ختمت البروفيسور آمال قرامي تقديمها للطبعة الثانية التي ستصدر قريباً من كتاب: الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، قائلة: "يصدر المُؤلَف في فترة حرجة من تاريخ السودان استشرى فيها العنف وتفتت فيه النسيج الاجتماعي، وكثرت فيها الخيبات والمآسي وبرزت فيها علامات التراجع عن أهداف الثورة السودانية. فهل يكون هذا المُؤلَف ملاذ الحائرين/ات والباحثين عن فهم أسباب ما يجري؟" البروفيسور آمال قرامي أستاذة الفكر الإسلامي والدراسات الجندرية بالجامعة التونسية، تونس
صحيفة الرأي العام وسوء الفهم وسوء النية
"محكمة الردة لم تكن إلا بداية المواجهة بيننا وبين الفقهاء. وطويلة المسألة وكان فيها مواجهة في محاضرات ومواجهة في الصحف ". محمود محمد طه
قادت صحيفة الرأي العام السودانية على صفحاتها وضمن باب "الرأي العام: من يوم إلى يوم" حملة مستمرة على المحاضرة، وتابعت حملتها حتى بعد صدور حكم محكمة الردة. ففي إطار حملتها على المحاضرة قبل انعقاد محكمة الردة، نشرت العديد من الأخبار والمقالات، منها، على سبيل المثال، مقال جاء بعنوان: "حول عنوان محاضرة محمود محمد طه: عندما تهدد الحرية بالفتنة والاضطرابات". وكتبت، قائلة: استفزنا عنوان محاضرة الأستاذ محمود محمد طه التي ألقاها بمعهد المعلمين العالي. وأضافت الصحيفة، قائلة: إننا لا نقر أن تصل حرية الأستاذ محمود حدود استفزاز الآخرين وتعريض الأمن للخطر، وتهديد البلاد بفتنة يلعن الله من يوقظها. رد ذو النون جبارة الطيب، عضو الحزب الجمهوري، على صحيفة الرأي العام، بمقال وأرسله للنشر إلا أن الصحيفة رفضت أن تنشره. أعاب ذو النون في مقاله، إطلاق الصحيفة حكمها على المحاضرة من مجرد العنوان، وأوضح بأن عدم توخي الدقة هو الذي أوقع الصحيفة في سوء الفهم وفي الخطأ. وقال: من ذا الذي قال بأن الاسلام لا يصلح لكل زمان ومكان؟ وأوضح بأن حتى العنوان الذي قالت الصحيفة فيه ما قالت لا يعطي ما ذهبت إليه، لأن الإسلام إن كان برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين، فالإسلام برسالته الثانية يصلح لإنسانية القرن العشرين، والقرون التي تليه، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وأضاف ذو النون، قائلاً: لقد أصدر الحزب الجمهوري، قبل ثلاثة أعوام كتاباً بعنوان: الرسالة الثانية من الاسلام، ولقد دار حوله نقاش مستفيض على صفحات صحيفة الرأي العام الغراء بيننا وبين الشيخ محمد محمود شاهين (مصر)، كنا نحسب أن فيه الغناء. ترتب على حملة صحيفة الرأي العام أن سعى رجال الدين، وبعض المسؤولين في الدولة لمنع المحاضرة، واستعداء السلطات، بينما كانت السلطات جزءاً من المؤامرة، كما سيأتي لاحقاً.
قاضي القضاة يخاطب رئيس وأعضاء مجلس السيادة بشأن إقامة المحاضرة
كان الشيخ عبد الماجد أبو قصيصة (1910- 1993) قاضي قضاة السودان (1965- 1969)، قد يسعي سعياً حثيثاً، وهو على رأس مجموعة من العلماء ورجال الدين، لمنع المحاضرة ولإثارة السلطات ضد الحزب الجمهوري، وكان يتوكأ على نقطة الأمن، ويظهر الحرص على الأمن. فقد بعث بخطاب إلى السادة رئيس وأعضاء مجلس السيادة، بصورة لوزارة التربية وسلطات الأمن، ينصح فيها بعدم تقديم المحاضرة المزمع تنظيمها في معهد المعلمين العالي يوم 11 نوفمبر 1968 خشية أن يكون فيها ما يثير المسلمين. لم يكن سعى قاضي القضاة لمنع المحاضرة منفصلاً عن التحركات لتدبير محكمة الردة، فقد كان هو جزءاً منها، إذ اتصل به المدعي الأول في القضية الأمين داؤد، قبل اسبوعين من انعقاد المحكمة. على الرغم من تدخلات قاضي القضاة ومراسلاته مع مجلس السيادة ووزارة التربية والتعليم وسلطات الأمن، وتحركات العلماء لمنع إقامة المحاضرة، فإن المحاضرة تحت اصرار الطلاب واستعداد المحاضر قد قامت في موعدها بمعهد المعلمين العالي. أدى قيام المحاضرة إلى تصعيد المواجهة بين الحزب الجمهوري وقاضي القضاة والعلماء ورجال القضاء الشرعي، فانتقلت المواجهة، والتي هي مواجهة فكرية، بسبب عجز العلماء الفكري، من ساحة الحوار إلى ساحة المحكمة الشرعية.
المحكمة الشرعية وديوان النائب العام
في ظل الاصرار والاستمرار في تقديم المحاضرة بنفس العنوان: "الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين"، زادت تحركات العلماء ورجال القضاء الشرعي، الذين ظلوا يطرقون مختلف الأبواب من أجل إيقاف المحاضرة، ولمَّا فشلت تحركاتهم، قاموا من خلال المحكمة الشرعية بالاتصال بديوان النائب العام بحثاً عن سند قانوني يتم بموجبه إيقاف المحاضرة. فقد أوردت صحيفة السودان الجديد في 16 نوفمبر 1968، قائلة: "علمت السودان الجديد أن المحكمة الشرعية قد اتصلت بديوان النائب العام تستفسره عن نص قانوني يمكن الاعتماد عليه لإيقاف محاضرة الأستاذ محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري (الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين) التي قدمها بمعهد المعلمين العالي". وأضافت الصحيفة أن ديوان النائب العام "أبلغ المحكمة الشرعية أن هذا غير ممكن لأن الندوة تقام في مكان خاص". مع فشل كل هذه التحركات من قبل قاضي القضاة والعلماء ورجال القضاء الشرعي، كشفت صحيفة السودان الجديد ضمن تحرياتها، بأن هناك اتجاه "في المحكمة الشرعية بمقاضاة السيد محمود محمد حول الأفكار التي يدعو لها".
نسخ المؤامرة في ساحة مجلس السيادة السوداني
من المؤسف حقاً أن يكون رأس الدولة أعلى سلطة سيادية ممثلاً في مجلس السيادة، وفي ظل نظام ديمقراطي، طرفاً في مؤامرة لعقد محكمة لتحكم بردة مفكر إسلامي. كان المجلس برئاسة السيد إسماعيل الأزهري، وعضوية كل من: السيد/ خضر حمد، والسيد/ داود الخليفة، والسيد/ الفاضل البشرى المهدي، والسيد/ جيرفس ياك. فقد أبرزت الوثائق أن رئيس المجلس وبعض أعضاء المجلس، اشتركوا على نحو ما في مؤامرة محكمة الردة.
مجلس السيادة ونداء الأمين داود "إلى ولاة الأمر في السودان"، 1 أكتوبر 1968
كان المدعي الأول في قضية محكمة الردة الأمين داود، قد أتصل برئيس مجلس السيادة وأعضاء المجلس، قبل المحكمة، وكان قد وجه نداءً بعنوان: "إلى ولاة الأمر في السودان"، بشأن محمود محمد طه والجمهوريين، وذلك بتاريخ غرة أكتوبر 1968، قبل المحكمة بـ (48) يوماً. كما أرسل لهم نسخاً من كتاب كان ألفه بعنوان: نقض مفتريات محمود محمد طه. بيَّن الأمين داود بأنه تقدم بهذا النداء إلى ولاة الأمر في السودان، بإسم زملائه علماء السودان بل بإسم المسلمين جميعاً. وطالب الحكومة وولاة الأمر أن يقوموا بواجبهم تجاه الضالين المضلين، "كي لا يعم ضررهم ولا ينشر باطلهم. فهم باسم الإسلام يهدمون الإسلام وباسم الدين يقوضون صرح الدين". تضمن نداء الأمين داود حكماً على محمود محمد طه والجمهوريين بالخروج عن الإسلام والردة. وطالب النداء بالآتي: أن توصد نوادي الجمهوريين في الحال ولا يسمح بفتحها. لا يسمح لأحد من هؤلاء الجهال أن يتحدث بإسم الدين أو أن يفسر آية من كتاب الله وذلك بعد أن بينا فهم رئيسهم السقيم لآيات القرآن وقلة درايته بالبراهين الواضحة وذلك لأن محمود محمد طه واتباعه خارجون عن الإسلام ومرتدون. وحكم المرتد شرعاً أن يستتاب ثلاثاً، فإن لم يتب قتل كفراً لا حداً، وذلك للأسباب الآتية: ... إلخ ثم عدد ستة أسباب لذلك. ونحن في انتظار ما تقوم به الحكومة من عمل واجب عليها تحمد عليه عند هذا الشعب الذي اختارها، وإلا فهي تتحمل تبعة حصول مالا تحمد عقباه. أرسل الأمين داود هذا النداء مع نسخة من كتابه نقض مفتريات محمود محمد طه، وقد أوضح بأنه تلقى ردوداً مكتوبة من السيد إسماعيل الأزهري رئيس مجلس السيادة، ومن السيد الفاضل البشرى المهدي، عضو مجلس السيادة، كما سيرد في الحلقات القادمة. نلتقي في الحلقة الثالثة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة