يبدو أن أسطوانة زعيم الميليشيا محمد حمدان دقلو "حميرتي"، قد أصابها خدش عميق، خدش يعود بنا إلى إبريل 2023، فلا هي قادرة على المضي لإنتاج لحن جديد، ولا هي صامتة لتريح أسماع السودانيين المنهكين، حيث أنه في كل مرة يطل علينا من مخبئه المجهول، يعيد تشغيل نفس المعزوفة النشاز، بنفس الكلمات البائسة، وبنفس الأداء المسرحي الرديء الذي لم يعد يخدع طفلاً. خطابه الأخير، الذي بثه في الرابع من أكتوبر 2025، لم يكن إلا حلقة مكررة في مسلسل طويل من الفشل السياسي والخواء الفكري، حلقة يؤكد فيها أنه لا يملك في جعبته سوى شماعة بالية صدئة، يعلق عليها كل جرائمه وفشله الذريع، شماعة الإسلاميين والفلول وفي أحسن الأحوال، الطرف الثالث المجهول دائما. منذ أكثر من عامين ونصف، والسودان يحترق بنيران حرب لم يكن لها من داعٍ سوى طموح رجل واحد ورغبته في ابتلاع الدولة، غذ منذ اليوم الأول، اختار "حميرتي"، أقصر الطرق وأكثرها إفلاسا لتبرير انقلابه العسكري الثاني، وهي، شيطنة خصم جاهز. إنها استراتيجية المفلسين عبر التاريخ؛ عندما تعجز عن تقديم رؤية، أو بناء دولة، أو كسب شرعية، فإن أسهل ما يمكنك فعله هو اختلاق عدو، بعبع تخيف به الناس، وتصور نفسك على أنك المنقذ والمخلّص الذي يحارب وحوش الظلام، وهكذا، أصبحت لازمة الإسلاميين والفلول، هي الترنيمة الرسمية لميليشيا الدعم السريع، تتكرر في كل بيان، وتُلوك في كل خطاب، حتى فقدت أي معنى أو تأثير، وتحولت إلى ضجيج مزعج يثير السخرية أكثر مما يثير القلق. عزيزي القارئ.. في مسرحيته الهزلية الأخيرة، يصور "حميرتي"، الاتفاق الإطاري وكأنه كان جنة عدن التي أوشكت أن تهبط على السودان، لولا أن الإسلاميين الأشرار، تآمروا في الظلام لإفشالها وإشعال الحرب. يا لها من بطولة زائفة، ويا لها من سذاجة في استغفال العقول، من الذي يصدق أن قائد ميليشيا، بُني تاريخها على جماجم الأبرياء في دارفور ومجازر المدنيين في الخرطوم، قد تحول فجأة إلى حمامة سلام وحارس أمين للديمقراطية والتحول المدني؟ الحقيقة التي يتجاهلها عمداً، هي أن الاتفاق الإطاري نفسه كان مليئاً بالثقوب، وكان بالنسبة له مجرد جسر تكتيكي يعبر من خلاله للسيطرة الكاملة على مفاصل الدولة. كان يريد من خلال الإطاري تفكيك الجيش السوداني تحت مسمى الهيكلة، ودمج ميليشياته لتكون هي الجيش الفعلي للبلاد، وبالتالي يصبح هو الحاكم المطلق بلا منازع، وعندما أدرك أن هذه الخطة لن تمر بسهولة، وأن هناك من يقف في وجه طموحاته، قرر حرق أوراق اللعبة بأكملها. الاتفاق الإطاري لم يكن هو الهدف، بل كان الوسيلة، وعندما فشلت الوسيلة، لجأ إلى الخطة "ب"، وهي الحرب الشاملة. إن بكائيته على الاتفاق الإطاري اليوم، تشبه بكاء لص على منزل أحرقه بنفسه بعد أن فشل في سرقته. هو من قتل العملية السياسية بطلقة الغدر في صبيحة 15 أبريل 2023م، وهو من نسف كل جسور الثقة، وهو من حوّل العاصمة إلى خراب، واليوم، يأتي ليتهم الآخرين بإفشال ما دمره بيديه، إنها قمة الوقاحة والسفالة السياسية. مسرحية المؤامرة: حبكة ركيكة وإخراج فاشل.. يسرد علينا "حميرتي" ما يسميه تفاصيل ومؤامرات، سبقت الحرب، في محاولة بائسة لرسم صورة لنفسه كضحية بريئة كانت على علم بكل شيء لكنها لم تستطع فعل شيء. يتحدث عن تقلبات البرهان، وعن اجتماعاته مع جماعته، وكيف أنه ضلل المجتمع الدولي، هذا السرد ليس كشفاً للأسرار بقدر ما هو اعتراف ضمني بالغباء السياسي عند هذا الجنجويدي الأرعن. إذا كنت تعلم أن خصمك يخطط للحرب منذ أربع سنوات، كما تزعم، وإذا كنت تراه يتراجع عن وعوده ويجتمع بالمتآمرين، فلماذا سرت معه إلى حافة الهاوية، لماذا لم تكشف هذه المؤامرة للعالم وللشعب السوداني قبل وقوعها؟ الجواب بسيط: لأنه لم تكن هناك مؤامرة بالصورة التي يرويها، كل ما كان هناك، هو صراع محموم على السلطة بين جنرالين غبين أحمقين، كل منهما كان يعد العدة للآخر. "حميرتي" نفسه كان يحشد قواته في الخرطوم ومروي، وينشر جنوده في كل زاوية، ويستعرض عضلاته في تحدٍ سافر لسلطة البرهان وجيشه. لقد كان هو من يجهز لانقلابه، وعندما استشعر أن خصمه قد يتحرك قبله، ضغط على زناد الحرب، ثم بدأ يصرخ لقد تآمروا علىّ. أما قصة أن البرهان أخبر رؤساء أجانب بأنه سيقضي على الدعم السريع في أربع ساعات فقط، فهي نكتة سمجة تثير الشفقة. إذا كان هذا صحيحاً، فهو لا يدين البرهان بقدر ما يفضح "حميرتي" نفسه، فكيف لقوة عسكرية، يُزعم أنها كانت على علم بخطة إبادتها أن تقع في الفخ بهذه السهولة؟ الرواية بأكملها مفككة، متناقضة، ولا تصمد أمام أبسط قواعد المنطق، إنها مجرد محاولة لتصوير نفسه كند القوي الذي أفشل خطة الأربع ساعات، وهي بطولة وهمية لا وجود لها إلا في خياله. لعل الجزء الأكثر إثارة للاشمئزاز في خطابه، هو استغلاله المأساوي لذكرى الفريق نصر الدين، نائب مدير الشرطة آنذاك. يزعم حميرتي أن البرهان قام بتصفية الفريق نصر الدين، لأنه كان يبكي لمنع الحرب. يا إلهي، أي نفاق هذا، زعيم الميليشيا التي قتلت ونهبت واغتصبت الآلاف، والتي لم تترك حرمة إلا وانتهكتها، والتي حولت بيوت الآمنين إلى ثكنات ومقابر، يأتي اليوم ليذرف دموع التماسيح على رجل واحد، محاولا استخدام ذكراه كورقة سياسية رخيصة. أين كانت دموعه عندما كانت ميليشياته تقتل وتغتصب النساء في دارفور، أين كان بكاؤه عندما كان جنوده يقتحمون المستشفيات في الخرطوم ويطردون المرضى؟ أين كان حزنه عندما كانت قذائفه تتساقط على رؤوس الأبرياء في أم درمان وبحري والجزيرة وكردفان؟ إن ذاكرة حميرتي انتقائية كذاكرة السمك، يتذكر فقط ما يخدم روايته، وينسى أن يديه ملطختان بدماء شعب بأكمله. استدعاء روح الفريق نصر الدين في هذا السياق ليس إلا تدنيسا لذكراه، ومحاولة بائسة لكسب تعاطف لم يعد يملكه. في النهاية، ما يقدمه خطاب حميرتي الجديد، هو لا شيء اطلاقا، إنه مجرد صدى لصوت قديم، وترديد لكلمات فقدت معناها. إنه دليل قاطع على الإفلاس السياسي الكامل، فعندما يعجز القائد عن تقديم رؤية للمستقبل، أو مشروع للسلام، أو خطة لإعادة الإعمار، فإنه يلجأ إلى الماضي، ينبش القبور، ويختلق الشياطين. لقد سئم الشعب السوداني هذه الأسطوانة المشروخة، لم يعد أحد يشتري بضاعة الفلول والإسلاميين الكاسدة. الناس في الخرطوم ودارفور والجزيرة وكردفان، يعرفون جيداً من الذي دمر حياتهم، ومن الذي سرق بيوتهم، ومن الذي شتت شمل أسرهم. يرون بأم أعينهم جنود الدعم السريع وهم يعيثون في الأرض فساداً، ولا يحتاجون إلى خطابات ركيكة من زعيمهم ليخبرهم من هو العدو. وفي نهاية هذه التحفة الكوميدية التراجيدية التي لم تُضحك إلا صدى أصوات الرصاص، وبعد أن استعرض حميرتي عضلاته الخطابية في حلبة الإفلاس السياسي، لا يسعنا إلا أن نُهنئه على هذا الإبداع المتجدد في تدوير نفايات الأكاذيب، فمن منا لم يبهره هذا المجدد الذي يصرّ على تقديم نفس العرض المسرحي الفاشل، بنفس الحبكة الركيكة والأداء البائس، وكأن ذاكرة الشعب السوداني لا تتجاوز ذاكرة السمكة التي يتباهى بتقليدها! لقد بلغ الإفلاس السياسي لدى حميرتي درجة تستحق التأمل، لا بل الشفقة، وهو يطالعنا من وكر اختبائه بخطاباته المعدّة سلفا، والتي باتت أشبه بصرخة العاجز الذي فقد كل حجة، ولم يبقَ له سوى أن يعلق فشله الذريع ويديه الملطختين بالدماء على شماعة الإسلاميين والفلول التي أصبحت أثقل من أن تحملها أكتافه الهزيلة، فما أروعها من استراتيجية عندما تعجز عن بناء، دَمِّرْ، وعندما تعجز عن تبرير، اتَّهِم، وعندما تعجز عن القيادة، اختَبِئْ ثم أطلّ لتشتم من دمّرت حياتهم. إن الشعب السوداني، يا بطل الثورات الوهمية وحارس الديمقراطية المزعوم، قد سئم هذه الأسطوانة المشروخة التي تعزف على أوتار الخراب. لقد أدرك جيدا أن بكائية اللص على البيت الذي أحرقه بنفسه لن تخدع أحدا، فالعاصمة الممزقة، والبيوت المنهوبة، والأرواح البريئة التي صعدت إلى بارئها، كلها شواهد صامتة تُجيب عن كل سؤاله، وتفضح كل ادعائه. ليستمر "حميرتي" في تقليب صفحات الماضي، وليصرف ما تبقى من ماء وجهه على تجميل صورته الباهتة، وليبكي على الأطلال التي صنعها بيديه، فالشعب الذي عايش فصول هذه المسرحية الهزلية الدموية، قد تجاوزها بالفعل، وهو الآن ينتظر، لا خطاباته البائسة، بل الستار الأخير الذي سيُسدل على فصل الخراب، ليشرع في بناء سودان جديد، بعيداً عن ضجيج أكاذيبه ورقصات فشله التي لن تثير سوى مزيد من الاشمئزاز، ومزيد من السخرية، ومزيد من العار الذي سيُختم على صفحات تاريخه إلى الأبد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة