منذ عقود ظل السودان يتأرجح بين مشاريع النهضة المؤجلة وأحلام التنمية المؤودة عند عتبات الاضطرابات السياسية والحروب الداخلية. واليوم، يطفو إلى السطح مجدداً مشروع "المفاعل النووي السلمي"، كإحدى أكثر الخطوات إثارة للجدل في تاريخ البلاد الحديث. فبين طموح امتلاك مصدر مستدام للطاقة ينهض بالاقتصاد، ومخاوف من تبعات كارثية في بيئة سياسية مضطربة، يجد المواطن نفسه أمام سؤال مصيري هل يستطيع السودان أن يدير مشروعاً بهذا الحجم والخطورة؟ وأين يقف المشروع اليوم؟المشروع النووي السوداني ليس وليد اللحظة، فقد بدأت محاولاته منذ التسعينيات عبر تعاون محدود مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتوطدت الفكرة أكثر في مطلع الألفية الجديدة مع توقيع اتفاقيات تعاون نووي مع بعض الدول أبرزها روسيا والصين الهدف المعلن كان بناء مفاعل بحثي يُستخدم في المجالات السلمية مثل إنتاج الطاقة الكهربائية تطوير الصناعات الطبية والزراعية وتعزيز البحث العلمي، لكن المشروع ظل حبيس الملفات والمذكرات لسنوات إذ لم يرَ النور فعلياً سوى في صورة دراسات وخطط على الورق دون أن يدخل مرحلة التشغيل أو التنفيذ الكامل وسؤال المواطن العادي ماهي المنافع المتوقعة؟ وبالتكيد لا يمكن إنكار أن مفاعلاً نووياً سلمياً يمكن أن يشكل نقطة تحول في بنية الاقتصاد السوداني وخصوصا إنتاج الطاقة وتخفيف أزمة الكهرباء المتفاقمة وفتح الباب أمام نهضة صناعية وزراعية اضافة الي التنمية العلمية إحداث نقلة نوعية في مجال البحث العلمي وإعداد الكوادر الوطنية المتخصصةوالتطبيقات الطبية والزراعية و تطوير علاجات إشعاعية للسرطان وحلول لتحسين المحاصيل ومكافحة الآفات اضافة الي الاستقلال الاقتصادي من حيث تقليل الاعتماد على الطاقة المستوردة وتعزيز السيادة الوطنية على الموارد اذا ماهي الأضرار والمخاطر وبكل تاكيد هنالك وجه مظلم لان الوجه الآخر من المشروع لا يقل خطورة المخاطر البيئية لان أي خلل في الإدارة أو تسرب إشعاعي قد يهدد حياة الملايين، خاصة في بلد يعاني من ضعف البنية التحتية اضافة الي غياب الاستقرار السياسي لان مشروع ضخم كهذا يحتاج دولة مستقرة ومؤسسات قوية لضمان سلامته وإدارته، وهو ما يفتقر إليه السودان منذ عقود اضافة الي الفساد وسوء الإدارة في التجارب السابقة في إدارة المشاريع الكبرى تثير المخاوف من أن يتحول المفاعل إلى عبء مالي وفني أكثر من كونه إنجازاً وطنياً اضافة الي الاستهداف الخارجي لان وجود مفاعل نووي في منطقة مضطربة قد يجعله هدفاً في النزاعات الإقليمية أو الحروب الداخلية وهنا اسوق مفارقة المدينة الرياضية وهنا يبرز السؤال التهكمي هل السودان الذي لم يتمكن حتى اليوم من إكمال مشروع "المدينة الرياضية" في قلب الخرطوم، وهو مشروع ظل حبيس الوعود لعقود طويلة، قادر على إنجاز مفاعل نووي معقد؟ والمفارقة العجيبة أن تلك المدينة الرياضية التي كان يفترض أن تكون رمزاً للنهضة والرياضة تحولت إلى رمز للتعطيل والتأجيل بل وانطلقت من أرضها الطلقة الأولى التي أشعلت شرارة الحرب السودانية المستمرة حتى اليوم فهل يكون المفاعل النووي نسخة أخرى من "المدينة الرياضية"؟المفاعل النووي السوداني مشروع طموح يعكس رغبة في الانضمام إلى ركب الدول التي تستثمر في الطاقة النووية لأغراض سلمية غير أن نجاحه يعتمد بالدرجة الأولى على توفر بيئة سياسية مستقرة وقدرات مالية وفنية كافية وإرادة حقيقية لإدارته وفق أعلى معايير السلامة والشفافية وبينما يرى البعض فيه خطوة نحو المستقبل يراه آخرون حلماً سابقاً لأوانه ما هو مؤكد أن قرار المضي فيه يحتاج إلى دراسة معمقة تأخذ في الاعتبار التوازن بين الطموح الوطني والواقع السياسي والاقتصادي المفاعل النووي السلمي حلم مشروع لأي وطن يسعى للنهوض واللحاق بركب التطورلكن الحلم قد يتحول إلى كابوس إذا غاب الاستقرار السياسي وتصدعت المؤسسات الوطنية فالسودان، الذي لم يعرف السلام الداخلي منذ استقلاله يقف اليوم أمام معادلة صعبة إما أن يؤسس لدولة قادرة على إدارة مشاريع كبرى بحكمة ومسؤولية أو يظل يلهث خلف أحلام عملاقة تنهار قبل أن تولد إن سؤال المفاعل النووي ليس سؤال طاقة فقط بل سؤال دولة هل حان الوقت لبناء دولة ومؤسسات راسخة قبل بناء مفاعلات نووية؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة