تعيش العدالة في السودان واحدة من أكثر مراحلها هشاشةً منذ الاستقلال. فبين المحاكم التي تُدار بتوجيهات النظام البائد، والأجهزة التي تُسيّر القضايا بانتقائية، بات القانون ساحةً مفتوحة لتصفية الحسابات، لا لتحقيق العدالة. الحكم الصادر بإعدام المحامي بكري منصور لم يكن مجرد حكمٍ قضائي، بل رسالة مخيفة إلى كل صوتٍ مختلف، وكل من يؤمن بأن القانون يجب أن يكون ميزانًا للحق لا سوطًا للسلطة. القضية ليست الأولى، لكنها الأخطر، لأنها تضعنا أمام واقعٍ لم يعد يُمكن تجاهله: القضاء السوداني أصبح أداة في يد فئة، لا حَكَمًا بين المتخاصمين. منذ اندلاع الحرب، امتلأت السجون بأبرياء لم يحملوا سلاحًا، ولم ينتموا لأي مليشيا. شبابٌ، وأطباء، ومحامون، وناشطون، ولجان مقاومة وغرف طورائ زُجّ بهم في المعتقلات بتهمٍ فضفاضة مثل “التعاون مع الدعم السريع” أو “تقويض النظام الدستوري”. تُلفَّق القضايا، وتُطبخ الأحكام في غرفٍ مغلقة، ويُغيَّب الدفاع، ثم تُعلن النتائج على أنها عدالة ناجزة. أين القانونيون؟ أين القضاة الشرفاء؟ أين أولئك الذين أقسموا أن يحكموا بالعدل ولو على أنفسهم؟ كيف يصمتون وهم يرون العدالة تُغتصب أمام أعينهم؟ كيف يسكتون على قاضٍ يتلو حكم إعدام في غياب المحامي، دون بينةٍ أو مرافعةٍ أو حيثياتٍ قانونية؟ والأدهى من ذلك، والغريب في الأمر أن قائد القوة التي دخلت سنجة وشردت وقتلت المئات، أبوعاقلة كيكل، حر طليق، ويُطلق عليه لقب "بطل"، بينما من لم يستطيع النزوح بعد هروب الجيش أصبح خائنًا. أيعقل هذا؟ كيف يمكن للعدالة أن تصمت أمام هذا العبث؟ لقد تحوّل القانون في السودان إلى مسرحٍ للمهزلة. تُدار القضايا بتوجيهات أمنية، ويُعتقل المحامون قبل جلسات موكّليهم، ويُستدعى القضاة ليتلوا نصوصًا جاهزة. أي عدالةٍ هذه؟ وأي مستقبلٍ لوطنٍ يُعدم فيه من وزّع الدواء على المرضى، ويُكرَّم فيه من وزّع الرعب وشرد الناس؟ القانون ليس ملكًا للعسكر، ولا ورقة بيد النظام البائد، ولا بندقية في يد المليشيات. القانون هو آخر خيطٍ يربط الناس بالدولة، وآخر ما تبقّى من فكرة الوطن. فإذا قُطِع هذا الخيط، فماذا يبقى لنا؟ إن ما جرى مع بكري منصور ليس سوى عنوانٍ كبيرٍ لمرحلةٍ مظلمةٍ يعيشها السودان، حيث تُستبدل العدالة بالانتقام، والمرافعة بالاتهام، والقاضي بالجلاد. وما لم ينهض القانونيون والقضاة الشرفاء ويقولوا “كفى”، فسيأتي يومٌ يُحاكم فيه الوطن نفسه، بلا دفاعٍ ولا شهودٍ ولا أملٍ في البراءة. أبعدوا تلويث القانون عن السياسة، فحين تُستخدم العدالة لتصفية الخصوم، تفقد الدولة آخر خطوطها الأخلاقية. ففي النهاية، لا تبقى الدول القوية بالأسلحة، بل بالقضاء العادل الذي يُنصف حتى خصومها. أعدوا للقانون هيبته، أعدوا للقضاء استقلاله، أعدوا للعدالة صوتها قبل أن تُدفن مع أبريائها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة