دور المؤتمر اللاوطني في تشكيل الميليشيات القبلية والجهوية: قراءة تحليلية في ضوء نشاط شعبة القبائل بجهاز أمن المخلوع مقدمة شهد السودان خلال العقود الثلاثة التي حكم فيها "لانظام" المؤتمر اللاوطني بقيادة المخلوع عمر البشير حالةً من تسييس القبيلة وتجيير البنية الاجتماعية لخدمة السلطة. اعتمد اللانظام على أدوات متعدّدة لإحكام قبضته على المجتمع، كان من أبرزها جهاز الأمن والمخابرات الوطني الذي لم يقتصر دوره على جمع المعلومات الأمنية، بل أنشأ وحدات خاصة للتأثير في المجتمع الأهلي، مثل «شعبة القبائل» التي مثّلت أداة مركزية في اختراق البنية القبلية، واستقطاب زعاماتها، وتوظيفها في إنشاء ميليشيات موالية للنظام. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل دور المؤتمر اللاوطني في تشكيل الميليشيات القبلية والجهوية عبر سلطة الانقلاب الأمنية، مع التركيز على شعبة القبائل بوصفها نموذجاً يعبّر عن آليات السيطرة السياسية والاجتماعية التي مارسها اللانظام السابق. أولاً: الخلفية التاريخية والسياسية لتأسيس شعبة القبائل أنشئت شعبة القبائل في إطار جهاز الأمن ومخابرات المخلوع خلال تسعينيات القرن الماضي، مع تصاعد نشاط الحركة الاجرامية في مؤسسات الدولة عقب انقلاب عام 1989. وقد أوكلت إليها مهام محددة، من أبرزها: جمع المعلومات عن التركيبة القبلية في الولايات، وتحديد الولاءات المحلية. استقطاب النظار والعمد والشيوخ عبر الامتيازات والمنافع السياسية والاقتصادية. تجنيد أبناء القبائل في مجموعات مسلحة محلية تابعة للأمن، تُستخدم لمراقبة المجتمعات الريفية أو قمع المعارضة. إدارة الصراعات القبلية بطريقة تضمن بقاء الولاء للسلطة المركزية في الخرطوم. بهذا المعنى، مثّلت «شعبة القبائل» أداة استخبارية ذات غطاء اجتماعي، تسعى إلى إعادة هندسة العلاقات الأهلية بما يخدم مشروع «التمكين» الذي انتهجه المؤتمر اللاوطني. ثانياً: الميليشيا القبلية كأداة للهيمنة السياسية اعتمد المؤتمر اللاوطني على ما يمكن تسميته بـ تحالف الأمن والقبيلة. فالنظام لم يكن يرى في القبيلة مؤسسة اجتماعية تقليدية، بل منصة تعبئة سياسية يمكن عبرها بناء قوة ميدانية موازية للجيش والشرطة. وقد استخدم هذا الأسلوب على نطاق واسع في دارفور، وكردفان، وشرق السودان. من خلال شعبة القبائل، تم تسليح مجموعات محلية بحجة حفظ الأمن أو حماية القرى، لكنها في الواقع كانت تعمل تحت توجيه جهاز الأمن والحزب الحاكم. وبهذا تمكّن المؤتمر الوطني من: قمع المعارضين المحليين بأيدٍ من داخل بيئاتهم القبلية. تحييد الزعامات التقليدية المستقلة عبر خلق قيادات بديلة موالية. إضفاء طابع اجتماعي على الصراع السياسي، بحيث يبدو النزاع وكأنه «خلاف قبلي» لا «حرب سلطة». كانت هذه الإستراتيجية فعّالة في المدى القصير لسلطة المخلوع ، لكنها أفرزت آثاراً مدمّرة على المدى البعيد، إذ أضعفت مؤسسات الدولة، وأشعلت صراعات أهلية مزمنة. ثالثاً: حالة مبارك أحمد حميد بركي نموذجاً يُعدّ مثال مبارك أحمد حميد بركي في ولاية كسلا نموذجاً مصغّراً لهذه السياسة. فقد شغل المذكور عضوية المجلس التشريعي عن حزب المؤتمر اللاوطني، كما ارتبط اسمه بمحاولات تجييش القبيلة لصالح النظام السابق، مستفيداً من موقعه الأسري بوصفه ابن أحد العمد المعروفين في شرق السودان. تُظهر هذه الحالة كيف استخدم الحزب الحاكم الأواصر العائلية والمكانة التقليدية لتوسيع نفوذه، عبر تقديم كوادر حزبية في صورة ممثلين للقبيلة. لكن هذا التداخل بين الولاء الحزبي والانتماء القبلي أدّى إلى إرباك البنية الاجتماعية، وتجاوز سلطة النظار التقليدية، بل وتوريط القبائل في صراعات سياسية لا تخصها مباشرة. رابعاً: الآثار الاجتماعية والسياسية لتسييس القبيلة 1. تفكيك السلطة التقليدية أدّت سياسات المؤتمر اللاوطني إلى إضعاف المؤسسات الأهلية التاريخية، بعدما كانت مرجعية للعرف ولحل النزاعات. إذ جرى تجاوزها لصالح أفراد مرتبطين بالأمن أو الحزب، ما أضعف شرعية النظار والشيوخ وأفقد القبيلة تماسكها الداخلي. 2. تحويل الولاء من المجتمع إلى الدولة الأمنية تحوّل الولاء القبلي إلى وسيلة للترقي السياسي، وصار الارتباط بجهاز الأمن مدخلاً للحصول على النفوذ أو الموارد. وبهذا تحوّل المجتمع الأهلي من كيان مستقل إلى شبكة تابعة للسلطة المركزية الانقلابية. 3. تغذية الصراعات القبلية بتسليح المجموعات المحلية وتوجيهها أمنياً، تحوّل الصراع من تنافس سياسي إلى حروب أهلية مصغّرة بين قبائل متجاورة، كما حدث في دارفور وكردفان وأجزاء من الشرق. وهذه الصراعات كانت تُدار في كثير من الأحيان عبر ضباط من شعبة القبائل، ما جعلها جزءاً من الإستراتيجية الأمنية الكلية لللانظام".
4. ضرب فكرة الوحدة الوطنية بنتيجة هذه السياسات، بات الانتماء الجهوي والقبلي يُقدَّم على الانتماء الوطني. وانحسر مفهوم الدولة الجامعة أمام تغوّل الانتماءات الضيقة التي غذّاها النظام السابق عبر المال والسلاح والسياسة. خامساً: تفكيك شعبة القبائل بعد سقوط النظام عقب سقوط نظام البشير في أبريل 2019، بدأت لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو الكشف عن نشاط وحدات جهاز الأمن، ومن بينها شعبة القبائل. وقد أشارت تقارير صحفية سودانية – منها صحيفة التيار والانتباهة – إلى أن هذه الشعبة كانت تعمل بإشراف مباشر من قيادة الأمن السياسي، وأنها كانت تموّل أنشطة ظاهرها اجتماعي وباطنها أمني، مثل مؤتمرات الصلح أو "اللقاءات القبلية" التي تُستخدم لرفع الولاء للنظام. وقد تم حلّ هذه الشعبة رسميًا ضمن عملية إعادة هيكلة جهاز المخابرات العامة، لكن آثارها الاجتماعية والسياسية لا تزال قائمة، إذ ظلّت الميليشيات التي أنشأتها فاعلة في مناطق النزاع، وبعضها انخرط لاحقاً في الحرب الجارية بين الجيش وقوات الدعم السريع. سادساً: قراءة نقدية في خطاب التبرير رغم أن قادة اللانظام السابق دافعوا عن شعبة القبائل باعتبارها «آلية لحماية النسيج الاجتماعي ومنع الحرب الأهلية»، فإنّ التجربة أثبتت أن تسليح المجتمع الأهلي لم يمنع الحرب، بل مهّد لها. فالقبيلة في طبيعتها إطار اجتماعي تضامني، لكن حين تُستخدم كأداة أمنية تتحوّل إلى عنصر صراع. وقد كشف الواقع السوداني أن الزج بالقبيلة في المعترك السياسي كان أحد الأسباب الجوهرية لانهيار مؤسسات الدولة لاحقاً. خاتمة يمكن القول إنّ المؤتمر اللاوطني، عبر جهاز أمنه وشعبة القبائل تحديداً، مارس واحداً من أخطر أشكال التلاعب بالتركيبة الاجتماعية في السودان. لقد حوّل القبيلة من مؤسسة أهلية إلى ذراع أمنية للحزب الحاكم، فاختلط الانتماء الاجتماعي بالولاء السياسي، وأُضعفت بنية الدولة لصالح الميليشيات المحلية. إنّ تجاوز هذا الإرث يتطلّب خطوات جذرية، أبرزها: تفكيك شبكات الأمن القبلي التي أنشأها النظام السابق. إعادة الاعتبار للزعامات الأهلية المستقلة، وحمايتها من التسييس. حظر أي نشاط مسلح ذي طابع قبلي أو جهوي. إطلاق مشروع وطني شامل للمصالحة الاجتماعية يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس المواطنة لا العصبية. المراجع
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
جمال الصديق الامام المحامي
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست