مقدمة زرت جنوب السودان الحبيب بعد أشهر قليلة من استقلاله. قبل ذلك، كنت أحد ثلاثة مستشارين للمعونة الأمريكية نبحث في الإمكانيات الزراعية الهائلة في إقليم أكواتوريا الكبرى (الذي يضم معظم محافظات جنوب السودان المتاخمة لدول شرق إفريقيا). ومن بين المناطق التي زرتها كانت جبال حجار السودانية الجميلة، التي ارتبط اسمها بالراحل حجار، وهو شخصية سودانية معروفة أدخل إلى الجنوب زراعة التبغ والأرز، وكانت خطواته أينما حلّت في السودان تجلب الخير والبركة.
قبل الاستقلال، أوصانا نائب السفير الأمريكي (وأنا أحمل الجنسية السودانية والأمريكية معًا) بضرورة وضع خطة لتكامل زراعي بين شطري السودان وتشجيع التجارة بين الشمال والجنوب. أذكر ذلك هنا لأنه يفيد حين يأتي الحديث عن مصر الطامعة.
قدمني إلى أهلي في الجنوب صديقي، آخر سفير لجمهورية السودان الموحدة في إيطاليا. والحقيقة أنني لم أكن بحاجة إلى تقديم، فقد استقبلني الجميع في مطار جوبا بالأحضان، وكل من عملت معهم في مناسبات مختلفة كان كما عهدته… بلد واحد وشعب واحد.
السيل المصري أول ما لفت انتباهي خارج نطاق العمل الزراعي والبيئي كان الاندفاع المصري المكثف. فقد أعادت الخطوط الجوية المصرية فتح رحلات يومية بين القاهرة وجوبا، وبدأت بإنشاء مكاتب تجارية هناك، وارتفعت الأنشطة المصرية في مجالات الري، والمشاريع التنموية، والعمل الاستخباراتي أضعافًا مضاعفة.
تذكرت حينها لقائي بعد سنوات في مكتب صديقي وزير الزراعة المصري، عندما كنت مكلفًا من مكتب الاستثمار في منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) بقيادة فريق مصري في التخريط الزراعي. قال لي وكيل الوزارة وقتها: "نحن ماشيين أفريقيا نعلمهم الزراعة". قلت في سري: "جنوب الوادي – الذي تعتبرونه تابعًا لكم بالكامل – لم يكفكم… تريدون جعل كل إفريقيا حديقة خاصة لكم".
حكاية ومخاطر "تأسيس" لمصر الرسمية مصر، تاريخيًا، نظرت إلى السودان باعتباره تابعًا لها، ولم تُنشئ معه علاقات دبلوماسية طبيعية قط، كما اعترف كبار دبلوماسيي البلدين؛ فقد كانت في جوهرها علاقات مخابراتية.
كان شقيقي الأكبر، الذي كان الرجل الثاني في إدارة وكالة السودان للأنباء، يخصني في جلساتنا الخاصة بمخاوفه وهواجسه وغضبه من هذا الواقع.
وهنا يبرز السؤال الأكبر: ماذا ستفعل مصر بحكومة التأسيس التي انطلقت من أكثر مناطق السودان ثراءً بالموارد (الثروة الحيوانية، الصمغ العربي، المحاصيل المتنوعة، البترول… إلخ)؟
إن مقولة مصر الأزلية "السودان تبعنا" لم تعد صالحة اليوم، على الأقل إذا كان في مصر عقلاء يخططون من منطلق: "الكتوف اتلاحقت".
نواصل
د. أحمد التيجاني سيد أحمد عضو مؤسس في تحالف تأسيس ١٠ أغسطس ٢٠٢٥ – روما، إيطاليا
مراجع 1. محمد سعيد القدال، تاريخ السودان الحديث 1821–1956، دار جامعة الخرطوم للنشر. 2. روبرت كولينز، تاريخ السودان الحديث، ترجمة: حسن صعب، الهيئة المصرية العامة للكتاب. 3. سجلات وزارة الخارجية المصرية حول العلاقات مع السودان، الأرشيف القومي المصري. 4. تقارير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) عن مشاريع التخريط الزراعي في السودان وجنوب السودان، 2000–2010. 5. مقالات وتقارير صحفية عن النشاط المصري في جنوب السودان بعد الاستقلال، الأهرام وسودان تريبيون، 2011–2015. 6. مذكرات دبلوماسيين سودانيين حول العلاقات مع مصر، منشورات خاصة. 7. حوار صحفي مع مزارعين محليين حول دور حجار في إدخال زراعة التبغ والأرز إلى جنوب السودان، صحيفة الأيام، 1974. Sent from my iPhone
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة