عندما قال وزير الخارجية الأمريكي إن السودان هو المحطة القادمة للسلام بعد اتفاق رواندا والكونغو ، بدا حديثه كأنه دعوة متفائلة نحو الاستقرار . لكن ما يبدو كلامًا دبلوماسيًا جميلًا يخفي في داخله نمطًا معتادًا في تعامل القوى الكبرى مع إفريقيا ، فغالبًا لا يُنظر إلى السلام كهدف إنساني بحد ذاته ، بل يُستخدم كأداة لإعادة ترتيب النفوذ والسيطرة على الثروات .
في حالة رواندا والكونغو مثلًا ، الاتفاق الذي أنهى الحرب بين الجانبين ، وبالتزامن مع توقيع الاتفاق ، دخلت شركات أمريكية كبرى إلى مناطق التعدين في شرق الكونغو ، وهي مناطق غنية بالكوبالت والليثيوم ، وهما مادتان أساسيتان لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية والتقنيات الحديثة . هذا النموذج بات مألوفًا في إفريقيا بمجرد التوقيع على اتفاق سلام يتبعه تدفق شركات التنقيب ، ثم إعادة ترتيب النفوذ بلغة السوق بدلًا من لغة الشعوب وحوجتها للسلام . فلا أحد يتحدث عن العدالة أو المحاسبة ولكن فقط مصالح تُدار بصمت .
السودان ينتظر السيناريو ذاته حيث الحرب ما تزال مستعرة والبلاد تملك موارد ضخمة من ذهب ويورانيوم ونفط وأراضٍ زراعية واسعة وموقع استراتيجي على البحر الأحمر . كل ذلك في ظل وضع سياسي هش ومغري يسمح بتدخلات خارجية توجه القرار السيادي لخدمة مصالحها . وعندما يتحدث مسؤول أمريكي عن "السلام في السودان" ، فإن الصورة التي تتشكل ليست بعيدة عن سيناريو رواندا والكونغو . لكن هذه المرة ، بوجه إنساني مزيّف يهدف إلى فتح الطريق أمام الشركات والمصالح ، لا إلى إنهاء معاناة الناس .
السلام هنا لا يُطرح كغاية ، بل كوسيلة للسيطرة على الموارد وضبط موازين النفوذ في القرن الإفريقي . فالمنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين والإمارات تجري بهدوء خلف الكواليس ، لكن وقودها هو الأرض السودانية ولكل لاعب أهدافه الخاصة . الولايات المتحدة تريد سلامًا يضمن مناطق التعدين ، وتستخدم السودان كورقة ضغط في البحر الأحمر ، خصوصًا ضد روسيا ، أما روسيا من جهتها لا تتوانى من دعم جماعات مسلحة للسيطرة على الذهب وبناء قواعد عسكرية تخدم مصالحها ، وكذلك الصين ، فهي تخشى أن يؤدي "سلام أمريكي الطابع" إلى إقصائها من مشاريع البنية التحتية والطاقة في السودان كما حدث في دول أخرى . والإمارات تتعامل مع الحرب كسوق مفتوح ، توسع من خلاله نفوذها الاقتصادي عبر الطرق والموانئ ، دون أن تظهر اهتمامًا حقيقيًا بإنهاء الأزمة .
الخطر الحقيقي يكمن في أن ما يُسوَّق على أنه "جهود سلام" ليس إلا محاولة لتقاسم السودان بين القوى الكبرى كلاعبين دوليين . أما الشعب السوداني فهو غائب عن طاولة التفاوض وغائب عن القرار ، وغائب حتى عن المشهد الذي يُراد تصديره كـ "نجاح دبلوماسي" .
يجب أن نفهم ما حدث مؤخرا في سلام رواندا والكونغو حيث لم يكن سلامًا نابعًا من إرادة الشعوب أو عدالة حقيقية بل كان اتفاقًا يُنظّم الاستثمار ويؤمّن مصالح الكبار ، بينما تظل الجراح مفتوحة على الأرض . السودان لا يحتاج سلامًا يُبرم فوق أوراق الشركات والمطامع ، بل يحتاج سلامًا يُعيد للشعب قراره ويحفظ كرامته ، ويضمن حماية موارده من النهب باسم الشرعية الدولية والسلام .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة