في قلب العاصفة التي تمزق السودان، لم تعد الحرب تدار فقط بالبندقية، بل بالمحاكم أيضًا. سقطت الحدود بين القضاء والسياسة، وأصبح ميزان العدالة مائلًا بإرادة القوة، لا بروح القانون. في بلدٍ تآكلت فيه المؤسسات وتبعثرت قيم الدولة، تحولت قاعات المحاكم إلى ساحات صراع جديدة، حيث يُستخدم القضاء لتصفية الحسابات، لا لتحقيق العدالة. القضية التي كشفت عطب النظام تمثل قضية المحامي أبوبكر منصور محمد حمزة في سنجة مثالًا فاضحًا لهذا الانحراف. فالحكم بالإعدام شنقًا استند إلى مستندات “سرية” لا تحمل توقيعًا ولا أصلًا، وجرى في محاكمة غابت عنها أبسط ضمانات العدالة. لم يكن الأمر مجرد خطأ قضائي، بل انعكاس لانهيار الحدود بين السلطات الثلاث، حين تُصبح السياسة هي من يكتب حيثيات الحكم ويحدد من يُدان ومن يُبرّأ. القضية لم تعد تخص رجلًا بعينه، بل تعكس مرضًا بنيويًا في جسد الدولة، حيث تحوّل القضاء إلى أداة في يد السلطة، بعد أن كان في جوهره ميزانًا للمجتمع ودرعًا لحماية الضعفاء. أخطر ما في الأمر أن هذا الانحراف لا يُمارس بخجل، بل يُسوَّق على أنه “انتصار للسيادة” و“استعادة لهيبة الدولة”، بينما هو في الحقيقة قتلٌ بطيءٌ لضميرها المؤسسي. التناقض بين الخطاب والممارسة تستند السلطة الانتقالية في بورتسودان إلى خطابٍ مكرور عن “العدالة الانتقالية” و“سيادة القانون”، في وقتٍ تتهاوى فيه أسس العدالة ذاتها. هذا التناقض ليس مجرد سلوكٍ انتهازي، بل هو منهج في إدارة الصراع، يُستخدم لتغطية هشاشة الشرعية. فكيف يمكن لحكومة تزعم احترام القانون أن تسمح بمحاكمة تُحجب فيها الأدلة عن الدفاع؟ وكيف يُعتقل محامٍ لأنه مارس حقه في المرافعة؟ وهنا تتجلى أزمة السودان الراهنة في أعمق صورها: أزمة الضمير. إننا لا نواجه خللًا إجرائيًا في محكمة، بل انهيارًا أخلاقيًا في منظومة الحكم. حين يُستبدل العدل بالانتقام، والحق بالمزاج، تتحول الدولة من مؤسسة إلى مزاج جماعة، ومن سيادة القانون إلى سيادة القوة. العدالة الانتقائية و حينما يُكافأ الجلاد ويُدان الضحية في المشهد الراهن، لم يعد المعيار هو ما ارتكبته، بل من أنت ومع من تقف. تُوزَّع الأحكام كما تُوزع الغنائم، ويُكافأ من تماهى مع السلطة بالعفو والمناصب، فيما يُقاد أصحاب الرأي والمبادئ إلى المشانق بتهمٍ ملفقة. إن هذه العدالة الانتقائية لا تُهدر حقوق الأفراد فحسب، بل تدمّر رأس المال الاجتماعي للدولة: الثقة. حين يفقد المواطن ثقته في القضاء، يبدأ في البحث عن عدالةٍ بديلة — في القبيلة، أو في السلاح، أو في الثأر. وهنا تكمن بداية الفوضى التي تهدد فكرة الدولة ذاتها. لأن العدالة ليست رفاهية مؤسسية، بل هي العمود الفقري الذي تستقيم عليه الأوطان. المسؤولية الجماعية: بين الصمت والتواطؤ في مواجهة هذا الانهيار، يصبح الصمت تواطؤًا. إن تراجع القوى المدنية، ومنظمات الحقوق، والنخب السياسية عن أداء واجبها الأخلاقي في الدفاع عن المظلومين، يعني المشاركة في جريمة كبرى ضد مستقبل السودان. فالمطالبة بالعدالة في قضية أبوبكر منصور ليست دفاعًا عن فرد، بل عن معنى الدولة نفسها. السكوت عن انحراف القضاء يعني قبولنا ضمنيًا بتحويل العدالة إلى “خدمة سياسية”. وحين تُصبح العدالة سلعة، تفقد الدولة روحها، ويفقد المجتمع تماسكه. المطلوب اليوم ليس بيانًا أو إدانة عابرة، بل مشروع وطني لإعادة بناء القضاء، يقوم على استقلاله التام عن كل نفوذ سياسي أو عسكري. اختبار الضمير قبل اختبار الدولة
أن قضية أبوبكر منصور ليست سوى عرَضٍ لمرضٍ أعمق، هو اختطاف مؤسسات الدولة وتحويلها إلى أدوات للسلطة لا للحق. إن إنقاذ ما تبقى من هيبة الدولة السودانية يبدأ من تحرير القضاء، لأن العدالة هي آخر ما تبقّى من فكرة الدولة الحديثة. كما قال أحد الفقهاء: “إذا فقد القاضي خوفه من الله، ضاعت العدالة وضاع الناس.” اليوم، لا نحتاج إلى قضاة يخافون من السلطة، بل إلى قضاةٍ يخشون الله والوطن. لأن سقوط ميزان العدالة لا يعني سقوط فرد أو قضية، بل سقوط مشروع دولةٍ كاملة. وما لم نُعد الاعتبار للقانون كقيمة أخلاقية لا كسلاح سياسي، فسيظل السودان يدور في حلقةٍ من الظلم تُنذر بنهاية الضمير قبل نهاية الدولة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة