تلك لحظة واحدة تعامل فيها مبارك بكل اضطراب حاسم مع مفيد فوزي حين منعه من الاستمرار في سؤاله عن والديه. مبارك منوفي، والمنوفية مشهورون بالبخل، فكما هو الحال في أي بلد ستجد هناك مجموعة بشرية تلتصق بها خصلة ما كالشوايقة بالسودان والقصايمة بالسعودية، وكذا الحال المنوفية. لكن يقال بأن أصول مبارك شركسية. وهكذا يكون امتداداً لحكام مصر من عرقيات الأناضول بعد الملك فاروق. لكن حسني مبارك كان الرجل العظيم الذي لم يفهمه أحد. وكان من ورائه القصير المكير المصاب بالجيوب الأنفية الدكتور/ أسامة الباز، رجل الظل. الذي لا يرتدي سوى جاكيت مهلهل. ثم يتلاعب مع العالم. خرجت مصر من حرب ٧٣ منهارة وتفاقمت الأزمة بالانفتاح، ثم تولى مبارك السلطة..وهنا واصل سياسات سلفه ولكن باستراتيجيات إظهار القوة. امتلك مبارك خيوط اللعبة في الصراع التجاري الوهمي بين العرب واسرائيل. واستطاع بقوة اللعب على الحبال المتنوعة. فهو صديق اسرائيل وعدوها، وهو صديق أمريكا حتى ليبدو أنه شرطيها في المنطقة، ومع ذلك كان يوجه لها بعض الخوازيق. أتذكر في ٢٠٠٧ اكتشفت المخابرات المصرية اتصالات أمريكية مع الإخوان المسلمين، حينها قال مبارك كلمة واحدة أرعدت فرائص أمريكا: لقد قال: يجب الاعتراف بحماس كجزء من القوى الفلسطينية. وكانت هذه الجملة المفزعة سببا في إعلان أمريكا بأنها أوقفت كافة اتصالاتها بالإخوان. وهكذا عرف مبارك كيف يلمس على الجرح بقسوة. وحينما فشل إخوان السودان في اغتياله قلب عليهم الطاولة ووسع من اتصالاته ليضع السودان تحت ضغط الحصار الاقتصادي. وفي ذلك الوقت، حاولت اثيوبيا الشروع في سد النهضة، فضغط على الشركات الأجنبية لوقف دراساتها وقد حدث. بعد نهاية حكمه تنفس إخوان السودان والأثيوبيون والإسرائيليون الصعداء. فالرجل رغم ما يبدو على سياساته من اتجاه نحو أمريكا إلا أنه كان يعرف أن الولايات المتحدة لا يمكن الوثوق بها. وبالفعل أزاحته أمريكا كما كان يخشى بعد بضع سنوات من اتصالاتها مع الإخوان. على الجانب الاقتصادي، كانت مصر وحتى منتصف العقد الأول من الألفية الثانية تتمتع باقتصاد جيد واحتياطي مقبول من العملات الحرة بلغ قرابة أربعين مليار دولار. وخلال فترةحكمه قام بتقوية البنية التحتية للاقتصاد المصري الذي كان منهاراً، تم انشاء مجمعات صناعية ضخمة للغزل والنسيج والمواد الغذائية والتصنيع الحربي بما يبلغ ملايين الدولارات. كذلك انشأ ملايين الوحدات السكنية المحترمة للفقراء، حيث توزع الشقق على الفقراء باقساط رمزية مثل خمسين او مائة جنيه في الشهر. فوق هذا كان يقدم للفقراء دعما اجتماعياً ضخماً جداً كالمواد الغذائية من خبز وزيت وأرز ودقيق..الخ. بالإضافة إلى شبكة مواصلات ضخمة جدا ورخيصة جداً. لكن الترابي لم يكن سهلاً لقد دعم الإرهابيين في مصر وتوالت الضربات والتفجيرات في المناطق السياحية مما عرض الاقتصاد المصري لخلخلة وتذبذب. لم يكن البشير يحكم السودان في ذلك الوقت، فالبشير لم يحكم إلا بعد المفاصلة، ولكنه وجد تركة ضخمة من بلاوي إخوان السودان. كان السودان قد وضع في الحصار، واستشرى التمكين وأصبح البشير في المصيدة، وبدأ في محاولة الرقص فوق الحبل، لكنه فشل في نهاية الأمر. وبالعودة لمبارك، فمبارك كان يملك كل أسرار اللعبة الأمريكية، لذلك في ظل وجود مبارك كان صوت السعودية ودول الخليج عموماً، كان منخفضاً. وبسقوطه استطاعت السعودية إيجاد هامش لتتحرك وتملأ الفراغ السياسي في المنطقة. مع ذلك فوجود مبارك كان ليضبط حركة السعودية، فرغم كل امكانيات المملكة لكن خبرة مبارك كانت عالية، وربما لتغير سلوك السعودية الدولي خاصة في ورطة اليمن. عند اجتياح صدام للكويت ، سافر مبارك والتقى بصدام وقدم له نصائح جيدة، لكن بعد فوات الآوان، فصدام كان قد وجد كبرياءه متورطاً في هجوم عسكري غير مدروس العواقب بعد أن استدرجته الولايات المتحدة الأمريكية إلى الفخ الكويتي وبداية تجويع العراق عبر برنامج لا اخلاقي هو برنامج النفط مقابل الغذاء، ثم انقضت عليه ووجهت له اللكمة القاضية التي دمرت العراق بل ودمرت كل الدول العربية، فبقاء العراق قوياً كان ليكون عماد الدول العربية الأخرى. وبعد أن كان السودانيون يغتربون في العراق ثم يعودون أغنياء تحولت العراق لوضع أسوأ من وضع السودان بل أسوأ من أي دولة أخرى حتى الصومال. لكن ما دور مبارك... رغم كل شيء كان مبارك مخلصاً للقضية العربية، ليس من باب الشعور القومي بل من باب عدم ترك مصر بدون سند قومي عربي..فالعلاقة مع أمريكا تحتم عليه أن ينام بعين واحدة. استطاعت امريكا التخلص من كل الزعماء القوميين، وآخرهم القذافي وصالح..وهكذا انتهى العصر الذهبي للتمدد الثوري العربي باعدام صدام وقتل القذافي ونهاية مبارك وفي انتظار بشار الأسد..وقبلهم طبعا جعفر نميري. لقد قال القذافي ذلك لهم في إجتماع القمة. لقد قال بأن ما حدث لصدام سيمتد لجميع الدول لتبدأ مرحلة الأمركة الشاملة للدول العربية. صنعت امريكا التنظيمات الإسلامية، أولها الإخوان ثم تنظيم القاعدة وداعش ، لتنتقل من مرحلة الحرب الباردة ضد الشيوعية إلى الحرب على الإرهاب. وبعد ذلك قضت عليهم لتبدأ مرحلة الأمركة الشاملة.وهي مرحلة تعتمد الحرب الثقافية، فكما كانت إسرائيل أول دولة ديموقراطية في المنطقة ستصبح الدولة الوحيدة التي تستند إلى أسس لاهوتية بعد سنها لقانون يهودية إسرائيل. ومرحلة الأمركة تعتمد على محاور واضحة أهمها الاعتراف المطلق بإسرائيل وثانيها التحرير الاقتصادي وثالثها الخضوع الكامل للسياسات الأمريكية. كان مبارك المعرقل الرئيسي لفكرة الشرق الأوسط الجديد..وكان واقفاً بصلابة ضد هذا المشروع، وذلك لأنه كان يعلم أن نجاح هذا المشروع يعني بلا شك تقهقر الدور المصري في المنطقة، وتعري مصر من حماية ظهرها الذي كان مسنوداً بنزعة قومية عربية. لذلك كان إنهاء حكمه حتمياً، وقد حدث..(يتبع)..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
أمل الكردفاني
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست