يعيش السودان اليوم واحدة من أكثر المراحل خطورة وتعقيداً في تاريخه الحديث. فمع استمرار الحرب، وتفتت مؤسسات الدولة، وتراجع الثقة الشعبية في النخب، يُطرح سؤال جوهري: كيف وصلت البلاد إلى هذا الحد من الانهيار؟ قد تختلف التحليلات الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، غير أن القاسم المشترك الذي يتفق عليه كثيرون هو العطب الأخلاقي العميق الذي ضرب الحياة السياسية السودانية لعقود طويلة. فالسودان، كما يراه أبناؤه اليوم، أصبح مسرحاً لطبقة سياسية جاءت من دون ضمير، وأحزاب تحولت إلى هياكل بلا قيم، وأسهم الطرفان معاً في جر البلاد إلى الهاوية. سياسيون بلا ضمير… من خدمة الوطن إلى خدمة الذات لا يمكن اعتبار السياسي في أي بلد مجرد موظف إداري؛ فهو صاحب مشروع وضمير ومسؤولية. غير أنّ المشهد السوداني يُظهر طبقة سياسية فقدت بوصلتها الأخلاقية. فبدلاً من السعي لبناء دولة قوية تحقق العدالة والتنمية، انشغل جلّ السياسيين بالصراعات الشخصية والمغانم الضيقة، حتى صار المشهد عبارة عن سباق محموم على المناصب، لا على المبادئ. فكم من سياسي اعتلى المنابر متشدقاً بالحديث عن الوطنية، ثم انقلب عند أول اختبار ليضع ولاءه الشخصي فوق ولاء الوطن؟ وكم من مسؤول جعل المصلحة العامة آخر اهتماماته، بينما يوظف سلطته لترسيخ نفوذ قبيلته أو جماعته أو دائرته الضيقة؟ لقد أسهمت هذه العقلية في تدمير فكرة الدولة نفسها، وحولت العمل العام إلى غنيمة، لا إلى تكليف. أحزاب بلا قيم… هياكل تبحث عن جمهور ضائع في السياق نفسه، تظهر الأحزاب السودانية كصورة مكبرة للأزمة الأخلاقية. فبدلاً من أن تكون مؤسسات تحمل رؤى واضحة وتعمل على تثقيف المجتمع السياسي، تحولت الكثير من الأحزاب إلى أندية مغلقة للقادة التاريخيين، تُورّث المناصب داخل العائلات أو داخل مجموعات ضيقة لا علاقة لها بالكفاءة أو التجديد. لا برامج سياسية جادة، لا رؤية اقتصادية قابلة للتطبيق، ولا آليات ديمقراطية حقيقة داخل هذه الكيانات. ولذلك، لم يكن غريباً أن تنفصل كثير من الأجيال الشابة عن الحياة الحزبية، فهي لم تجد فيها ما يعبر عن آمالها ولا ما يعكس طاقاتها. وبدلاً من أن تلعب الأحزاب دورها الطبيعي في بناء الوعي العام، أصبحت تلهث خلف التحالفات الهشة، وتبيع مواقفها مقابل مكاسب وقتية، لتفقد بذلك ما تبقى لها من احترام في نظر المواطنين. حصاد سنوات من المساومات حين تتلاشى القيم داخل السياسة، تصبح البلاد كلها رهينة صفقات اللحظة. هذا ما حدث في السودان عبر سنوات طويلة، حيث تم استبدال مفهوم "المصلحة الوطنية" بمفهوم "التسوية". التسويات التي جرت بين العسكريين والمدنيين، بين الأحزاب التقليدية والجماعات المسلحة، وبين أصحاب النفوذ والسلطة، لم تكن في معظمها مبنية على مبادئ أو رؤية مستقبلية. بل كانت عبارة عن مساومات تُبرم خلف الأبواب المغلقة، ليخرج الشعب دائماً الخاسر الوحيد. وهكذا، وجد السودان نفسه في دوامة أزمات متكررة: – حكومات تُولد ضعيفة لأنها وليدة محاصصات. – اتفاقيات لا تصمد لأنها بلا أساس أخلاقي أو قانوني صلب. – قيادات تتغيّر ولا تتغير السياسات، لأن المشكلة في الثقافة السياسية نفسها لا في الأشخاص فقط. الحرب… الفضيحة الأخلاقية الكبرى لقد كشفت الحرب الأخيرة حجم الانهيار الأخلاقي بوضوح فاضح. فبدلاً من أن تتوحد القوى السياسية لحقن الدماء والدفاع عن المدنيين، دخلت معظمها في لعبة الاصطفاف خلف هذا الطرف أو ذاك، بحثاً عن النفوذ، لا عن السلام. وحتى المبادرات التي ظهرت، بدا بعضها أقرب إلى محاولات لإعادة تدوير النخب نفسها، لا لإنهاء أصل الأزمة. الحرب لم تدمّر المباني فقط، بل دمّرت ما تبقى من الثقة بين الشعب والسياسيين. ويدرك السودانيون اليوم أن جزءاً كبيراً من الأزمة لم يكن بسبب السلاح وحده، بل بسبب غياب الأخلاق داخل الطبقة السياسية. شعب بقيم… وقيادات بلا قيم المفارقة المؤلمة أن الشعب السوداني، رغم معاناته الطويلة، ما زال يحتفظ بقيمه الأساسية: التكافل، الشجاعة، التسامح، والميل الطبيعي للسلام. فقد أظهر المواطنون في كل الأقاليم قدرة هائلة على التضامن، وتحمّلوا تبعات الحرب بأخلاق عالية، بينما فشلت النخب في إظهار نصف هذا السلوك. وهنا يكمن الخطر: أنّ الفجوة بين الشعب وقياداته أصبحت واسعة لدرجة تهدد أي إمكانية لبناء عقد اجتماعي جديد ما لم تُستبدل هذه النخب بأخرى تحمل ضميراً وطنياً حقيقياً. الخروج من المأزق… سياسة بأخلاق جديدة لا يمكن للسودان أن ينهض من جديد ما لم يمر بثورة قيم قبل أي إصلاح سياسي أو دستوري. هناك حاجة إلى جيل جديد من السياسيين، جيل لا يرى السلطة كغنيمة، بل كأمانة. كما يحتاج السودان إلى أحزاب حديثة، ذات برامج واضحة، وبنى تنظيمية شفافة، وآليات ديمقراطية حقيقية داخلية. إن الأزمة الأخلاقية ليست قدراً محتوماً، لكنها لن تزول من تلقاء نفسها. بل تحتاج إلى وعي شعبي ضاغط، وقوانين تحاصر الفساد، وتعليم يرسخ قيم المواطنة، وإعلام يفضح الانتهاكات مهما كان مرتكبوها. السودان اليوم يقف على مفترق طرق. ويمكن القول بلا تردد إن جزءاً كبيراً من انهياره سببه سياسيون بلا ضمير وأحزاب بلا قيم. لكن الأمل ما زال قائماً، فالشعب الذي صمد في وجه الحرب والمجاعات قادر على أن يفرز نخبه الجديدة، وأن يفرض أخلاقه على من يريد تمثيله. وإذا جاءت القيادة التي يستحقها السودانيون، فإن هذا البلد قادر على النهوض من تحت الركام، أقوى وأعدل وأكثر وعياً مما كان عليه في أي وقت مضى.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة