إننا أحياء، وبما أنك تقرأ هذه القمامة فأنت بالتأكيد حي، أنت تقرأ فأنت إذاً حي، وبما أنك حي الآن، فأنت مشروع موت، كما أن علاقاتك الكثيرة قد تخللها موت الكثيرين ممن تعرفهم. إن كنا تألمنا لموت من نعرفهم أو سعدنا لموت أعدائنا، فإننا في كل الأحوال ننتشي حينما نغادر عزاءً في ميت. لأننا ببساطة أحياء.. لقد تعلمت منذ ذلك اليوم الذي رأيتها فيه ألا ألتفت للخلف. كنت في الخامسة عشر عندما تسللت إلى مقابر الكاثوليك وجنود الحرب العالمية. تلك المقابر القديمة والتي تم تسويرها الآن، سورتها الحكومة المتأسلمة حتى لا يرى الناس الصلبان في دولة إسلامية. ثم انتهت تلك الحكومة الإسلامية وقرر المجتمع الدولي الغربي توجيه بوصلتنا إلى العلمانية، وأتوقع أن يتم تحطيم أسوار تلك المقابر تأكيداً على التعايش الديني. تلك الأكذوبة التي يلوكها الجميع وهم يسددون سكاكينهم لصدور بعض. المهم..لقد تسللت في ظهيرة حارة، تسللت لأنني كنت اتابع قطة سوداء سمينة تحيا داخل تلك المقابر، ثم اكتشفت أنها ليست قطة واحدة بل قططاً عديدة غريبة الشكل. قيل بأنها تبعت أصحابها إلى قبورهم. فهي قطط من نوع غالي الثمن. تكاثرت وتعاظم عددها، وفضلت العزلة كالأدباء المجانين. لأوّل مرة أرى شواهد قبور من تماثيل الملائكة والصلبان، مقابر منظمة بدقة، خلافاً لمقابر المسلمين الفوضوية. كنت أحدق في تماثيل العذراء وطفلها يسوع والدهشة والإعجاب يعقدان لساني. كانت التفاصيل دقيقة، الشفاه، العيون، تقسيمات الفم والوجه، والملائكة أطفال صغار، أبداً لا يقفون بإستقامة، بل يسبحون في السماء بإنحناءة جذابة، وأجنحتهم ترتفع كأجنحة النسور. كنت أقرأ على الشواهد تواريخ الوجود والفناء..ثم لاحظت شيئاً غريباً..شيئاً جعل قلبي يخفق.. ففي أسفل المصطبة الأسمنتية هناك نفق مربع صغير مغطىً بزجاجة شفافة، وخلف الزجاجة صورة للميت. همست "يضعون صور موتاهم..كم هذا عجيب".. رحت أنظر للصور متأملاً كائنات جميلة كانت يوما من الأيام تملك صوتاً. نعم الصوت، الصوت هو الذي يميز كل البشر. حتى البكم حين يزعقون. فأصوات البشر تعلن عن حياتهم. الأصوات بكلماتها، بضحكاتها، ببكائها، هي التي تعلق في ذاكرة الأحياء أكثر من الوجوه...كانت أغلب الصور قديمة باللونين الأبيض والأسود، ثم توقفت أمام صورتها...فتاة لم تتجاوز التاسعة عشر من عمرها..بعينين واسعتين متقدتين بالحيوية وتشع بالخلود؛ لم تكن تعتقد أنها ستنطفئ يوماً ما. شفتان صغيرتان مضمومتان كبرعم زهرة توشك على التفتح، شعر أسود ينسدل على كتفين رقيقتين. جلست على أمشاط قدميَّ ورحت أتأمل سلسلة رفيعة تتدلى من رقبتها الطويلة..ثم تغيب في صدر مخملي. وعند هذه اللحظة انقبض قلبي، حين أدركت أن هذه الفتاة داخل كتلة الأسمنت الصماء تلك، مُسجاة ككتابة هيروغليفية منقوشة على جدران أثرية. مضى الوقت في تأملاتي، وريح حارة تعصف بجمجمتي، والعرق يغرق ياقة قميص المدرسة الأبيض. لم أكن أملك القدرة على تفكيك مشاعري في ذلك الوقت. لكن.. أليست الفلسفة شعور أكثر منها منطق..ألا يكفي ذلك؟ بعد ربع قرن عدت ومررت بمقبرة الكاثوليك من جديد، كانت الجدران عالية، فلا يبين منها شيء. لا زالت الفتاة في الداخل، متأكد أنها لم تغادر، لم تغادر المقبرة ولا عقلي أبداً.. ...
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة