يا للعار… ويا للفجيعة. لقد فُرض علينا أن نعيش زمنًا باهتًا، زمن الرجولة المخصية، واللغة المعقمة، والزيف المترف بالكذب والرياء والنفاق. فُرض علينا أن نُصادق الحزن ونُعاشر الكآبة، وأن نؤنس المجازر ونرعى الموت في مدننا وقرانا كأنّه قدر لا فكاك منه.
الهزيمة لها وجوه كثيرة، لكن أكثرها بشاعة حين تُصاغ في صورة “نصر” لحظي تُبنى على جثث الأبرياء. فما يحدث في السودان اليوم ليس مجرد صراع على سلطة، بل هو انهيارٌ شاملٌ لقيم الحياة لقيم الإنسانية المذبوحة على محراب الخداع والزيف، ومعركة دامية ضد كل ما هو إنساني، وضد من لا يملكون سلاحًا سوى أجسادهم وأحلامهم المنهوبة.
مأساة لا تسعها الكلمات وتعجز عن وصفها اللغة. في زمن ذُبحت فيه الحقيقة على موائد الرياء السياسي والتواطؤ الإقليمي والدولي، يُفرض على شعب السودان أن يعيش واحدة من أبشع مآسي هذا العصر. قصفٌ ممنهج على أجساد المدنيين العزل، وآخره ما تم بمنطقة سوق "الزرق" بشمال دار فور، ومنطقة "بلبل" بجنوب دار فور.
ومجازر في وضح النهار تغطي كل جغرافيا السودان التي صار يستوطنها الموت بمختلف صوره، قتل وتهجير قسري لأسر كاملة، وجثث متفحمة تحت الأنقاض. أطفال يُنتشلون من تحت الركام، شيوخ يموتون جوعًا أو رعبًا، وأمهات يدفنّ أبناءهن بأيدٍ مرتجفة. وهناك من يموتون في صمت من تأثير الاسلحة المحرمة دوليا.
هذا ليس صراعًا بين جيوش. إنها حرب على اجساد المدنيين، على الضعفاء، على من لا صوت لهم.
وفوق كل ذلك فرض على السودانيين أن يواجهوا عدوين: • عدو من الداخل: “مننّا وفينا”، لكنه اختار السلطة على الحياة، واختار الكرسي على كرامة السودانيين، اختار "هي لله لا للسلطة ولا للجاه"، فصار السلاح لغته الوحيدة، والتدمير طريقه إلى السيطرة. • وأعداء من الجوار وما بعد الجوار. أعداء جعلوا من أنفسهم شركاء في الجريمة، وامتد دعمهم إلى تأجيج النزاع بدل إطفائه، حتى أصبحت الحدود خنادق، والجغرافيا فخاخ موت، وأصبحت الأيدولوجية رسل فناء تأتينا على اجنحة الموت والدمار والخراب.
كل هذا الدم… كل هذا الموت والدمار والتشريد والعالم صامت، ما يزيد الجريمة فظاعةً، ليس فقط من يُنفذها، بل من يصمت عنها. هذا الصمت الإقليمي والدولي ليس عجزًا بريئًا، بل هو تواطؤ معلن. أين ضمير العالم من دارفور؟ من كردفان؟ من الخرطوم والجزيرة والنيل الأزرق؟ أين الإنسانية التي تتغنى بحقوق الإنسان حين يكون الضحية “غريبا”، وتصمت حين يكون القاتل "قريبا"؟
أين الإعلام؟ أين العواصم التي لا تهدأ أمام أي انتهاك خارج أجنداتها ولو في حادث نفوق كلب او قطة، لكنها تغلق شاشاتها حين يُذبح إنسان السودان؟ إن هذا الصمت جريمة لا تقل فظاعة عن المجازر نفسها، بل قد تكون أقسى، لأنها تمنح القتلة شعورًا بالإفلات الكامل من العقاب.
فليعلم العالم الذي يسمى حرا ان هذه المجازر اليومية لن يغفرها التاريخ، ما يحدث اليوم من جرائم وقصف للمدنيين ليس حدثًا عابرًا. إنه وصمة عار ستلاحق مرتكبيها، وشركاءهم، والصامتين عنهم، وكل من موّل، وبرر، وسوّق، وغطّى، وتفرّج. سيشهد التاريخ، وسيحفظ الدم السوداني، كل لحظة رعب، وكل صرخة، وكل خذلان. هذا السلوك البربري في قصف المواطنين سيبقى لعنةً تلاحقهم في سفر التاريخ، وعارًا أبديًا لا يُمحى، وموبقات لن يشملها عفو ولا تسامح…
لا يكفي أن نكتب،صحيح أن الكلمات لا توقف الرصاص، لكنها تحفظ الذاكرة. لا يكفي أن نشجب، لكن لا بد أن نكتب، لأن في الشهادة حياة للكرامة، ولأن في الغضب النبيل معنى حين يتحول إلى وثيقة تحفظ الحقيقة من التشويه.
السودان لا يحتاج فقط إلى “حل سياسي”، بل إلى عدالة، إلى مساءلة حقيقية إلى محاكمات وإنزال عقاب، وإلى ضمير عالمي يعترف بأن ما يجري ليس نزاعًا محليًا، بل جريمة إنسانية مكتملة الأركان.
كما أن السودان لا يحتاج إلى “حلول فوقية”، تُدار في غرف مغلقة لا تعرف شيئًا عن الأرض التي تنزف. بل يحتاج إلى معالجة حقيقية للجذور، حتى لا يعاد إنتاج نفس الكارثة في ثوب جديد، بحروبٍ أشد دموية، ومآسٍ أعظم فظاعة، لا أحد بريء في حضرة المجزرة. وإذا لم يكن العالم قادرًا على إيقاف الموت، فليقل على الأقل: هذا موتٌ لا يليق بالبشر. وإذا لم نستطع اليوم أن نمنع المجازر، فعلينا أن نُراكم الوعي، ونحفظ الذاكرة، ونُعد سجلًا لا يسقط بالتقادم. لأن أسوأ من القتل… هو النسيان. فلنحفظ ما يحدث الآن للأجيال القادمة كي يعرفوا قيمة الوطن.
جذرية الحل لا تُغفل الضيق الذي يمر به السودانيون، كما يُقال في المثل الدارج: (الجيعان فورة البرمة قاسية عليه). فمعاناة الناس وضيق عيشهم واقع لا يُمكن إنكاره أو تجاهله، لكنه لا يجب أن يكون مبررًا لتبني حلول عجولة أو تسويات سطحية. من الخطأ أن يصل الغرماء إلى حلول كيفما اتفق، لأزمات متراكمة تعود جذورها إلى عقود من التهميش، وانعدام العدالة، وتشظي الرؤية الوطنية.
الجائع، وإن استعجل الطعام، فإن مصلحته الحقيقية تكمن في أن ينضج الطعام على مهل، لا أن يُقدّم له نيئًا يصعب هضمه، فيعود بالأذى بدل الفائدة. وكذلك الوطن، لا يُشفى بأدوات الأزمة نفسها، ولا يُبنى على أنصاف الحلول، بل على مراجعة صادقة، وشجاعة سياسية، ورؤية تتجاوز حسابات اللحظة إلى مستقبل مستقر وعادل.
إن الحل الجذري يعني معالجة الأسباب لا الأعراض، وبناء الدولة على أسس جديدة: دولة القانون، والمواطنة، والمؤسسات، لا دولة المحاصصات والتوازنات الهشة. ولا يُمكن تحقيق ذلك ما لم يتم وضع معاناة الناس في قلب المشروع الوطني، دون أن يُستخدم ذلك كذريعة لتعطيل العدالة أو تغليب المصالح الضيقة. فقيمة الحل لا تُقاس بسرعته، بل بقدرته على الصمود والتماسك أمام رياح الانهيار.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة