من منتدى القيفة إلى التشخيص النقدي هذه الورقة جاءت من طرح د. صلاح الشاذلي والأستاذ وليد أبوزايد في منتدى القيفة على الكلوب هاوس، وكانت نتاج عصف ذهني عميق حول أزمة الدولة السودانية وعلاقة القبيلة بالهوية الوطنية. هدفنا هنا تقديم قراءة تاريخية نقدية، تجمع بين التحليل التاريخي الصرف، والفهم المعاصر للأزمة، مع التركيز على سبل تجاوز المأزق. أولاً: القبيلة – البنية الوسيطة بين التمرير والمقاومة القبيلة ليست مجرد بقايا لمجتمع ما قبل حديث، بل هي أداة مرنة في يد الدولة نفسها كما يوضح عطا البطحاني. آلية الهيمنة المركزية: استخدمت النخب الحضرية والسلطوية شيخ القبيلة كوسيط لتعبئة الدعم السياسي، محوّلة الولاء من الوطن إلى الزعيم. آلية المقاومة اللامركزية: في مواجهة الدولة المستبدة، أصبحت الروابط القبلية ملجأً للمجموعات المهمشة للحفاظ على كيانها الاقتصادي والثقافي، كما حدث في دارفور وجنوب كردفان. ولا يمكن حل إشكالية القبيلة بإلغائها، بل بتحويلها من أداة استغلال سياسي إلى إطار ثقافي واجتماعي يدعم اللامركزية والتنمية المتوازنة.
ثانياً: الهوية – ساحة الصراع وساحة الحل
الهوية في السودان كانت أداة إنتاج إقصاء، وليست مجرد خصائص طبيعية.
الإقصاء القسري: مشروع "أسلمة وتعريب" السودان لم يكن دينياً فقط، بل سياسياً لتوحيد السلطة في يد نخبة معينة (حيدر إبراهيم علي، 1995).
الهوية كعملية تفاوضية: كما يرى جون قرنق وفرانسيس دينق، الهوية عملية بناء يومي عبر التفاعل والتشارك، وهي "هوية مشروع"، لا جوهر ثابت.
اوهنا نصل لحل أزمة الهوية لا يكون بالبحث عن هوية أصلية واحدة، بل بالاعتراف بالتعدد كأساس للمواطنة المتساوية.
ثالثاً: الدولة – من دولة الغنائم إلى دولة المواطنة
أزمة الدولة هي أزمة شرعية قبل أن تكون مؤسساتية:
الدولة الغنائمية: خصخصة السلطة والموارد لمصلحة تحالف ضيق (عسكري-طائفي-قبلية-تجاري).
ردود الفعل: حرمان الأقاليم أدى إلى التمرد، الحكم الذاتي، ثم الانفصال (جنوب السودان).
شرعية الدولة تتحقق عبر تحويلها إلى دولة تحمي مواطنيها على قدم المساواة، وتفكيك نموذج الدولة الغنائمية.
رابعاً: الوحدة الوطنية والموروث الجيني
الجينات: تكشف أن السودانيين يحملون تاريخاً بيولوجياً متشابكاً، نتيجة الهجرات والاختلاطات، لكنها لا تحدد الانتماء السياسي.
المواطنة: الانتماء للوطن يجب أن يكون عقداً اجتماعياً، يضمن المساواة ويجعل الوحدة الوطنية قائمة على قانون ودولة محايدة ثقافياً ودينياً.
الوحدة الوطنية المستدامة لا تُبنى على الدم، بل على عقد اجتماعي جديد يعترف بالتنوع ويحمي حقوق جميع المواطنين.
خامساً: التشابك بين القبيلة الإفريقية والسودانية
البعد التاريخي: امتدادات القبائل السودانية عبر تشاد، أوغندا، جنوب السودان وإثيوبيا (فرانسيس دينق، 1995).
البعد الثقافي والاجتماعي: الأعراف، الحكم الأهلي، والموروثات الإفريقية تتداخل مع محاولات الأسلمة والتعريب القسري (محمد أبو القاسم حاج حمد، 1980).
البعد السياسي والوطني: الحركات المسلحة استندت إلى الانتماءات القبلية العابرة للحدود، لكنها يمكن أن تتحول إلى مصدر قوة إذا أُعيد تعريف الهوية كسودانية متعددة الأصول.
سادساً: الدين في البعد القبلي السوداني
الإسلام والقبيلة: الطرق الصوفية وفرت ولاءات مزدوجة بين الدولة والقبيلة (عبد الله علي إبراهيم، 2004).
الموروث الإفريقي: الطقوس الرمزية حافظت على التماسك الاجتماعي رغم دخول الأديان الكبرى (فرانسيس دينق، 1995).
الدين والشرعية السياسية: الثورة المهدية والنخب الحديثة استخدمت الدين لتعزيز سلطتها (محمد أبو القاسم حاج حمد، 1980).
التوتر بين التدين الشعبي والإسلام الرسمي: محاولات الدولة فرض قراءة أحادية أسهمت في تقوية الولاءات القبلية والدينية.
الدين عنصر متشابك مع القبيلة والسياسة، ويمكن أن يكون عامل وحدة أو انقسام حسب إدارة الدولة للتنوع.
نحو أفق جديد
الخروج من مأزق السودان يتطلب:
إعادة تعريف الدولة كوطن للمواطنة، لا للهوية الأحادية.
هيكلة السلطة والثروة بشكل لامركزي وعادل.
إعادة بناء الذاكرة الجماعية بوصفها شاملة لكل المكونات الثقافية.
استثمار التشابك القبلي والديني والثقافي كقوة تربط الدولة بمحيطها الإفريقي.
"ثورة المفاهيم" تسبق الثورة السياسية: تحرير القبيلة من السياسة، تحرير الهوية من الأحادية، وتحويل الدولة إلى أداة شاملة لكل المواطنين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة