في مشهدٍ يعكس عمق الأزمة الوطنية واستمرار الانفصال عن واقع الشعب، أطلت علينا ما تُسمى بـ"حكومة الأمل"، في محاولة جديدة لإعادة تدوير النُخب الفاشلة، وتكريس بنية السلطة التي فجّرت الحرب وعمّقت المأساة. وفي وقتٍ يبحث فيه ملايين السودانيين عن رغيف خبز وملاذ آمن من نيران المدافع، تقدم لنا السلطة العسكرية حكومة وُلدت من رحم الصفقات والتفاهمات خلف الأبواب المغلقة، لا من صلب الإرادة الشعبية ولا من قلب المعاناة الوطنية. بيع الأمل بوهمٍ جديد أن يُطلق على هذه الحكومة اسم "الأمل" ليس إلا مفارقة قاسية، ومناورة لبيع الوهم في سوقٍ فقد فيه الناس الثقة بكل ما يصدر عن أطراف السلطة. إذ لا شيء في تركيبتها أو خطابها أو منطلقاتها يشير إلى أنها حكومة أمل حقيقي. بل هي، في جوهرها، حكومة محاصصات مكشوفة بين بقايا الحركة الإسلامية، وقيادات الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، إلى جانب بعض التكنقراط من كوادر الصف الثالث من تنظيم الإخوان المسلمين الذين أعادتهم الحرب إلى واجهة المشهد السياسي. حكومة بلا مشروعية... لا داخلية ولا دولية لا يبدو أن هذه الحكومة ستنال اعترافاً داخلياً حقيقياً، ولا قبولاً شعبياً، فضلاً عن الاعتراف الدولي. فالمجتمع الدولي، رغم تباين مواقفه، يدرك أن هذه التشكيلة ليست سوى محاولة مكشوفة لإعادة إنتاج تحالف الحرب، وللاستمرار في احتكار السلطة تحت ستار "الاستقرار" و"هيبة الدولة". فكيف لحكومة لم تنبع من عملية سياسية شاملة، ولم تُبنَ على توافق وطني، أن تقود البلاد نحو السلام والتحول الديمقراطي؟ وكيف لحكومة تتبنى خطاب الإقصاء والتصفية تحت عنوان "القضاء التام على التمرد"، أن تدّعي تمثيل وطن يتشظى ويتآكل؟ كامل إدريس: حُلم فردي في خدمة تحالف الحرب أما رئيس الوزراء المعيّن، د. كامل إدريس، فقد بدا منذ اللحظة الأولى أسيراً لحلمٍ شخصي قديم بلقب "دولة رئيس الوزراء"، وهو حلمٌ طغى على تقديره للواقع السياسي وضرورات المرحلة. لم يأتِ إدريس من بوابة الإرادة الشعبية، بل من كواليس التفاهمات الانقلابية، محاطاً برموز الحركة الإسلامية وقيادات المليشيات، خاضعاً تماماً لشروطهم وإملاءاتهم. بدا كمن يلهث خلف اللقب، ولو كان رئيساً بلا وزراء، وبلا كرامة سياسية، وبلا إرادة حقيقية. صحيح أن إدريس يتمتع بسيرة أكاديمية ودبلوماسية مرموقة، لكن مجرد قبوله بهذا الدور في هذا التوقيت الحرج، وبهذه الشروط المعيبة، يُفقده كثيراً من المصداقية والاحترام. فقد جاء تعيينه بمرسوم من سلطة عسكرية غير منتخبة، في غياب تام لأي تفويض شعبي، وفي ظل حرب مستعرة خلّفت أكثر من 130 ألف قتيل بحسب تقديرات مستقلة. فهل يُعقل أن تكون أولويته "القضاء التام على التمرد"، بينما نصف الوطن مدمَّر وملايين السودانيين بلا مأوى أو غذاء؟ هذا التهافت على المنصب، مقابل تقديم الغطاء لسلطة أمر واقع غارقة في الدم، لا يصنع من إدريس رجل دولة، بل مجرد واجهة تكنوقراطية تبريرية لتحالف عسكري أمني لا يؤمن لا بالمدنية، ولا بالديمقراطية، ولا بالسلام. ومهما حاول أن يضفي شرعية دولية على حكومة معزولة، فإن فاقد الشرعية لا يمكنه أن يمنحها. لقد اختار إدريس موقعه إلى جانب من دمّروا البلاد، لا إلى جانب من يسعون إلى إنقاذها. ما الذي كان يجب أن يحدث؟ إذا كان الفريق عبد الفتاح البرهان صادقاً في حديثه عن "العودة إلى المسار المدني الديمقراطي" – وهو بالتأكيد ليس كذلك – فإن الخطوة الأولى الجادة يجب أن تكون التواضع أمام الإرادة الشعبية، والتفاهم على حكومة انتقالية حقيقية تُبنى من داخل قوى الثورة الحية. حكومة توافق وطني، تضم الأحزاب المدنية، ولجان المقاومة، ونقابات المهنيين، ومنظمات المجتمع المدني التي لا تزال صامدة رغم القصف والنزوح والتنكيل، مع استبعاد الحركات المسلحة التي تورّطت في الحرب. فقط حكومة بهذه المواصفات يمكنها استعادة الثقة، وفتح الطريق نحو سلام عادل، وعدالة انتقالية، ومؤتمر دستوري جامع يؤسس لمرحلة جديدة. خاتمة: الأمل لا يُفرض بمرسوم لن تصنع "حكومة الأمل" الأمل. فالأمل لا يُولد من رحم الانقلابات، ولا من فوهات البنادق، ولا من صفقات الغرف المغلقة. الأمل يولد من العدالة، والمحاسبة، ووقف الحرب، ومن صوت الشعب لا فوق رأسه. كل ما عدا ذلك هو وهم... خداع سياسي هدفه إطالة أمد الأزمة، وإنقاذ من تسببوا فيها من المساءلة والمحاسبة. لكن الشعب السوداني، الذي خرج بالملايين يهتف "حرية، سلام، وعدالة"، لن تنطلي عليه هذه المسرحية الرديئة. وسيظل على العهد، يطلب وطناً حراً، وسلطة مدنية، وسلاماً شاملاً لا يُبنى على الدماء، بل على القيم، والمشاركة، والعدالة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة