المسخ "الاشتراكي الديمقراطي" في نيويورك (2-2) محمود محمد ياسين
في هذا الجزء الثاني من المقال نقدم استعراضا مقتضبا (الغرض منه ان يكون أساسا نظريا للجزء الأول المتعلق بانتخابات بلدية نيويورك) للاشتراكية الديمقراطية التي يحاول البعض احياءها بعد أن دحضتها، في القرن التاسع عشر، المادية الجدلية التي أثبتت أن الاشتراكية حقيقة تاريخية قائمة على أسس مادية يحسمها تطور القوى المنتجة وصراع الطبقات في المجتمع.
الاشتراكية الديمقراطية من منظور نظري
ان "الاشتراكية الديمقراطية" قديمة ترجع جذورها الى القرن التاسع عشر وظلت تتطور شكليا بدون ان يتغير محتواها، وهى منذ نشأتها نبعت من معيار برجوازي صغير في نقد الأنظمة البرجوازية قام به المفكرون الذين يناصرون الطبقة العاملة ضد البرجوازية.
المثال الساطع للاشتراكية الديمقراطية في القرن التاسع عشر تمثله أحزاب منها " جمعية فابيان-وابرز ممثليها جورج برنارد شو " و "الاشتراكية التطورية" لإدوارد برنشتاين "والحزب الديمقراطي الاشتراكي". اعتقدت هذه الأحزاب بان الاشتراكية يمكن تحقيقها تدريجيا من خلال الوسائل الديمقراطية والتشريعية.
ان الأساس الفلسفي للاشتراكية الديمقراطية هو التجريبية البراغماتية والفلسفة الوضعية التي ترى ان وعى الانسان يقوم على ادراك الظواهر المحسوسة وما داخلها وما بينها من علاقات. والوضعية التي يرجع تأسيسها لأوغست كونت في القرن التاسع عشر تطورت منذ أوائل القرن العشرين لما عرف بالوضعية الجديدة (neo-positivism) في شكل النقد التجريبي (empirio-criticism) في روسيا القديمة وفى "حلقة فيينا-" أو "مدرسة فيينا الوضعية" . وواصلت الوضعية الجديدة تطورها ما أدى الى ظهور مدارس عديدة اهمها الوضعية المنطقية ونظرية معرفتها القائلة بأن الظواهر المحسوسة يمكن التحقق من كنهها الحقيقي من خلال الملاحظة المباشرة أو الأدلة المنطقية. واطار التفكير النقدي لدى الوضعية يتم بالاستفادة من التقدم الهائل في المنطق (القائم على التفكير الاستقرائي "inductive" والاستدلالي "deductive") ومناهج البحث النظرية والتجريبية المطبقة في مجال العلوم الطبيعية والرياضيات. والوضعية الجديدة تسعى الى وضع قوانين ونظريات، مبنية على المعرفة الوضعية الملتزمة بالطرق العلمية (scientific methods) لتفسير الظواهر الاجتماعية.
والمدارس المختلفة للوضعية الجديدة تعتبر نفسها "فوق" كل من المادية والمثالية ولكنها في الواقع ليست أكثر من فرق متنوعة من المثالية الذاتية؛ فهي تكتفى بالثبات عند حدود المظهر الخارجي للظواهر وتفسيره عن طريق نظرية المعرفة لديهم التي تمثل مجرد وسيلة أو أداة تستخدم في ضع نظريات بصورة مسبقة عن طريق الاستقراء والاستنتاج، اعتمادا على المنطق الشكلي، وكذلك، تتسم الوضعية بأنها لا تاريخية (ahistorical).
في القرن العشرين كانت للينين ريادة دحض الوضعية الجديدة فلسفيا وكشفها كفلسفة رجعية يدفعها عجزها عن تحد الوضع القائم (status quo)، والحفاظ عليه في نهاية المطاف. انجز لينين هذه المهمة في مؤلفه الفلسفي الشهير " المادية والنقد التجريبي-1905". وعلى الصعيد السياسي، بعد الحرب العالمية الأولى، أدت الثورة الروسية الى هزيمة الاشتراكية الديمقراطية بشكل ساحق وتأسيس دولة العمال الاشتراكية.
لكن تعزيز النظام العالمي الإمبريالي منذ القرن العشرين وتجديد الحياة في جسم الرأسمالية، اخذت الاشتراكية الديمقراطية في الانتشار نتيجة لتدنى حدة التناقضات الطبقية الملازمة للرأسمالية اثر تحولها النوعي. وبينما تمسك الشيوعيون بنهج كشف حقيقة الانتاج الرأسمالي وقوانينه الاستغلالية، فضل الاشتراكيون الديمقراطيون الإصلاح. ومنذ عشرينيات القرن العشرين إلى السبعينيات حازت الأحزاب ذات التوجه الاشتراكي الديمقراطي على السلطة في العديد من البلدان الغربية، مثل بريطانيا والسويد، وأجرت بعض الإصلاحات الاجتماعية والاعتماد على سياسيات كينزية (Keynesian policies) لمواجهة التقلبات الدورية للنظام الرأسمالي. وفى نهايات القرن العشرين بعد سقوط دولة الاتحاد السوفيتي، تخلت بعض الأحزاب الشيوعية عن أسس الماركسية واتجهت الى تعريف نفسها كتنظيمات اشتراكية ديمقراطية.
الاشتراكية الديمقراطية تحمل رؤى وتصورات ذاتية مثالية لما يجب ان يكون عليه الواقع الاجتماعي/الاقتصادي للتاريخ والاقتصاد. وتمثل الاشتراكية الديمقراطية، التي تعتبر فى عصرنا تيار إصلاحي داخل الرأسمالية، تيارات مختلفة صعدت، كما مر ذكره، للسلطة في بعض البلدان الاوربية الغربية. واما كمثال لها في البلدان النامية، فهناك "الاشتراكية العربية" و"الاشتراكية الافريقية" و"الأحزاب البعثية". ورغم التفاوت في البيئات والمرحلة التاريخية، فان الافكار الاشتراكية الديمقراطية تشترك في ان مطالبها تتلخص في تحقيق عدالة اجتماعية ضمن النظام السائد بفكرة إمكانية إصلاحه بإجراءات وأدوات سياسية (الضرائب التصاعدية، الرفاه اجتماعي، حقوق العمال، الضمان الصحي والتعليمي الشامل، وليس بتغيير البنية الاقتصادية وعلاقات الإنتاج نفسها. لكن، ان أي تغيير، يسعى لتحقيق العدالة الاقتصادية في واقع اقتصادي رأسمالي او شبه رأسمالي (المتسبب بالضرورة في عدم المساواة)، لن يتجاوز مجرد إصلاحات محدودة لا أكثر.
في الولايات المتحدة الامريكية فان الاشتراكية الديمقراطية لها تاريخ طويل تمثل في ( الحزب الاشتراكي الأمريكي ( --Socialist Party of America—الذى اسس في العام 1901 وتم حله في 1972 . وفى 1982 تأسس تنظيم الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا (DSA).
بخلاف الاشتراكية الديمقراطية، فان الاشتراكية العلمية اثبتت ان تطور المجتمعات الإنسانية هو التطور المادي الفعلي للمجتمع، أي تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في ظل المجتمعات الطبقية، وليس الأفكار أو الأخلاق أو حسن القصد وهكذا فان الاشتراكية العلمية تقوم على أساس مادى يتلخص في ان الحقب الاجتماعية/الاقتصادية تاريخية تتبدل وتتغير بصورة دائمة في الشكل والمحتوى بفعل قوانين موضوعية. فالاشتراكية ضرورة تاريخية وليست فكرة أخلاقية مجردة، وتنبع من صراع التناقضات الطبقية في المجتمع؛ كمثال نجد في الرأسمالية ان الاشتراكية لا تتشكل من دوافع ذاتية من العدالة أو فعل الخير المجرد ، بل من صراع التناقض المادي بين الطابع الاجتماعي للإنتاج الذى يقوم به ملايين الناس والطابع الخاص للملكية حيث تذهب الثروة المنتجة لقلة من الرأسماليين. ان حل هذا التناقض في مجرى الصراع الطبقي يقود لقلب نظام الملكية لصالح الطابع الاجتماعي لوسائل الإنتاج.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة