الهدنة الإنسانية باتت أقرب من أي وقت مضى، لكنها تتقدّم ببطءٍ محسوب، كقطرة دواءٍ تُسكب في جرحٍ مفتوحٍ حتى لا يؤلم الجسد كثيرًا. قيادة الجيش السوداني، التي وافقت ضمنًا، تسير على خيطٍ رفيعٍ بين ضرورات السياسة الدولية وتعقيدات الداخل، بين واقعٍ ميدانيٍ يرهقها وضغوطٍ من حلفائها وخصومها في آنٍ واحد. في واشنطن تُدار المفاوضات بتفاصيل دقيقة، والخارجية الأمريكية تحدثت بثقة عن نسبة نجاح عالية للهدنة المقترحة. فواشنطن ترى أن استقرار السودان في المرحلة المقبلة ضرورة استراتيجية، ليس فقط لأسباب إنسانية، بل لأن استمرار الفوضى يفتح الباب واسعًا أمام النفوذ الروسي والإيراني، ويتيح للحوثيين فرصة التمدد عبر البحر الأحمر، وهو الملف الذي تسعى الولايات المتحدة لإغلاقه نهائيًا عبر ترتيبات إقليمية دقيقة. الجيش من جانبه يدرك أن رفض الهدنة يعني خسارة الدعم الدولي وفتح جبهة مواجهة مع الرباعية، في وقتٍ لا يحتمل فيه الميدان مغامرات جديدة بعد سقوط الفاشر وبارا. وفي المقابل، الأصوات الرافضة من الداخل ترى في أي هدنة ضعفًا واستسلامًا، وتخشى أن تُستغل لترتيب صفوف الدعم السريع. لكن العقدة الأعمق ليست في ميدان القتال فقط، بل في دهاليز السياسة. المؤتمر الوطني يرى في استمرار الحرب أمله الأخير للعودة إلى السلطة، فالحرب بالنسبة لهم ليست مأساة، بل فرصة سياسية أخيرة. لذلك تُبنى حملاتهم وتهديداتهم على إجهاض أي اتفاق للسلام، وتحريك الشارع وإرباك المشهد حتى يبقى الباب مفتوحًا أمام عودة الفوضى. وما يجعل القيادة العسكرية أكثر حذرًا أن أي خطوة غير مدروسة قد تُفجّر الموقف من الداخل؛ فهناك كتائب تابعة للمؤتمر الوطني يمكن أن تتحرك عسكريًا ضد أي قرار يُفسَّر كتنازل، ما قد يعرض قيادة الجيش نفسها للخطر في ظل احتقانٍ داخليٍّ حساس. اليوم، يدفع الجيش ثمن ما زرعته دعايته القديمة؛ إذ نشر لسنواتٍ خطاب الكراهية وصوّر الحرب كخلاصٍ ومعركة كرامة، ليجد نفسه الآن يحاول معالجة ما فعله بيديه. فكيف يمكن لجهازٍ غذّى الغضب أن يطلب من جمهوره فجأةً أن يتقبّل السلام؟ تلك هي المعضلة الحقيقية التي جعلت الهدنة تسير بالقطارة، بخطواتٍ بطيئةٍ ومحسوبةٍ لتخفيف صدمة التراجع عن خطاب الحرب. التضارب في التصريحات والغموض المقصود ليس ارتباكًا، بل جزء من خطةٍ لامتصاص الغضب وتمرير القرار بأقل قدرٍ من الاهتزاز. فالقيادة تعلم أن أي إعلان مباشر سيقابل بعاصفة من الرفض، وأن تمهيد الطريق يتطلب صبرًا وإخراجًا محسوبًا من دوامة التحريض التي صنعتها بنفسها. لكن هذه المرة، الضغوط ليست كسابقاتها. العالم يراقب، والوساطات تعمل على مدار الساعة، والمناخ الدولي والإقليمي لا يحتمل فشلًا جديدًا في السودان. أمام القيادة الآن سيناريوهان لا ثالث لهما: إما نجاح الهدنة وفتح بابٍ جديدٍ نحو الاستقرار، أو مواصلة صراعٍ حسب محللين سيكون الأعنف والأكثر كلفة منذ اندلاع الحرب. الهدنة قادمة، والوقت يضيق، والخيارات تضيق أكثر. أما الجلبة والتصريحات النارية، فستظل مجرّد ضجيجٍ في مشهدٍ يتحوّل بصمتٍ نحو التهدئة، رغم كل الحذر، ورغم كل الخوف.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة