كثيرًا ما يُصوَّر السودان قبل المهدية وكأنه كان بلا دولة أو في حالة اختلال ممتدة لقرون. والحقيقة أن البلاد خضعت للحكم التركي–المصري المعروف بـ "التركية السابقة" لمدة أربعة وستين عامًا فقط (١٨٢١–١٨٨٥)، قبل أن تنجح الثورة المهدية في إسقاطه. [1]
المهدية والأنصار: آل المهدي بين التزييف والاستغلال لم يكن إعلان الإمام محمد أحمد المهدي عن نسبه إلى قريش صدفة ولا خيارًا بريئًا. وهو النوبي الكوشي الأصل من دنقلا، كان يعلم أن دعوى "المهدية" لن تلقى قبولًا إلا إذا تقاطعت مع الحديث النبوي الذي يجعل المهدي من "أهل البيت". لذلك تبنّى نسبًا عربيًا هاشميًا، مجاريًا بذلك التقاليد الصوفية التي كثيرًا ما ادعت الانتساب للنبي كوسيلة للوجاهة الروحية والاجتماعية. هذا الخيار منحه شرعية دينية هائلة، مكّنته من تجنيد عشرات الآلاف وتحدي الحكم التركي–المصري. لكنه في المقابل كان بذرة التزييف الهوياتي الذي همّش الأصل النوبي الكوشي، ورسّخ تبعية السودان للعروبة السياسية على حساب جذوره الإفريقية.
المهدي عن قرب: شخصية مركبة النوبي الكوشي: وُلد في جزيرة لبب بدنقلا، قلب الحضارة الكوشية القديمة. نشأ في بيئة نوبية زراعية فقيرة عرفت الهجرة جنوبًا بحثًا عن الرزق. هذه الجذور الكوشية منحته عمقًا إفريقيًا أصيلًا، لكنه لم يقدّمها كهوية سياسية.
المتصوف السماني: تلقى علومه في الخلاوي والزوايا، وانخرط في الطريقة السمانية. عُرف بالزهد والتقشف والعبادة في جزيرة أبا. هنا اكتسب سمعة الشيخ المتعبد، التي سهّلت له حشد المريدين.
المفكر/السياسي: أدرك أن الشرعية الدينية في ذلك الزمان تمر عبر النسب العربي–القُرشي. نسب نفسه إلى بيت النبي، ليُضفي على دعوته طابع المهدي المنتظر. بهذا التوظيف الذكي، حوّل التصوف الشخصي إلى مشروع سياسي مسلح.
النتيجة: مهدي دنقلا النوبي صار المهدي القرشي رمزًا جامعًا. الثورة انتصرت لحظة، لكنها ورّثت السودان تناقضًا طويل الأمد: الإفريقي في الجذور، العربي في الادعاء.
الخلاصة المهدي كان نوبيًا كوشيًا في الأصل، متصوفًا في التربية، وسياسيًا براغماتيًا في استراتيجيته. اختياره الانتساب لقريش لم يكن صدفة، بل أداة لتحقيق الشرعية. لكن هذه الأداة كانت بداية مأساة هوية السودان: استلاب العروبة وتهميش الكوشية.
د احمد التيجاني سيد احمد عضو مؤسس في تحالف تاسيس ٢٠ اغسطس ٢٠٢٥ روما ايطاليا
المراجع 1. 1. نعوم شقير، تاريخ السودان، 1903. 2. 2. أبو سليم، الإمام المهدي: لوحة لثائر سوداني، 1981. 3. 3. Holt, P.M., The Mahdist State in the Sudan, 1958. 4. 4. منصور خالد، النخبة السودانية وإدمان الفشل، 2003. 5. 5. يوسف فضل حسن، تاريخ السودان الحديث، الخرطوم: جامعة الخرطوم، ١٩٨٦، ص ١١٩–١٢٠.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة