وهذه فلسفة، قديمة الأثر، وإن كانت تطرح نفسها عبر تفاعلات المرء والطبيعة. بين ذات وموضوعات.
وهي من الفلسفات الكئيبة ولكنها حقيقية وواقعية، وقد تبنتها الليبرالية، خطاً إقتصادياً وسياسياً وثقافياً تحررياً. وهكذا تبدو الدولة مشهداً شاذاً، وتبدو الجماعات الأقل تطوراً أشد شذوذاً عن قانون (الخل الوفي). وتفند وتعري الحيل القانونية التي تمنح مجموعة من الأفراد شخصية معنوية. بل وقد تعمل في اتجاهين متعاكسين تماماً: اتجاه مضاد للقانون كما قيل حول المسؤولية المجتمعية في العقاب. بل وفي سن القانون نفسه (أنظر: الإثم الجنائي، عوض بلال). واتجاه آخر يعضد من لعب القانون في تعزيز الفردية في مواجهة التعسف المجتمعي. أي انه اتجاه يفضي إلى الحرية ولكنه من ناحية أخرى لن يعزز الديموقراطية باعتبارها حكم الأغلبية التي تملك سن قوانين تحاصر الأقليات والأفراد. إذ تكون الديموقراطية هي (قانون القطيع). تمثل فلسفة الخلِّ الوفيِّ العربية، روح التناقض عند البدوي، الذي يرتحل بقطعانه قاطعاً الصحراء كفرد، واستناده إلى القبيلة في ذات الوقت. أي التنافر والتقارب بين الذات والموضوعات، بين الأنا والآخر، بين رغباتي ورغبات الآخر، بين مصالحي ومصالح الآخر، بين عاطفتي وعاطفة الآخر، بين عنترة وقبيلته عبس. ويكمل زهير بن أبي سلمى ذلك الربط البراغماتي بين الفرد والجماعة، في نصائحه الموجهة للفرد وتعامله مع الآخر، فيقول(ونضع تلك الإشارة بين قوسين): سئمت تكاليف الحيـاة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبـا لك يسأم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطىء يعمر فيهرم
ومن يعص أطرف الزَّجاج ، فأنـه يطيع العوالي ركبت كل لهذم
(ومن يوف لا يذمم ومن يفض قلبه إلى مطمئن البر لا يتجمجم)
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم
(ومن يك ذا فضل , فيبخل بفضله على قومه يستغن عنه ويذمم)
(ومن لا يزل يسترحل الناس نفسه ولا يعفها يوما من الذل يندم)
(ومن يغترب يحسب عدواً صديقه ومن لا يكرم نفسه لا يكرم)
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه (يهدَّم ومن لا يظلم الناس يظلم)
(ومن لم يصانع في أمور كثيرة يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم)
(ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره , ومن لا يتق الشتم يشتم)
(ومن يجعل المعروف في غير أهله يكن حمده ذما عليه ويندم)
(ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم)
وكإن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم
(لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم)
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غدٍ عمِ
وإثر تلك العلاقة المعقدة، بين الأنا والآخر، ينظم زهير (شيخ الثمانين) حكمة الدهر ليعلمنا تلك التناقضات، الوفاء الممدوح، والظلم الممدوح أيضا، والكرم الممدوح، وشجاعة ممدوحة،وعلى النقيض، نجد كرما مستهجناً وشجاعة مستهجنة، وظلماً مستهجناً.. إذِ التوازن هو الأصل في كل تلك التفاعلات الفردية..ولكنها تحت قانون واحد تأسست عليه المعلقة بأكملها وهو قانون الفردية التي هي جزء من حقائق الطبيعة البشرية. إن زهير كحكيم وشيخ، يعيدنا للروح المتناقضة للبداوة، وهو التناقض الأصيل داخل الحكمة. إذ أنه ليس تناقضاً في الواقع، بل هو توازنٌ، مؤسس على المنطق، وليس العاطفة العمياء. ولنا في حياة أبي الطيب المتنبي مثالاً مفيداً، فهو الرجل الذي نسب إلى قبيلة ليست قبيلته، وعاش بلا هوية مستقرة، متنقلا من حلب إلى مصر إلى الكوفة إلى غير ذلك، مادحاً الملوك والأمراء تارة، وهاجياً إيهاهم تارة أخرى، ثم قُتل كيف قدر. وكانت من خصائص شعره أنه يمدح نفسه أكثر من مدح الملوك والأمراء، وهذا ما منح اعداءه قدرة التعريض به عند سيف الدولة، فلم يكن في الأخير خِلا وفياً كما كان يحسب، بل تفارقا مفارقة الذوات لبعضها. وارتد المتنبي إلى فرديته التي لا هوية لها سوى عروبة مجهولة المصدر قوية الضرب في ريق شعره المفاخر بها. ومن بعد ذلك أي قبل ألف عام تقريباً، ثبَّت أسير المحابس الثلاثة أبو العلاء المعري، موقفه المضاد من الأنا موقعا إسمه في سجل المؤمنين بمستحيلة الخل الوفي، فقال:
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبيث لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسد الخبيث
حيث زهِد الجماعةَ وغلَّب فرديته المطلقة بعد رحلاته المتنوعة في طلب المعرفة، مستقراً في "معرة النعمان"، مرسلاً حكمته إلى سمع (الجماعة البشرية) وهذا في ذاته دليلٌ مناقضة للزهد إلا كموقف نفسي، أكثر منه منطقي وعلاقني، إذ خلافا لزهير، كان عداؤه مطلقاً:
ويتأثر المرء بنظرية الخل الوفي، طيلة حياته التشاركية مع الآخرين، ولذا أقول دوماً بأن الإنسان كائن تشاركي لا اجتماعي، إذ يضن بغالب سعادته ويسرف بالقليل منها إلى الآخرين، فلا هو حال فيهم ولا هم حالين فيه حلولاً مطلقاً، ولا هو مترهبنٌ كل الترهبن، إذ لا يستقيم الترهبن في ظل تكامل القدرات. وهو ما دعا مسكويه إلى رفض الترهبن رفضاً قاطعاً، ونادى بالاجتماع، دون أن يطعن في حقيقة استحالة الخل الوفي، ولكن لو نظرنا لهذا العالم الفارسي فسنجده أقل من المذكورين هنا تقلباً في البلاد، وأنه كان يمتلك ضبطاً اعلى للنفس، وذلك ما ندركه من مؤلفاته العديدة عن الأخلاق، فيبدو أن مسكويه كان صاحب شخصية محبوبة لدى الآخرين، فامتلك ناصية من العلم وكان أول من اشار إلى نظرية التطور قبل ثمانمائة عام من داروين. ويبدو أن موقف العرب (أي الثقافة العربية) ظلت أداتية في طرح الأنا والآخر. وليس ذلك كسلاً ذهنياً، ولكن لأن التعمق في هذه المسألة سيلقي بهم في إتجاه مثالي سيوقعهم في جدليات عدة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة