقاً من عاطفة آنية غير مسترشدٍ باستراتيجية مستقبلية، فلا غرو أن انقلب أصدقاء الأمس إلى أعداء اليوم. لابد من اتخاذ موقفٍ صارمٍ ينشد الإنصاف لشعبي وادي النيل، بالتركيز على هذه النقطة بالذات، فإن الأمر يتعدى حساسية العلاقات السياسية، إلي منظور الصراع بين قوي الحياة وقوي الموت، ومخصوصية الخلل التفاوضي لقيمة الموارد المائية، لا تقف عند سد النهضة، بل تتعداه إلي قضية السيادة الوطنية المُفرَّط فيها منذ أمدٍ بعيد. بمعني أن الموضوع بلغة أهلنا أصبح "ألمي حامي ما لعب قعونج". لماذا ثار الشعب، إن لم يَثُر لتحقيق هذه الغايات والأهداف والمقاصد؟

    توصيات عاجلة:
    تنسيق استراتيجي وحيوي وفعال مع جمهورية مصر العربية في شأن السد، سيما وأنّ دول المصب، لم تستنفد بعدُ السبل القانونية كافة، ولم تعمل على كسر الجمود الحالي، بربطها لقضية السد بقضايا أخرى.

    مطالبة إثيوبيا بإيقاف الاعمال في السد فوراً، واعتبار استمرارها في البناء تغولاً علي أراضي سودانية، وانتهاكاً لحرمة السودانيين القابعين منذ زمن الاحتلال الإثيوبي.

    إلغاء لجنة الرئيس المخلوع عمر البشير الفنية، وتكوين لجنة قومية بعضوية عسكريين سيما أن الأمر يتعلق بتهديد مباشر للأمن القومي، دبلوماسيين، مهندسين وزراعيين، فنيين، ممثلين لمزارعي الجروف، فاعلين سياسيين ومدنيين، يشمل ذلك، قادة من حركة تحرير بني شنقول، ونخبة من الزعماء الأهليين، الإعلاميين إلى آخره، لتحديد المسار الذي يلزم اتخاذه، سيما وأنَّ الأمر ذو طبيعة سيادية في المقام الأول، ولا يلزم حصره في دائرة فنية هندسية تقلل من خطورة الاحتلال، وتقر بسياسة وضع اليد.

    وضع استراتيجية إعلامية شاملة، وتصميم خطة مرحلية نابهة، للتواصل مع المعنيين كافة، ومع مجموعات الضغط الفاعلة علي الصعيدين، الإقليمي والدولي في شأن السدود وسلامتها. خاصة وأنَّ بعض المنظمات العالمية، مثل منظمة الأنهار الدولية، قد أبدت انزعاجها من تصميم إثيوبيا المضي قدماً في هذا المشروع غير آبهة بتحفظات الأخرين.

    تكوين هيئة قومية تُعني بتقديم الدعم اللوجستي والإعلامي، والمالي اللازم لتأهيل الناشطين والفاعلين في هذا الصدد، كما التفكير بصورة مؤسسية في إمكانية تكوين مركزية، دراسات بحثية، ترتبط ارتباطاً حيوياً بالهيئات العالمية والعلمية المعنية بدراسة السدود. لابد من إنشاء صفحة إلكترونية تعمل على بث نشرات دورية عن "سد النهضة"، تغطي الجوانب الاجتماعية والسياسية الفنية، والهندسية، والقانونية، وتطلع المواطنين على آخر التطورات، كما تحثهم على التبرع لدعم الجهد الشعبي الذي يعمد على بث الوعي بأهمية اتباع السبل المنهجية والعلمية في التفكير والتخطيط لمستقبل البلاد.

    إن المضي قدماً في التفاوض مع الإثيوبيين وبذات النهج الذي اتبعته الإنقاذ، يعتبر بمثابة اعتراف ضمني بسيادة إثيوبيا على أراضي بني شنقول. عليه، فلابد من تغيير أسس التفاوض علي أن تصبح الأولوية للنظر في المشروعية قبل "المشروع". كما الإقرار بأنه لا يجوز لأي حكومة كانت، انتقالية أو غيرها، التنازل عن حقوق السودانيين التاريخية، إلا من خلال التصويت داخل جمعية برلمانية منتخبة، تتيح المجال للتعريف بوجهات النظر كافة، عِوضاً الاحتكار أو الإقصاء الذي كانت تمارسه الإنقاذ، في شأن علماء أجلاء وناشطين مخلصين، نذروا جهدهم وبذلوا أنفسهم لهذا الوطن المعطاء.

    الملاحقة القانونية لكل من يثبت تواطؤه من السودانيين مع الإثيوبيين، خاصة أولئك الذين انطلقوا في تأييدهم لبناء السد، من اعتبارات سياسية أو اجتماعية خاصة، اعتمدوا الفهلوة الإعلامية كوسيلة للتغطية علي عجزهم في تقديم البراهين العلمية ، وعن تقاعسهم في اتّباع الخطوات المؤسسية اللازمة لتمرير مثل هذه المشاريع الضخمة، واستمرأوا الكذب والتضليل وتزوير آراء الآخرين، العالِمين منهم خاصة، لشرعنة مشروع ينذر بدمار السودان، وقد يتسبب في اندثار حضارة وادي النيل بأكملها.




    عرفان وتقدير
    لا يفوتني في هذه السانحة، أن أشيد بنضالات "حركة تحرير بني شنقول" وفي مقدمتهم سعادة السفير/يوسف حامد العجمي، وأن أثمن من مجهودات "مجموعة مخاطر السد الإثيوبي" وهي القوى المناهضة لسد النهضة، وأخص منهم بالشكر الأخ محمد عثمان الفاضلابي الذي وافاني بالوثائق اللازمة وأمتعني بمعارفه الوارفة، مع تحملي لكافة التبِعات المترتبة عن التحليل، الاستنتاج، أو الاستقراء. كما أود أن أزجي الشكر عطراً للأخت العزيزة الدكتورة تيسير الفكي التي استحثتني للكتابة في هذا الشأن، وأمدتني بالمصادر اللازمة، كما الزمتني الكتابة في هذا الشأن الحيوي باعتباري واحداً من قادة الرأي، رغم تمنعي أو تهربي، ذلك أنني أري أن الأمر يجب أن يترك لذوي الاختصاص. بالرغم عن تخصصاتي العديدة كمهندس، أستاذ علوم سياسية وخبير في التنمية العالمية، إلا انّني أعتقد أنّ هناك من هو أكفأ مني للحديث في هذه المسائل، وما ذلك تواضعٌ مني، إنّما إحقاقٌ للحقيقة المَضِيعة: لم تعاني بلادنا من أمرٍ قدر معانتها من المتنطعين والمتغولين على ساحات الآخرين المقتدرين. هنا يجدر بي الإشارة إلى صحفيينا الأوفياء، بل الوقوف إجلالاً وإكباراً لعلمائنا الإجلاء، الذين، في سبيل إيصال صوت الحق، تحمّلوا الأذى من أولي الأمر والإعراض من أصحاب الغرض، فلم يزدهم ذلك إلّا عزماً وإصراراً، فلهم منّا التّحية والتِجلة، ولجماهير شعبنا الأبي جميل المعزة وكامل الإحترام.




















    روابط إلكترونية ذات صلة أساسية بالموضوع























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de