منذ الاستقلال ظلت أزمة السودان هي أزمة سلطة بُنيت على تحالف خفي بين مجموعتين أساسيتين : النخبة النيلية المركزية ، والنخب الدينية الإسلاموية والطائفية . هذا التحالف هو الذي أرسى أرضية الاستعلاء العرقي ، وفتح الباب أمام التهميش والحروب والانفصال .
النخبة النيلية المركزية نشأت خلال الحكم الثنائي عندما تركز التعليم والوظائف في مناطق ضفاف النيل مثل الخرطوم والجزيرة والشمالية . هذه النخبة قدّمت نفسها على أنها الامتداد العربي – الإسلامي في إفريقيا ، وصوّرت بقية السودانيين كأفارقة بدائيين . سياساتها اعتمدت على احتكار الخدمة المدنية والجيش لضمان السيطرة ، وتوجيه الاقتصاد نحو مناطقها عبر الزراعة المروية والبنية التحتية والتعليم المميز . كما فرضت خطابًا ثقافيا يجرّم اللهجات المحلية ويجعل العربية وحدها رمزًا للتحضر . النتيجة كانت دولة أحادية الهوية أشعلت شرارة الحرب الأهلية في الجنوب بعد الاستقلال مباشرة .
في المقابل ، برزت النخب الدينية الطائفية ( الأنصار والختمية ) ثم الإسلاميون لاحقًا ، مستخدمين الدين كسلاح سياسي لا كإيمان روحي أو قيم أخلاقية تدير حركة المجمتع . رفعوا شعار ( المشروع الإسلامي ) لإذابة التنوع وفرض نموذج واحد ، سياساتهم تمثلت في أسلمة الصراع السياسي وتصوير مناطق الجنوب وجبال النوبة والأنقسنا كدار حرب يجب فتحها . كما فرضوا قوانين الشريعة 1983 والتعريب القسري ، وحوّلوا الجهاد في التسعينيات إلى حرب أهلية غذّت المليشيات وشرعنت العنف العرقي . هذا المناخ دفع المجتمعات المهمشة إلى التمرد والانفصال أو الارتماء في تحالفات خارجية .
ما جمع النخبة النيلية بالنخب الإسلاموية هو مصلحة مشتركة في احتكار السلطة والثروة . الأولى وفرت الشرعية الإدارية والاقتصادية ، بينما الثانية منحت الغطاء الديني والتعبوي . وهكذا نشأت دولة مركزية متعالية تعامل الهامش كمستعمرة داخلية ، وتعيد إنتاج الاستعلاء بأسماء مختلفة مثل التحديث أو التعريب أو الأسلمة .
النتائج كانت كارثية . انفصال الجنوب عام 2011 حيث لم يكن سوى حصيلة طبيعية لغياب الاعتراف بالتنوع . وحروب دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق جسدت عقلية الاستعلاء بوضوح . حتى داخل الشمال تمارس النخبة ذاتها سلطة فوقية على البوادي والريف الشرقي والشمالي ، ما يكشف أن الأزمة ليست عرقية فقط بل أيضًا طبقية وتراتبية في توزيع السلطة والثروة .
الخروج من هذا المأزق ينبغي أن يقود إلي تفكيك البنية نفسها . المطلوب إعادة تأسيس الدولة على قاعدة الاعتراف الحقيقي بالتنوع العرقي والثقافي واللغوي . كما يجب تفكيك التحالف التاريخي بين المركز النيلي والإسلام السياسي ، لأنه جوهر الأزمة السودانية . البديل هو نظام عادل يوزع السلطة والثروة على أسس المساواة والتمثيل المتكافئ .
أن النخبة النيلية والنخب الإسلاموية هما مهندسو ثقافة الاستعلاء التي حكمت السودان لعقود ، وحوّلتا الدولة إلى أداة إذلال للمجتمعات . لذلك فإن تفكيك هذا التحالف يجب أن تضحى خيارًا سياسيًا وشرط أساسي لبقاء السودان موحدًا وعادلًا .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة