في الوقت الذي كانت فيه واشنطن تعلن عن اختراقٍ نوعي في ملف الحرب السودانية، وتؤكد أن الطرفين وافقا مبدئيًا على هدنة سياسية تمهّد لتوقيع اتفاق نهائي، كانت ولايات السودان تغلي بخطاب تعبوي صادر من داخل المؤسسة العسكرية نفسها. الجيش، بدا وكأنه يتحرك بأكثر من عقل ويتحدث بأكثر من لسان، في مشهد يشي بأن القرار لم يعد واحدًا، وأن “القيادة العامة” لم تعد عامة بالمعنى الحقيقي للكلمة. التعبئة والاستنفار اللذان أُعلنا في الأيام الماضية لم يكونا مجرّد استعداد أمني، بل رسالة سياسية تقول بوضوح إن هناك من يريد استمرار الحرب مهما كانت نتائج التفاوض. جهات موالية للجيش أغلبها محسوبة على التيار الإسلامي – سارعت إلى تصوير الهدنة كـ“مؤامرة أمريكية لإجهاض الانتصار”، لتعيد إنتاج ذات الخطاب القديم الذي احترق، لكنها لا تزال تستمد منه شرعية البقاء. الانقسام داخل الجيش اليوم ليس خفيًا. هناك من يرى أن الوقت قد حان لوقف الحرب وحماية ما تبقّى من السودان، وهناك من يعتبر السلام “خيانة” للدماء التي أُريقت. أما الواقع، فيقول إن الكيزان أحكموا قبضتهم على مفاصل القرار داخل المؤسسة، وأصبحوا يديرون بعض التحركات العسكرية والإعلامية بعيدًا عن رؤية القيادة الرسمية، ما جعل الجيش نفسه رهينة صراعاته الداخلية. أما الحكومة التنفيذية، فتبدو عاجزة عن السيطرة الكاملة على قرار الدولة. قبل يومين، قام وكيل وزارة الخارجية بعقد مؤتمر صحفي وأعلن باسم الدولة السودانية عن طرد مدير برنامج الغذاء العالمي ومدير العمليات، دون أي تنسيق مع رئيس الوزراء أو مجلس الوزراء. هذه الخطوة الفردية التي تجاوزت سلطة الدولة أظهرت حجم التخبط الإداري، وسلطت الضوء على خطورة تعدد مراكز اتخاذ القرار، الذي يمكن أن يكون له أثر بالغ على مجريات الأحداث ومستقبل السودان. رئيس الوزراء، كرد فعل واضح، أصدر قرارًا بإعفاء الوكيل من منصبه، وسط هذه الفوضى السياسية والعسكرية، تتحرك واشنطن بخطوات محسوبة، وهي تدرك أن أي اتفاق سلام لن يصمد ما لم يُؤمَّن الداخل أولًا. هناك انباء عن ترتيبات أمنية تجري لحماية البرهان شخصيًا من أي محاولات انقلاب أو تصعيد من الإسلاميين الرافضين للهدنة، في إشارة إلى أن المعركة الحقيقية لم تعد بين الجيش والدعم السريع فقط، بل بين مراكز القوى داخل الدولة نفسها. السودان اليوم لا يواجه أزمة سياسية فحسب، بل أزمة في “العقل الذي يقرر”. فحين تتعدد مراكز القرار، يتعطل القرار ذاته، وحين يصبح كل جناح في الدولة دولةً قائمة بذاتها، تضيع البوصلة وتغرق البلاد في دوامة بلا نهاية. الهدنة التي تنتظر التوقيع قد تكون آخر خيوط الأمل، لكن هذا الأمل هشّ ما دام السلاح يتحدث بلغة مختلفة، وما دام من يمسكون به يظنون أن السلام نصرٌ مؤجَّل لا يستحق السعي إليه. والسؤال الذي يظل معلقًا في الهواء: هل تنجح واشنطن في إيقاف الحرب في السودان؟ وهل تنجح في وضع خطة تبعد الإسلاميين عن مفاصل الحكم لتصبح الدولة قادرة على اتخاذ قرارها بحرية؟ أم سيستمر الانقسام في مراكز القرار، ليقود البلاد نحو مزيد من الفوضى والدمار؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة