أخطر أصنام التاريخ، ليست تلك المصنوعة من الحجر أو التمر، بل تلك التي تُصنع من لحم ودم، وتُعبد بالعقول قبل الأيادي، وتُسقى بدماء الأتباع لا بالقرابين.. مفكر سياسي *********** إذا كنت ممن يظنّ أن السيد (القائد)، يمشي على الماء، أو تُقسم بتراب نعليه، فالرجاء أن ترتدي خوذة واقية من السخرية قبل الغوص في السطور الآتية، فالكلمات هنا تنحدر من صهوة الحقيقة لتقصف أوهام التقديس بنيران صديقة! يميل البشر، عندما تضيق بهم فسحةُ الخيال في مواجهة الواقع المأزوم، إلى ارتداء النظارات المُلونة، ومن خلالها، يرون الزعيمَ حارسا للقدر، خارقا لقوانين الفيزياء، وواهبا للنصر قبل حدوثه. في السودان، لدى المناضلين المسلحين خصوصا، يتضاعف هذا الميل، كلّما طال ليلُ الحرب واستعصت الحلول السياسية، لينشأ محراب القائد، وتتبخر أسئلة النقد تحت بخور الهالة القدسية. عبد العزيز آدم الحلو، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان -شمال، ورجل المبادئ الذي رفض التوقيع على سلام اعتبره منقوصا في جوبا 2020م، ليس استثناءا، فقد تحوّل الرجل في نظر الرفاق المحيطين به، إلى نص مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بالرغم ان الرجل ليس نفَسا لاهوتيا يتنزّل بالدستور من وراء السماوات السبع، بل مناضل وسياسي، تشوبه إخفاقات قبل أن تطرز كتفيه الألقاب، فأين تختبئ بوصلةُ الثورة حين يتحوّل رفاقُ السلاح إلى كهنة يمنحون صكوك الغفران مقابل هتاف جمعي؟ نعم، في عصور الثورات، عادة ما يطلّ القائد الضرورة.. في الصين كان ماو تسي تونغ (الشمس الحمراء)، وفي ألبانيا غدا أنور خوجة (الحارس الأمين للاشتراكية)، وفي كوبا انقسم الناس بين شاربي قهوة كافيه فيدل ومردّدي تراتيل (كاسترو باق). السودان نفسه ذاق نكهة الزعيم المُقدَس مع نميري حين نقشت خطَبه على جدران الخرطوم، غير أنّ المراسم السودانية ابتكرت وصفتها الخاصّة، حيث يختلط فيها الديني بالقبلي، وتتماهى مفردات النبي مع القائد، فتغدو المعارضة خيانة وجوديّة، ويصبح التبرير الأخلاقي سلاحا فتاكا يُشهره كل من تعرّى من الحُجّة. السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، والذي يشكل عنوان هذا المقال وروحه، هو: هل الرفاق المحيطون بالحلو، هم حقا رفاق نضال وشركاء في قضية، أم أنهم تحولوا تدريجيا إلى كهنة في معبد جديد، مهمتهم حماية قدسية الصنم، وتأويل صمته، ومعاقبة كل من يجرؤ على المساس بهالته؟ عندما خرجت الحركة الشعبية لتحرير السودان –شمال، للنضال المسلح، ومن أرض جبال النوبة المنقوعة بدماء المناضلين الشرفاء، لم تخرج لتؤسس ديانة جديدة اسمها (الحِلوية)، بل لتُقاتل من أجل العدالة، والمواطنة المتساوية والحرية والديمقراطية، ورفع الظلم عن الإنسان المهمش، فمتى تحوّلت هذه الأهداف السامية إلى مهرجانات لتمجيد القائد الأوحد؟ كانت الحركة الشعبية يوما ما مدرسة سياسية وفكرية مفتوحة، تُدار بالنقاش والجدل والقرارات الجماعية، لكنها اليوم، ثمة رفاق من حول الحلو، يرونه، لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وهذا بالطبع ليس هي الحركة، التي حلم وناضل من أجلها يوسف كوة مكي ومحمد جمعة نايل كيناسا وآخرين! رفيقي العزيز.. في كُتب التاريخ، الثورات الحقيقية، لا ترفع القادة فوق رؤوس الجماهير، بل تجعلهم في صفوفهم، كأبناء للفكرة لا كآلهة لها، فالثورة ليست طقوس ولاء، ولا هي كتيبة تسبيح، ولا يجب أن تُصبح مسرحا لهتاف أجوف يُرفع فيه اسم القائد أكثر من أهداف الثورة نفسها، وهذا ما لا نريد أن تصل اليه الحركة. النضال ليس قصيدة مديح جماعي، بل مساحة خلاف، ونقد، وتصحيح مسار، وليس عيبا أن يُنتقد الحلو، بل العيب أن نخاف من انتقاده، وليس ضعفا، أن يُقال إن قراراته في بعض المواقف كانت مرتجلة، بل هو عين القوة، أما أن يتحوّل رفاق النضال إلى أبواق تُصفق وتدبك حين يُقال له، أبدعت يا الزعيم.. فهنا نحن أمام كارثة. لقد أصبح بعضهم لا يرون في النضال، إلا فرصة للتقرب من الولي الصالح الحلو، وكأنهم في حضرة شيوخ الطرق الصوفية، وليس في خندق ثوري يفترض أنه عقلاني، نضالي، حر. دعونا نعترف أن الحلو، كغيره من القادة، بدأ رجلا بسيطا، مؤمنا بالفكرة، يتحرك على قدميه في الجبال، يشارك الرفاق الرصاص والخوف والرؤية، لكنه بمرور الوقت، وبسبب الفراغ حوله، تحوّل تدريجيا إلى البابا الثوري، لا يُراجع ولا يُسائل، فقد أُحيط الرجل بهالة من الصمت المقدس، كلما اتسعت، ضاقت المساحات حوله. ألم نخرج لننقذ أنفسنا من أصنام الخرطوم.. فكيف لنا إذن أن نصنع صنما جديدا داخل تنظيم الحركة الشعبية ونقبل به؟ الثورة التي تخشى صوتا مخالفا، ليست ثورة، بل فرقة إنشاد، والثائر الذي يُغضبه الرأي الآخر، ليس بثائر، بل أمير من أمراء الطاعة، إذ متى أصبح النقد مؤامرة، ومتى صار الاختلاف خيانة؟ حذاري من صناعة الإله داخل الحركة، فالقائد، مهما علت قامته، يبقى إنسانا، وإذا لم نُعلم أبناءنا هذا، فإننا نكرر خطايا الماضي ونُهيئ المسرح لطاغية جديد، فقط ببزة مختلفة ولهجة محلية. أيها الرفاق.. لا تكونوا قطعانا، فالثورة لا تقاد بقطعان، بل تُقاد بعقول حرة، وأفئدة واعية، ولا تكونوا قطيعا يلهث خلف الزعيم، بل كونوا شعباً يراقب، يُقيم، ويُحاسب، ولنتذكر دائماً، نحن لسنا في خلافة الحِلوية، بل في حركة شعبية من أجل السودان الجديد. القائد عبدالعزيز الحلو ليس إلهاً، ولا يجب أن تجعلوه كذلك، هو مجرد قائد له ما له، وعليه ما عليه، فلننتقده حين يُخطئ، ولنحاسبه حين يتجاوز، ولنُشيد به حين يُحسن، هذا هو النضال الحقيقي، وهذه هي الثورة الأصيلة. لا نريدكم أن تصلوا إلى لحظة الحقيقة متأخرا، حيث لا ينفع الهتاف، ولا ينقذنا التصفيق، ولا تجدي الشعارات. نحن اليوم لسنا أمام معركة مع خصم خارجي فقط، بل أمام معركة أخطر، وهي معركة مع أنفسنا، مع وعيِنا، مع الطريقة التي نفكر بها، ونبني بها حركتنا، ونُقيّم بها قادتنا. لقد كتبنا كثيرا عن خصومنا، وعن السودان القديم، وعن (الجلابة)، الذين اختطفوا الوطن، وعن الإسلاميين الذين لوّثوا السياسة بالدين. لكن لم نكتب كثيرا عن خطايانا نحن، عن أخطائنا الصغيرة التي تكبر في الظل، ثم تتحول إلى كوارث سياسية وأخلاقية عظيمة. الثورة لا تحتمل المقدّسين، لأنها تقوم أصلا على مبدأ سقوط القداسة السياسية، إذ ان القائد الحقيقي لا يخشى النقد، بل يُرحّب به، لأنه مرآته التي يرى فيها صورته كما هي، لا كما يريدها أن تكون. المؤسف في حالة الحركة الشعبية، أن كثير من الرفاق يخلطون بين احترام القائد، وتأليهه، بين الولاء للمشروع، والولاء للشخص، بين حماية الحركة، وحماية الأخطاء، وهذا الخلط هو أول بوابة للاستبداد، وأخطر وسيلة لتدمير أي مشروع تحرري. القيادة في أصلها، هي تكليف لا تشريف، وأن القائد الذي لا يُراجع يُستبدّ به، وأن النضال ليس ميراثا عائليا يُوزع على الأتباع حسب درجة التصفيق في الاجتماعات؟ كيف انحدرنا من تلك القيم، إلى هذا المستوى من التقديس لشخص واحد، حتى صارت بيانات بعض الرفاق، تبدو وكأنها فتاوى اسلاميين في محبة الرسول (ص)، لا بيانات تنظيم ثوري؟ لا بد أن نُميزوا بين أمرين: أن تحترم الحلو، وتُثمن نضاله، وتُدافع عن بعض قراراته بالحجة والمنطق، فهذا مفهوم. أما أن تصير عبداً، تُبرر كل أخطائه، وتُهاجم من يختلف معه، فأنت هنا لم تعد رفيقا في الثورة، بل كاهنا في معبد القائد. الأخطر من كل ذلك، أن هذا التقديس لا يضرّ الحلو وحده، بل يُضعف الحركة من الداخل، لأنه كلما صعد القائد وحده إلى القمة، كلما تهشّمت القواعد، وتلاشت المؤسسية، وصار التنظيم أشبه بفرقة تتغذى على التقديس لا على التفكير. لا تمهدوا لاستبداد جديد، باسم نضال قديم.. لا تصمتوا عن أخطاء الحلو حتى ينفجر التنظيم من داخله، ثم تصرخوا متأخرين، وتقولوا من خاننا؟ اسألوا أنفسكم.. هل ما يحدث الآن في الحركة الشعبية، هو ما ضحى من أجله يوسف كوة وغيره من القادة الشرفاء الراحلين عنا؟ أليس من الغريب، بل من المهين، أن تصبح عبارة الحلو قائد من زمن آخر، الحلو لا يُخطئ، مبدأًً عمليا لبعض الرفاق؟ أليس هذا ما كان يقوله الكيزان عن البشير، وما قاله أنصار القذافي عنه، وما قاله بعض السودانيين المخدوعين عن سادتهم منذ الاستقلال، فهل نحن أفضل، أم فقط غيّرنا الشعارات، وأبقينا على نفس الروح القمعية؟ ثم، من قال إن نقد القائد يعني الخيانة، ومن قال إن الدفاع عن المؤسسية هو تآمر، ومن قال إن طلب الشفافية في ملفات التفاوض هو ضرب من العمالة؟ إذا أصبح النقد تهمة، والاختلاف خيانة، والسكوت فضيلة، فاعلموا أن الثورة قد ماتت، ودفناها بأيدينا، ونحن نرتدي أوشحة النضال. التقديس، ظاهرة خطيرة، لأنها فتكت بكثير من الحركات الثورية، وهددت أركان مشاريع التحرر، لا بد أن نقف على أرضية واضحة لا تقبل المساومة، ولا تتقبل تزييف الوعي أو محاباة زائفة لقائد مهما كانت مكانته. إن ما تناولناه هنا عن عبدالعزيز آدم الحلو، ليس مجرد حديث عن شخص واحد أو تقييم فردي لزعامة، بل هو تحذير حقيقي من تكرار أخطاء الماضي القريب والبعيد، حين كنا نظن أن الثورة هي الشخص، والقضية هي الزعيم، والنضال هو الطاعة العمياء. ما ينبغي أن نستوعبه اليوم قبل الغد هو أن تحويل القادة إلى آلهة مقدسة، لا يؤدي إلا إلى خلق أصنام جديدة تُعبد من دون الوطن ومن دون القضية، وكم من حركة تحررية بدأت بقادة يحملون في قلوبهم هموم الناس، وانتهت بهم عبادة الجماهير، إلى طغاة مستبدين يكررون ذات السلوكيات التي ثاروا ضدها، ويتقمصون ذات الأدوار التي ادّعوا رفضها يوما ما. أيها الرفاق في الحركة الشعبية لتحرير السودان -شمال، الذين حملتم البنادق وطفتم الغابات والجبال والأدغال، لأجل قضية سامية، هي الحرية والعدالة والمساواة. لا تتركوا تاريخكم النضالي المشرف، يتحول إلى مجرد سلسلة من الهتافات والتصفيق لقائد واحد، مهما كان تاريخه، ومهما عظمت إنجازاته، فتاريخ البشرية يخبرنا أن أسوأ أنواع الظلم، هي تلك التي تُمارس باسم الحب والطاعة، وأقسى أنواع الاستبداد، هي تلك التي تُبنى على عاطفة التقديس والتأليه. إن الحركة الشعبية، منذ تأسيسها، قدمت آلاف القتلى والجرحى، ليس من أجل أن تُختصر في شخص قائد، وليس لكي تتحول إلى مزار يُقدّم فيه الولاء والطاعة، بل لأن تصبح مدرسة نضالية تؤسس لفكر الحرية، وتبني ثقافة المراجعة والنقد والشفافية، وتنتج جيلا جديدا لا يخاف من السؤال ولا يهاب من الاعتراض، ولا يرضى بالصمت على الخطأ مهما كان صغيرا أو كبيرا. من يحمل في قلبه مشروع السودان الجديد، لا يمكنه أن يقبل بتحويل الثورة إلى مجرد عبادة فردية، بل يصّر على أن تبقى الحركة قوة مؤسسية جماعية تؤمن بالتداول الديمقراطي للقيادة، وتخضع الجميع لمساءلة الجماهير وقواعد التنظيم. نعم، المطلب الحقيقي اليوم، ليس هو الولاء المطلق للقائد، بل العودة إلى المؤسسية والديمقراطية، والشفافية التنظيمية، ومراجعة الأخطاء، وتصحيح المسار كلما انحرف. إنها دعوة واضحة لرفاقنا في الحركة الشعبية، بأن ينزعوا عن أعينهم غشاوة القداسة، وأن ينظروا إلى القائد كإنسان يصيب ويخطئ، وكرجل دولة يخضع للمحاسبة، وليس كرمز مقدس لا يُسأل عما يفعل. وعلينا أن نتذكر جيدا أنه في كل مرة كنا نُحوّل قادتنا إلى آلهة، كنا نصنع بأيدينا أسباب فشلنا وخيبتنا، ونتراجع خطوات طويلة إلى الوراء، ونضيّع بذلك دماء من ضحوا، وأحلام من انتظروا، ومستقبل أجيال قادمة تنتظر منا الكثير. أيها الرفاق.. الثورة ليست هتافا فارغا، وليست تمجيدا للقائد مهما بلغت محبته في القلوب، فالثورة هي قيم وأخلاق ومبادئ واضحة، ورؤى حقيقية تُطبق على الأرض، وأفعال تُترجم إلى واقع يراه الجميع، ولذا يجب أن تكون لدينا الشجاعة الكافية لأن نقول للقائد حين يُخطئ، أخطأت، وحين يتجاوز، تجاوزت. ويجب أن تكون لدينا المسؤولية الكاملة في أن نحاسبه ونعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، وإلا فسنكون نحن الذين خانوا الثورة، ونحن الذين قتلنا الحلم. لا يزال الأمل كبيرا في قواعد الحركة الشعبية، في الشباب الثوري الواعي، وفي المناضلين المخلصين الذين يعرفون جيداً معنى الحرية، ومعنى النضال الحقيقي، وموجود في أولئك الذين لن يسمحوا أبدا، بأن تتحول حركتهم إلى كيان استبدادي، ولن يرضوا بأن تُختصر مسيرتهم النضالية في شخص أو قائد، مهما عظم شأنه أو علا اسمه. إن التحدي الحقيقي الذي تواجه الحركة الشعبية اليوم، ليس في مواجهة أعدائها من الخارج فحسب، بل في مواجهة ثقافة التقديس من الداخل، ولن تنجح الثورة إلا إذا استطاعت الحركة كسر هذه الأصنام المصنوعة من العواطف، واستعادت بوصلتها الحقيقية التي تشير دائما نحو الحرية والكرامة والعدالة والمساواة. إن تقديس القادة هو الخطر الأول على أي حركة ثورية، وإن أفضل خدمة يمكن أن نقدمها للرفيق عبدالعزيز الحلو اليوم، هي أن نُذكره دائماً بأنه إنسان قابل للنقد، خاضع للمحاسبة، مسؤول أمام الجماهير. لنتذكر جميعا أن الثورة التي لا تحاسب قادتها، ليست ثورة، والحركة التي لا تراجع مسيرتها، ليست حركة، وأن القائد الذي لا يُسأل، ليس بقائد، بل مجرد صنم آخر في مسرح السياسة المزدحم بالأصنام. يا أيها الرفاق.. لا تجعلوا من القائد/ عبدالعزيز الحلو إلها وصنما، لأن عندما يتحول القائد إلى إله، تموت الثورة، وتنهار الأحلام، وتتبخر الأهداف، وتكونوا جميعا قد خنتم دماء الذين ماتوا وضيّعتم آمال شعبنا، إذ ان الثورة والنضال الحقيقي، أيها الرفاق الأعزاء، لا يحتاجان إلى آلهة مقدسة، بل إلى مناضلين حقيقيين، يدركون مسؤولياتهم التاريخية، ويؤمنون بالمؤسسية والشفافية والنقد والتصحيح، من أجل مستقبل يليق بكل حر.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة