في قلب السودان الدامي، حيث تتكسّر المدن وتتمزق الجغرافيا والذاكرة معاً، يهرع المراقبون عادة إلى تفسير الحرب بعبارات جاهزة: صراع على السلطة، على الذهب، على مياه النيل. لكن هذه المقاربات رغم أهميتها، تقف عند السطح. فمن يغوص قليلاً تحت المشهد يصطدم بحقيقة أعمق وأقسى وأجمل في آن واحد الحرب السودانية ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل هي انفجار لروح شعب كامل — روح تُدعى "الشخصية السودانية" هذه الشخصية ليست تكويناً ساكناً، بل نهرٌ يتحرك، صحراوات تتنفس، طريق طويل بين الانتماءين العربي والأفريقي إنها مزيج من المرونة النيلية، والكرامة الصحراوية، والروح الجماعية للقبيلة، والتسامح الصوفي، والاختلاط الثقافي الذي جعل السوداني دائماً في حالة حوار دائم مع ذاته تعالوا في البداية نذهب لجذور الشخصية السودانية… نسيج من المتناقضات المبدعة لا يمكن فهم حاضر السودان دون إدراك ذلك النسيج المركب الذي تشكّل عبر آلاف السنين مرونة النيل التي تعلم الإنسان كيف ينحني أمام الفيضان كي ينجو كبرياء الصحراء حيث الشرف قيمة لا تقبل التجزئة الروح الصوفية التي تُنبت في الإنسان ميلًا للتسامح، ونزوعاً للتعاطف حتى مع الخصم العصب القبلي الذي يمنح الأمان ويحدد دوائر الولاء التوتر العربي–الأفريقي الذي لم يكن يوماً انقساماً لغوياً فقط، بل أصبح شيفرةً معنوية لوعيٍ سودانيّ ممزق ورائع في الوقت نفسه هذه ليست سمات ثقافية عابرة، بل هي آليات نفسية واجتماعية" تتحكم في طريقة إدارة السوداني للأزمات، سواء كانت ثورة على الاستبداد أو صراعاً على الأرض كيف تتحول الثقافة إلى محرّك للحرب؟ الحرب السودانية الحالية ليست حدثاً معزولاً، بل امتدادٌ مباشر لهذه الشخصية التاريخية. وتتجلّى تأثيرات الهوية عبر أربع آليات أساسية معركة الشرعية والرمز في ظل انهيار المؤسسة الرسمية، تصعد الشرعية التقليدية- الشيخ، الناظر، قطب الطريقة، زعيم الحي لذلك تتقاتل الأطراف المسلحة اليوم ليس فقط على الخرطوم، بل على أصوات الشيوخ والرموز وهكذا يتحول الصراع إلى معركة رمزية، حيث "الشرف" قد يكون أثمن من الأرض نفسها الشبكات الاجتماعية سيف يمكنه أن يقطع باتجاهين القبيلة والطريقة والحي ليست فقط مؤسسات اجتماعية؛ إنها شبكات تعبئة متحركة يمكن أن تصنع سلاماً محلياً في ذات اليوم الذي تشتعل فيه حربٌ في الجهة المجاورة النزعة السلمية… التي تنقلب بسهولة إلى ثأر السوداني بطبعه ميّال للسلام. أسقط ثلاثة أنظمة عسكرية باللاعنف وحده 1964، 1985، و2019. لكن حين ينهار ميزان العدالة، ينقلب هذا السلام إلى غضب انتقامي، فتظهر المليشيات بسرعة البرق كأنها عشبة نبتت بعد مطر غزير الولاءات المتشظية في لحظات الحرب، يصحو السؤال القديم- هل ولائي للدولة؟ أم القبيلة؟ أم المنطقة؟ أم للخطاب الذي يَعِد بالكرامة؟ هذا التشتت يفسّر هشاشة التحالفات، وانهيار كل اتفاق سلام بمجرد تغيّر ميزان القوة جذور تاريخية… من المهدية إلى ثورة ديسمبر هذه الشخصية لم تولد مع حرب أبريل وحدها؛ إنها شريط طويل من التجلّيات الكبرى المهدية (1881–1898): الانفجار الأول كانت ثورة دينية وسياسية واجتماعية معاً بمعايير اليوم جمعت السودانيين حول شعار العدل والكرامة، ثم فرّقتهم نفس الدوافع بعد النصر. النهر الذي جمعهم عند أم درمان، تفرّق إلى جداول صغيرة لاحقاً.
ثورة أكتوبر 1964 وأبريل 1985 هنا يظهر الوجه الآخر للسودان: سلمية مخيفة في قوتها. إضرابات، عصيان مدني، ثورات بلا سلاح. لكن كلتا الثورتين سقطتا سريعاً في ثغرة الفوضى الحزبية وطغيان الولاءات القديمة.
ثورة ديسمبر 2018 أجمل لحظات الشخصية السودانية لجان مقاومة تُعيد تعريف العمل السياسي من الشارع. فن، شعر، سلمية، تنظيم ذاتي… لكن غياب المؤسسات أعاد فتح الباب أمام الفوضى.
حرب 2023… لحظة الانكشاف الكبرى الحرب الحالية بين الجيش وقوات الدعم السريع هي انفجار الهوية السودانية بكل تناقضاتها: *الجيش يستدعي رمزية "الدولة الوطنية القديمة".
*الدعم السريع يرفع راية "المهمشين" وسردية الأطراف.
القبائل تتحرك كجيوش مستقلة
الناس يحتمون بانتماءاتهم الأولية
هذه الحرب ليست صراع جنرالات فقط؛ إنها حرب رؤى حول معنى السودان ذاته
نحو سلام يفهم السوداني ولا يفرض عليه
لن تنجح أي مبادرة سلام إذا لم تُبنَ على الخصائص النفسية والاجتماعية لهذا الشعب
على صناع السياسة-إدماج الزعامات التقليدية في قلب التفاوض، لا على الهامش بناء مؤسسات تُمثّل الأحياء والقرى كما تُمثّل المركز
على المجتمع المدني- تحويل روح ديسمبر السلمية إلى مؤسسات دائمة لا تزول بزوال الحكومات على المجتمع الدولي -تقديم الدعم بلغة يفهمها الواقع المحلي، لا عبر وصفات جاهزة
دعم إصلاح القطاع الأمني والعدالة الانتقالية السودان ليس بلداً يبحث عن هوية… بل هوية تبحث عن بلد الشخصية السودانية ليست لعنة، وليست سبب الحرب وحدها إنها السبب في قدرتنا على النهوض أيضاً ان كان اهل التربية فيها واصحابقضية الاستنارة يودون تطويرها بمنتهج جديدة في التفكير ومعالجة الامور بعقلانية هي التي أسقطت الطغاة بالصدور العارية، وهي التي يمكن أن تبني سوداناً جديداً إذا توفرت دولة تعترف بكل تناقضاتها السوداني يحمل في داخله نهرين من التركمات فيها الغيبيات وجهلة واظلام العقول الافريفية والعربية ولا انسي أضا هنالك أنهار اخري مثل نهر السلام ونهر الغضب والمستقبل يتوقف على أيهما سنطلق، وأي دولة ستقدر على احتواء الاثنين معاً السودان هو هوية بها كم كبير من التناقضات متمردة، نبيلة، دامية — وتبحث منذ 150 عاماً عن وطنٍ يتسع لها.
مراجع سودانية
عبدالله علي إبراهيم – الهوية السودانية: جدل العرب والأفارقة، 2003.
محمد أبو القاسم حاج حمد – السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل.
محمد جلال هاشم – السودان: صراع الهوية والموارد.
فرانسيس دينق – صراع الرؤى: الهوية والأيديولوجيا في السودان، 1995.
الطيب محمد الطيب – القبيلة في السودان: التكوين والوظائف.
عون الشريف قاسم – قاموس اللهجة العامية في السودان، (لتحليل التعدد الثقافي).
مراجع بريطانية ودولية
S. Trimingham – Islam in the Sudan, Oxford University Press, 1949.
Alex de Waal – Darfur: A Short History of a Long War, Zed Books.
Douglas H. Johnson – The Root Causes of Sudan's Civil Wars.
Richard Collins – مقالاته حول ثورة أكتوبر في دورية African Affairs.
British Royal Institute of International Affairs (Chatham House) – تقارير حول حرب السودان 2023.
Frederick Barth – Ethnic Groups and Boundaries, تحليل الهوية في جبال النوبة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة