قد يبدو من المبكر الحديث عن فترة ديمقراطية رابعة هذا إذا تمكنا من إجتياز الفترة الإنتقالية المترنحة والوصول لترتيبات تفضي لإنتخابات حرة تلج بنا فترة ديمقراطية. ولكن قد يكون علينا التحسب بأن الديمقراطية الرابعة قد تكون كالعنقاء نسمع بها ولا نراها بل وقد يصل بنا الأمر بأن نتمنى حتى أن لا نراها. تحدثنا في هذه السلسلة المتتابعة عن ما نعتقد بأنه العوائق التي ستعوق الوصول لفترة ديمقراطية رابعة وموت الفترة الإنتقالية نفسها وبدأناها بالشد بين اليسار والدعم السريع في الجزء الأول وواصلنا في الجزء الثاني بالحديث عن الشد بين اليمين وحركات الهامش المسلحة، وسنتحدث في هذا الجزء الأخير عن الخلاف الذي قد ينجم عن مستحقات الفترة الإنتقالية نفسها. من المؤكد بأن ملف العدالة الإنتقالية قد يشكل أحد مهددات الفترة الإنتقالية والتحول الديمقراطي وخصوصاً ملف فض الإعتصام كما ذكرنا في الجزء الأول، ولكن قد يغفل البعض بأن هذا الملف يحوي ألغام أخرى من أهمها مسألة تسليم البشير ومعاونيه للمحكمة الدولية وملف جرائم دارفور بكامله، ومن غير المعروف لماذا تأخذ مسألة تسليم البشير وجرائم دارفور أولوية ثانوية بالنسبة لملف فض الإعتصام رغم إرتباطها بملف السلام ووحدة البلاد وبجرائم أشد شناعة. وهناك توقعات قد تصل مرحلة التأكيد بأن ملف جرائم دارفور قد يجر أرجل البرهان نفسه رئيس مجلس السيادة إلى محكمة الجنايات الدولية مما قد يجعل من الضروري عليه التشبث بيديه بكرسي السلطة لحماية نفسه وزملاءه العسكريين السابقين والحاليين مِن مَن قد يجر أرجلهم هذا الملف الشائك، وفي الحقيقة فإن ملف العدالة الإنتقالية قد يكون ملفاً ضخماً ومتنوعاً حيث أن الإنقاذ لم تترك نوعاً من الجرائم لم ترتكبه. إن الخوف من تحقيق العدالة الجنائية سيترك ظلالاً كثيفة حول كيفية تسليم السلطة للمدنيين والشعب، ليس فقط في نهاية الفترة الإنتقالية ولكن قريباً عندما يحين دور المدنيين في رئاسة مجلس السيادة. يبدو أحياناً بأن هناك تناسي بأن على المدنيين إستلام الجزء الثاني من الفترة الإنتقالية وهذه العملية لا يهددها فقط الخوف من المقاضاة الجنائية للمكون العسكري رغم أنه بالطبع ستكون له حصانة في ما تبقى من فترة إنتقالية، ولكن الطغمة العسكرية Junta الحاكم الفعلي للبلاد سيكون من الصعب عليها تسليم السلطة حتى لو صورياً للمكون المدني حين يحين موعد هذا الإستحقاق حيث أن هذا سيشكل تلاعب بشبكة المصالح الضخمة التي تمثلها هذه الطغمة بما فيها مصالح خارجية، إلا أن الأمر ليس بالمستحيل حيث من الممكن الوصول لصيغة تجعل رئيس مجلس السيادة المدني تقتصر مهامه على حمل مقص وقص الشرائط الوردية عند إفتتاح فعالية ما. رغم هذا بالطبع سيكون هناك خلاف بين المدنيين أنفسهم حول من هو الشخص المناسب لحمل المقص! هذا الخلاف ربما ينتهي بإختيار عضو مجلس السيادة صديق تاور - رغم إستبعاد الكثيرين لهذه الإحتمالية لعدة أسباب بالطبع منها العنصرية - بأن يصبح رئيس مجلس السيادة المدني، إن هذا الخيار هو خيار مناسب ومتسق مع طريقة تفكير النخب الشمالية وسيتم تقديمه على أنه التنازل التاريخي لهذه النخب عن الحكم وسيتم تسويقه دولياً وداخلياً بطريقة سمجة لتوضيح أنه قد تم أخيراً تحقيق العدالة التاريخية للهامش. وبما أن هذه مجرد إحتمالية إلا أنه في حالة تحققها فلا يوجد تعليق، ولكن يمكن التأريخ لمثل هذه الفترة بفترة حكم ’’الفلنقاي‘‘. إن من أهم إستحقاقات الفترة الإنتقالية هو المؤتمر الدستوري، وهو عملية كيفيتها وموعدها وفترتها يكتنفها الغموض، والمنوط بهذه العملية تحقيق توافق وطني حول القضايا المصيرية للبلاد وإيجاد حلول لها لتكون النتيجة إيقاف الحروب نهائياً والحفاظ على وحدة البلاد بطريقة طوعية وإيجاد صيغة ديمقراطية عادلة للحكم وتحقيق التنمية المستدامة. ومن المعلوم بالضرورة بأن تحقيق مثل هذه الأهداف يتطلب التنازل عن ثوابت النخبة الشمالية، وهي ثوابت معنية بالحفاظ على إمتيازات هذه النخبة وحاضنتها الإجتماعية، ومن المعروف بأنه من المستحيل تحقيق تنمية مستدامة وحكم ديمقراطي بدون كسر الإمتيازات الرسمية والخفية في المجتمع نفسه. في الحقيقة إن هذه العملية قد حدثت طوعاً في عدد من الدول التي حققت تطوراً كبيراً بعد أن إكتشفت النخب بأن التنازل في مصلحتها أكثر من ضررها، إلا أنه عبر التاريخ فغالباً هذا التنازل لا يحدث طوعاً، ولا يوجد سبب للإعتقاد بأن نوع النخبة الموجودة لدينا الآن هي من نوع النخب التي يمكن أن تتنازل طوعاً. بالتالي فإن المؤتمر الدستوري قد لا يصبح أكثر من محاولة للإلتفاف للحفاظ على إمتيازات النخبة، وغالباً ستخرج منه البلاد وهي سالكة نفس مسارها الذي إما أن يقود لخلع هذه النخبة بالقوة أو نجاحها في الحفاظ على إمتيازاتها وحكمها لفترة أخرى قد تطول أو تقصر. إن المراقب قد يرى بوضوح بأن هذا المؤتمر الغامض قد يشكل نهاية العملية الإنتقالية برمتها وقد يتسبب في كارثة إذا لم تعي هذه النخب بأنها لم تعد بمثل قوتها السابقة وبأن أوراق اللعب لم تعد كثيرة في يدها، وبما أن هذه النخب تميل لأسطرة مقدراتها وتعتقد بأن لها من الحنكة والذكاء والدهاء ما لا يتوفر للآخرين (وهي متلازمة معروفة) وبأن ذلك سيوفر لها مخرج ما، إلا أن هذا النوع من الغرور وإعتقاد التفوق الفطري Superiority سيكون سبب عشائها الإخير. يتبقى بأن الفترة الإنتقالية قد تستطيع بطريقة ما من تجاوز ملف العدالة الإنتقالية وإستحقاق المدنيين في رئاسة مجلس السيادة والمؤتمر الدستوري والوصول للإنتخابات والذي قد يعتبره البعض نجاحاً، إلا أن الإنتخابات نفسها في ظل الإستقطاب الموجود قد تشكل أحد أكبر المخاطر ولا يمكن بأي حال تشبيه العملية الإنتخابية هذه المرة بالإنتخابات التي حدثت بعد إنتفاضتي إكتوبر 1964م وأبريل 1985م من القرن الماضي، إن أي إنتخابات في ظل مثل هذا الإستقطاب قد يعني حل التجمع الفاشل الذي يسمى السودان. وللحفاظ على هذا التجمع ومحاولة جعله ناجحاً فإن الحل هو تنازل النخبة الشمالية عن الحكم طواعية وجعل الحكم يتداول بين الشعوب السودانية الأخرى بل ومساعدتها في التوحد والحكم كما حدث في الكثير من الدول الأفريقية، ورغم أن هذا لن يضمن النجاح الكامل إلا أنه على الأقل قد يضمن الوحدة الوطنية. قد يتعجب البعض من لماذا أتى في المقدمة عبارة (بل وقد يصل بنا الأمر بأن نتمنى حتى أن لا نراها) هذا لحقيقة أن الشعب السوداني لم يجرب الدخول في عملية إنتخابية يصحبها هذا النوع من الإستقطاب الحاد الذي هو عرض لعدم وجود وحدة وطنية أساساً تبرر قيام إنتخابات وهو نوع الإنتخابات التي تصحبها المجازر وما يجعل هذه المجازر نوعية هو وجودها في المناطق الحضرية حيث الوجود الأكبر للتكتلات الإنتخابية القلقة من محو الآخر لها في حالة فوزه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة