حين يُستدعى الله إلى ساحات القتل- الجهاد كأداة للسلطة في تاريخ النخب السودانية كتبه خالد كودي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 11-15-2025, 05:31 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-12-2025, 11:16 AM

خالد كودي
<aخالد كودي
تاريخ التسجيل: 12-31-2021
مجموع المشاركات: 174

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حين يُستدعى الله إلى ساحات القتل- الجهاد كأداة للسلطة في تاريخ النخب السودانية كتبه خالد كودي

    11:16 AM November, 12 2025

    سودانيز اون لاين
    خالد كودي-USA
    مكتبتى
    رابط مختصر



    حين يُستدعى الله إلى ساحات القتل- الجهاد كأداة للسلطة في تاريخ النخب السودانية

    11/11/2025 خالد كودي، بوسطن

    منذ بدايات الدولة السودانية الحديثة، لم تكن الدعوة إلى "الجهاد" سوى الوجه الأكثر عُريًا لسياسة النخب التي تستخدم الدين غطاءً لمشروعاتها في السيطرة وإعادة إنتاج امتيازاتها الطبقية والإثنية.
واليوم، مع دعوة هيئة علماء السودان إلى "الجهاد في السودان" في خضمّ الحرب الراهنة، ورفضهم الصريح لبيان رابطة العالم الإسلامي التي أدانت هذا الخطاب واعتبرته "تلاعبًا بفضيلة الجهاد"، يتكرر المشهد ذاته الذي شهدناه في محطات تاريخية سابقة: استدعاء العاطفة الدينية لتعبئة الفقراء والبسطاء، بينما يبقى أبناء تلك النخب في مأمنٍ من الحرب، يتبادلون المناصب والمكاسب، ويبرّرون القتل باسم الله.
    ما جرى في ردّ هيئة علماء السودان على الرابطة العالمية يفضح جوهر الصراع داخل الخطاب الديني نفسه: فبينما تحاول أصواتٌ إصلاحية على مستوى العالم الإسلامي نزع القداسة عن الحروب السياسية، تصرّ النخب الدينية السودانية على الاحتفاظ باحتكار تفسير الدين لتبرير حروبها، وكأنها تفوّض نفسها بالحديث نيابة عن الله والوطن معًا. هذه الدعوة ليست مسألة فقهية أو خلافاً في التأويل الشرعي، بل تعبير سياسي مكتمل الأركان عن تحالف الفقيه والسلطان، حيث يتحول المنبر الديني إلى أداة تعبئة عسكرية وأيديولوجية تحرّض على القتال بين أبناء الشعب الواحد.

    إنّ تصريحات رابطة العالم الإسلامي —التي قالت بوضوح إنّ الحرب في السودان "خلاف دنيوي بين مسلمين، لا تُعدّ من حروب الجهاد"— كشفت هشاشة الخطاب المحلي الذي يسعى إلى تغليف الصراع السياسي بثوب ديني. وفي المقابل، جاء ردّ هيئة علماء السودان ليؤكد مدى تغلغل الفكر الفاشي الإسلامي في بنية النخب السودانية، واستمرارها في استخدام ذات القاموس الذي وظّفته من قبل في حروب الجنوب ودارفور وكردفان.
فبدلاً من الاعتراف بالأزمة الأخلاقية والسياسية، تعود تلك النخب إلى أسطورة "الجهاد المقدس"، مُحوِّلة الوطن إلى محرقةٍ دينية، يختلط فيها الدم بالشعار، والعقيدة بالمصلحة، والتاريخ بالخرافة.

    بهذا المعنى، تمثل الدعوة إلى الجهاد اليوم ذروة التقاء القداسة بالعنف؛ استمرارًا لمنطقٍ موروث منذ المهدية، مرورًا بحكم الإنقاذ، وصولًا إلى اللحظة الراهنة التي يشهد فيها السودان انكشافًا كاملاً للبنية الفاشية التي تربط الدين بالسلطة.
وهنا لا يكون الخطر في الحرب نفسها، بل في تديين الحرب وتقديس القتل، أي تحويل السياسة إلى لاهوتٍ جديد يوزع صكوك الشهادة على ضحايا الخداع التاريخي، في حين يظل المستفيدون الحقيقيون من النخب في مواقعهم، يكتبون فتاواهم بمدادٍ من دماء الفقراء.

    ١/ الجهاد كأداة للسلطة عبر التاريخ الإسلامي.
    منذ فجر التاريخ الإسلامي، تم توظيف فكرة الجهاد سياسيًا لتبرير الصراع على الحكم والثروة. فالأمويون رفعوا راية الدين لإسكات المعارضة، والعباسيون استخدموا "الثأر لآل البيت" ليقيموا سلطتهم على جثث خصومهم. لم يكن الأمر اختلافًا في العقيدة، بل في من يحتكر الحديث باسمها. وكما قال عبد الرحمن الكواكبي في طبائع الاستبداد مايعني:
    "الاستبداد يتخذ من الدين سلاحًا؛ يفسد به الدين ويستعبد به الناس."
    وفي التاريخ الإسلامي الوسيط، تكررت المأساة ذاتها في صور محلية: دعاة الجهاد ضد "المرتدين"، ثم ضد "الزنادقة"، ثم ضد "الكفار"، دون أن يجرؤ أحد على توجيه الجهاد ضد الاستبداد نفسه، ويا للعجب!

    ٢/ السودان لم يكن استثناءً من منطق توظيف الدين لخدمة السلطة، بل يمثل أحد أبرز النماذج في التاريخ الحديث على كيفية استخدام الخطاب الديني كغطاء للهيمنة السياسية وشرعنة العنف. فدعوات “الجهاد” المتكررة، منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم، لم تصدر من قوى شعبية حرة بقدر ما كانت أدوات بيد النخب الساعية إلى ترسيخ سلطتها وإعادة إنتاج امتيازاتها الطبقية والإثنية.
    أبرز هذه النماذج ما حدث في الثورة المهدية في أواخر القرن التاسع عشر. فقد أعلن محمد أحمد المهدي دعوته الدينية –السياسية عام 1881، واستطاع خلال بضع سنوات أن يؤسس دولة مركزية قوية بلغت ذروتها بسقوط الخرطوم عام 1885 وقيام الدولة المهدية (1885–1898). غير أنّ المشروع الذي بدأ كمقاومةٍ ضد الاحتلال التركي–المصري سرعان ما تحوّل إلى منظومة قمع داخلي؛ إذ واجه النظام المهدوي المعارضين من العلماء والمفكرين ورجال الدين بتصفيات جسدية ونفيٍ وتعذيب، بينما تبنّى خلفاء المهدي سياساتٍ عسكرية قاسية شملت القتل، الاسترقاق، والاضطهاد، مبرّرين تلك الممارسات بتأويلات دينية زُعِم أنّها مستمدة من النصوص الشرعية. انتهت الدولة المهدية بهزيمتها في معركة أم درمان عام 1898، لكنها خلّفت إرثًا بالغ التأثير الي يومنا هذا: نموذجًا لتقديس السلطة وتبرير العنف باسم الدين، إرثًا ما زالت تداعياته حاضرة في الوعي السياسي والاجتماعي السوداني حتى اليوم.
    وفي التاريخ الحديث، أعادت حكومة الإنقاذ الإسلامية (1989–2019) إنتاج أبشع أنماط توظيف الدين في خدمة السلطة، ولكن في صيغةٍ أكثر إحكامًا وتنظيمًا. فبانقلاب 30 يونيو 1989، استولت النخب الإسلامية والعسكرية على الحكم تحت لافتات "التمكين" و"الجهاد"، لتبدأ حربًا شاملة ضد الجنوب وضد كل من عارض مشروعها من قوى مدنية أو جماعات الهامش في الغرب والشرق والشمال. لم يكن ذلك مجرد خطاب تعبوي، بل منظومة دولة كاملة قامت على الإقصاء باسم الدين، أصدرت القوانين القمعية، وأطلقت أجهزة أمنية تمارس العنف بوصفه عبادةً، وميّزت بين المواطنين على أسس دينية وإثنية. هكذا تحوّل الدين إلى غطاءٍ أيديولوجي عنصري لمشروعٍ سلطوي–اقتصادي هدفه تركيز الثروة والسلطة في يد فئة ضيقة من النخبة الحاكمة، بينما استُخدم "الإيمان" لتطويع الفقراء والمهمّشين ليقاتلوا في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل!
    ومن رحم تلك السياسات خرجت مأساة دارفور منذ عام 2003، حين صاغت النخبة الحاكمة خطاب "الجهاد" وألبسته ثوب "الاستنفار القبلي"، فتمّت تعبئة مجتمعات مهمّشة ومفقّرة – من أبناء البادية والريف – ليقاتلوا مجتمعاتٍ مهمّشة مثلهم، في معادلة "فرّق تسد" التي كانت وما زالت أداة المركز لضمان بقائه. فقد جرى تسليح المليشيات – التي بدأت كقوات حرس حدود ثم تحوّلت إلى ما عُرف بـ"الجنجويد" ولاحقًا "قوات الدعم السريع" – في إطار سياسة رسمية هدفت إلى نقل عبء الحرب من الجيش النظامي إلى مجموعات اجتماعية مقموعة، تُستخدم وقودًا لحروب الإبادة والتطهير العرقي. وهكذا ارتُكبت الجرائم الجماعية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بخطاب اثني، ديني–أمني يربط القتل بالطاعة لله، بينما كانت أرباح الحرب ومكاسبها الاقتصادية والسياسية تتكدس في الخرطوم بين أيدي النخب الإسلامية وشركائها من الطفيليين، الذين لا يزالون حتى اليوم يحرّكون بقايا تلك الشبكات باسم الدين والوطن والهوية.
    هذا تاريخٌ قريب، لم يغادر الذاكرة السودانية بعد، وتداعياته ما تزال فاعلة في النسيج الاجتماعي والسياسي: من تفكك الثقة بين المكوّنات الوطنية، إلى إعادة إنتاج مناخ الاستقطاب الديني والعنصري الذي يُغذّي العنف ويشرعن الاستبداد. إنّ قراءة هذه الوقائع بوعيٍ تاريخيٍّ نقدي تُظهر أنّها ليست حوادث عرضية، بل ديناميكية بنيوية تربط الدين بالسلطة لتحقيق السيطرة الطبقية والإثنية. ولذلك فإنّ أي مشروعٍ لإعادة بناء الدولة السودانية لا بدّ أن يبدأ بفصلٍ صارمٍ بين المقدّس والسياسي، وبإرساء آليات مساءلةٍ قانونية وأخلاقية ضد كلّ من يحرّض على العنف أو يبرّره باسم الدين — فذلك هو الشرط الأول لإنهاء دورة الاستبداد واستعادة معنى العدالة في التاريخ السوداني، لابد من علمانية الدولة.

    ٣/ الفاشية الإسلامية في السودان كمنظومة فكرية – في الخبرة التاريخية السودانية
    إنّ تناول ظاهرة استغلال الدين في السياسة لا يُمكن أن يقتصر على وصفها كحالة فسادٍ أخلاقي أو انحرافٍ أيديولوجي وحسب، بل يجب تحليلها بوصفها نظامًا متكاملًا من الاستبداد الأيديولوجي، يتقاطع في بنيته الفكرية وآلياته العملية مع الفاشية الأوروبية الكلاسيكية. فـ"الفاشية الإسلامية" في السياق السوداني ليست ظاهرة طارئة أو محلية فحسب، بل امتداد لنسق عالمي قديم في استخدام المقدّس لتبرير السلطة، وإعادة إنتاج الهيمنة باسم الخلاص الديني.

    أولاً – من المنظور المفاهيمي العام
    - يرى روجر جريفين أنّ الفاشية الأوروبية هي نموذج لـ"البالينجينية"
    (palingenetic fascism)
    أي مشروع "الولادة الجديدة للأمة" عبر ثورةٍ خلاصية يقودها زعيم كاريزمي يُقدَّم باعتباره تجسيدًا للبعث الوطني. هذه النزعة المخلِّصة نجدها أيضًا في الخطاب الإسلامي السياسي الذي يعد الأمة بالنهضة من الانحطاط والانقسام عبر العودة إلى "النقاء الديني الأول."
    - أما إميلّيو جنتيلي فقد صاغ مفهوم "تقديس السياسة"
    (sacralization of politics)
    أي تحويل السياسة نفسها إلى دينٍ بديل، حيث تُمنح الدولة أو القائد هالةً من القداسة، وتتحول الطقوس القومية والعسكرية إلى شعائر شبه دينية. وهو ما نراه في السودان حين تُستدعى مفاهيم "الجهاد" و"التمكين" و"البيعة" لتبرير الخضوع المطلق للسلطة.
    - ووفقًا لتحليل حنة أرندت، فإنّ الأنظمة الشمولية تُحافظ على بقائها عبر صناعة الخوف واحتكار الحقيقة، وتحويل الرعب إلى وسيلةٍ لإنتاج "الشر الراديكالي" — وهو الشر الذي يُمارس باسم الواجب أو العقيدة، لا بدافع المنفعة الشخصية فحسب. وهذه الآلية نجدها بوضوح في خطاب الحرب السوداني الذي يجعل القتل طقسًا وطنيًا مقدسًا.

    ثانيًا – آليات التشابه بين الفاشية الأوروبية والفاشية الإسلامية في التجربة السودانية
    ١/ أيديولوجيا الخلاص والبعث المقدّس
تقوم كلتاهما على سردية "الأمة المهدَّدة" التي تحتاج إلى تطهيرٍ وتجديدٍ جذري. فالفاشية الأوروبية تحدثت عن "إحياء الأمة بعد الانحطاط"، بينما تتحدث الفاشية الإسلامية عن "نصرة الدين والدفاع عن الأمة ضد الكفار أو العملاء والغزاة". في الحالتين، يصبح العنف واجبًا خلاصياً يَعد بالخلاص الجمعي عبر الفناء
    ٢/ تقديس القيادة والزعيم المعصوم
في كلتا الحالتين، تتحول المؤسسة السياسية إلى امتدادٍ لمشيئة الزعيم الذي يُقدَّم كمنقذٍ فوق القانون والدستور. في السودان، عُومل زعماء مثل المهدي أو الترابي لاحقًا بوصفهم أصحاب "رؤيةٍ ربانية" لا تُناقش، مما أنتج تبعية فكرية وروحية تسلب الأفراد حقهم في النقد والعقلانية.

    ٣/ تطهير المجتمع وصناعة "الآخر"
تقوم الفاشية على خلق عدوٍّ داخلي يبرّر القمع. ففي أوروبا كان الآخر عرقيًا أو إثنيًا (اليهود، الغجر، المعاقين، الشيوعيون...الخ)، بينما في الفاشية الإسلامية يُعاد تعريف "الآخر" بوصفه "مرتدًّا" أو "عميلًا" أو "متمردًا على الدين". في السودان، استُخدم هذا المنطق لتبرير الحرب ضد الجنوب غير المسلم، ثم ضد دارفور المسلمة، فصار العنف الديني أداةً للتطهير الجهوي والعرقي!
    ٤/ أسلمة السياسة وتقديس الدولة
كما شرح جنتيلي في الفاشية الإيطالية، حيث تحولت الدولة إلى دينٍ جديد، نجد في التجربة الإسلامية السودانية أن السياسة نفسها أُسلمت، والنصوص الشرعية أُعيد تأويلها لتبرير القتل والتعذيب باسم "التمكين" و"الدفاع عن العقيدة". تم تحويل المساجد إلى منابر تعبئة عسكرية، والخطب إلى بيانات حرب مقدسة.

    ٥/ ميكانيزمات العنف النظامي والمليشيوي
في كلٍّ من أوروبا الفاشية والسودان الإسلامي، كان العنف المؤسسي هو العمود الفقري للنظام. استخدمت الأنظمة الأوروبية ميليشياتٍ مثل "القمصان السوداء" و"العاصفة البنية"، بينما طوّر النظام السوداني نسخته الخاصة في شكل الدفاع الشعبي، ثم الجنجويد، ولاحقًا الدعم السريع قبل ان تنقلب عليه، والان كتائب البراء ودرع الشمال والبنيان المرصوص. الخ.. هذه الأجهزة نشأت كأذرعٍ موازية للجيش الرسمي لتنفيذ سياسات التطهير والقمع في الهامش، قبل أن تتمرّد لاحقًا على سلطة المركز حين بدأ وعيها السياسي يتجاوز حدود الاستخدام.

    إنّ الفاشية الإسلامية في السودان ليست مجرد ظاهرة دينية، بل بنية فكرية، سياسية تشبه الفاشية الأوروبية في تقديسها للخلاص، واحتقارها للعقل النقدي، ودمجها المطلق بين السلطة والقداسة. إنها نسخة محلية من الاستبداد المقدّس الذي يستخدم العاطفة الدينية لتبرير السيطرة الطبقية والإثنية، ويُنتج العنف بوصفه طقسًا تطهيريًا يُكرّس بقاء النخبة
    ولذلك، فإنّ فهم الحاضر السوداني لا يكتمل إلا بإدراك هذا الجذر الفاشي الكامن في تاريخ النخب الدينية والسياسية التي جعلت من "الله" شعارًا ومن "الحرب" عبادة، لتعيد إنتاج ذات البنية التي قاومتها البشرية في أوروبا مطلع القرن العشرين — بنسخة سودانية من الفاشية ذات العمامة.

    ثالثًا — المرجعيات الفكرية
قدّم فرانتز فانون قراءةً نفسية–سياسية دقيقة تشرح كيف يُعاد إنتاج القهر حين يصدّق المقهورون خطاب التحرر الزائف فيتحولون إلى أدوات بيد جلاديهم. أما عبد الرحمن الكواكبي فقد كشف في طبائع الاستبداد أن «الاستبداد يفسد الدين ويستعبده»، رابطًا بين الاستبداد واستغلال المقدّس لتثبيت الحكم. في حين أظهر كلٌّ من عبد الله العروي وصادق جلال العظم كيف تتماهى السلطة في المشرق مع الدين لتغذية تاريخ طويل من الخضوع الجماعي وإلغاء النقد.

    رابعًا — التطبيق على الحالة السودانية
    - المهدية (1881–1898): بدأت حركة مقاومة ضد الاستعمار، لكنها سرعان ما تحولت إلى دولة تُقدّس الزعيم وتقصي المعارضين باسم الدين، مؤسِّسةً لسابقة الربط بين القداسة والسلطة
    - نظام الإنقاذ (1989–2019): استدعى شعارات الجهاد والتكبير لتبرير الحرب والقمع، وحوّل الدين إلى أداة سياسية لتعبئة الفقراء والمهمشين لتثبيت حكم النخب، منتجًا ميليشياتٍ وطبقة طفيلية حاكمة.
    - دارفور (2003 فصاعدًا): جسدت استخدام خطاب الأمن والقومية الدينية لتبرير الظلم والتهميش، والإبادة ورفض السلام، حتى تمردت بعض تلك الميليشيات – ومنها قوات الدعم السريع – على سلطة المركز.
    - تفجر 2023: أعاد إنتاج المنظومة نفسها؛ زعامات سياسية ودينية تعبئ بخطاب مقدس، ونخب مركزية تستثمر في الحرب وتدفع المهمشين إلى مواجهة بعضهم.

    خامسًا — التحليل المقارن والتحذير:
لا تماثل "الفاشية الإسلامية" نظيرتها الأوروبية حرفيًا، لكنها تشترك معها في البنية الأيديولوجية: أسطورة الخلاص، تقديس القائد، الاستبعاد والعنف باسم الهوية و العقيدة، واستغلال الطقوس الدينية لإضفاء شرعية على القمع. في السودان، أنتجت النخب الإسلامية والعسكرية عبر قرنٍ كامل بيئةً خصبة لإعادة إنتاج هذا النمط، مستدعيةً الدين لتبرير الاحتكار السياسي والاقتصادي.
مواجهة هذه الظاهرة لا تكون بالشعارات، بل بخطوات عملية: فكّ تقديس السياسة، فصل الدين عن الدولة، تأسيس تعليمٍ نقدي مدني، وتفعيل مؤسسات العدالة والمساءلة والمواطنة المتساوية. فالمقارنة بين الفاشية الأوروبية وتجلياتها الدينية في السودان ليست نزعًا للخصوصية، بل أداة تحليلٍ علمي لفهم جذور العنف السياسي وتقديم حلول مؤسسية تمنع تكرار المأساة.

    ٤/ النخب المركزية وتواطؤ الصمت
    المؤسف أن الأحزاب التقليدية في السودان –يمينًا ويسارًا– لم تخرج من عباءة هذه البنية الدينية للهيمنة. فبينما يتاجر الإسلاميون بالعقيدة، يتواطأ المدنيون بالصمت أو التبرير أو المناورة، خشية فقدان الجماهير التي جرى غسل أدمغتها لقرن كامل بخطاب الجهاد والاستنفار.
هذه النخب –التي تعيش في فلك المركز النيلي– تعرف تمامًا أن الحرب ليست حرب دين، ولكنها تجد في تعبئة البسطاء وسيلة للبقاء في المشهد السياسي، ولو كان الثمن دماء الأبرياء.
    كما حدث في الجنوب، ودارفور، وكما يحدث اليوم، تُرفع رايات "الاستنفار" لا لحماية الوطن، بل لحماية امتيازات نخبة فقدت بوصلتها الأخلاقية.

    ٥/ لحظة التحول: تأسيس السودان الجديد
    اليوم، وبعد إعلان أجزاء من السودان مناطق علمانية في سياق مشروع "تأسيس"، يبدأ تحوّل تاريخي لا رجعة فيه.
هذه الخطوة ليست قرارًا إداريًا، بل تحولًا في الوعي الجمعي، نحو دولة تحرر الدين من قبضة السياسة، وتحرر السياسة من هيمنة المقدس الزائف.
هي لحظة ولادة السودان الجديد، الذي يقرّ بحق الاختلاف والمواطنة المتساوية، ويضع حدًا لقرون من التوظيف الديني للقتل والقمع. لكن النخب القديمة لا تدرك هذه اللحظة التاريخية. تظن أن بإمكانها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فتتخبط بين "جهاد" و"استنفار" و"مناورة وطنية"، دون أن تفهم أن التاريخ قد تجاوزها، وأن السودان يدخل طورًا جديدًا من التأسيس الأخلاقي والسياسي.

    ٦/ أخيرا: ان اردنا الربطٌ بين الخطاب الدولي والمحلي ورؤية "تأسيس"
في الأيام الأخيرة، كشفت المواقف المتضاربة بين الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين / رابطة العالم الإسلامي من جهة، وهيئة علماء السودان من جهة أخرى، عن عمق الأزمة التي نعيشها: فمحاولات الهيئات العالمية لنبذ دعوات الجهاد وتحذيرها من استخدام الفقه لصالح صناعة الميليشيات كانت تهدف إلى كبح اندفاعِ خطابٍ دينيٍ يُعيد تفريخ العنف والتصفية والإقصاء. لكن الرّدّ المحلي الذي وصف بيان الرابطة بأنه «مخزٍ»، والسعي إلى استمرار تعبئة الحواضن الاجتماعية بالخطاب الديني، بيّنا أن الشبكات السياسية والدينية في الخرطوم لا تزال ترى في الدين أداةً فعّالة لإنتاج القوة والامتياز.
    هذا الصدام يعطينا قراءةً واضحة: هناك محاولة دولية نزيهة لفكّ لغة الدين عن آلة القتل، ومقابلها مقاومة محلية تحرص على إبقاء الدين مطيةً للهيمنة. وما بين الخطابين يتجلّى الخطر الحقيقي — وهو أن تستمر النخب المحلية في استغلال الجهل والتهميش، فتصنع من الفقراء وقودًا لحروبٍ لا نصيب لهم فيها سوى الدمار واللجوء.
    أمام هذا الواقع، لا بد من التأكيد أن حلّ الأزمة لا يمرّ عبر فتاوى أو بيانات دولية منفردة وحدها، بل عبر مشروعٍ سياسي-قانوني متكامل: مشروع «تأسيس» الذي يطرح بديلًا مؤسساتيًا واضحًا — فصل الدولة عن الدين، تحصين الحريات الدينية والفكرية، بناء جهاز قضائي مستقل، تفكيك ميليشيات السلاح خارج المؤسسات الشرعية، ومحاسبة مرتكبي الجرائم وفق معايير العدالة الدولية. هذا ليس نزعًا للدين من المجتمع، بل إعادة للدين إلى مجاله الأخلاقي والروحي، وحرمانه من أن يُستَغَلّ وسيلةً للاقتتال وسرقة مستقبل الأجيال.

    قال كانط مايعني: "اخرجوا من قصور الوصاية التي صنعتموها لأنفسكم". هذه دعوة لوقف وصاية النخب على الدين والسياسة ومنح المواطنين أدوات العقل والحقوق والمؤسسات. فصل الدين عن سلطة الدولة إنقاذٌ للإيمان من أن يُختزل شعارًا يبرر القتل، وإقامة دولة علمانية مدنية عادلة ليست إقصاءً للدين بل ضمانًا لحريته. في خضم اختبار السودان التاريخي، الطريق الوحيد لكسر دورة العنف هو بناء مؤسسات مساءلة وديمقراطية تعيد صياغة العقد الاجتماعي على أساس المواطنة المتساوية.

    النضال مستمر والنصر اكيد.

    (أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de