لم يكن البيان الصادر عن قيادة الفرقة 19 مشاة بمدينة مروي بشأن إبادة ذخائر ثقيلة تالفة حدثاً عابراً يمكن التعامل معه بوصفه إجراءً فنياً روتينياً. فالكشف عن “ذخائر تالفة” في وقت يعيش فيه السودان حرباً داخلية مدمرة، وفي ظل أوضاع اقتصادية خانقة واتهامات متصاعدة بسوء إدارة المال العام، يفتح الباب واسعاً أمام أسئلة كبرى حول الفساد المؤسسي و غياب الرقابة و انهيار أولويات الدولة. فالولاية الشمالية تشهد تطورات أمنية متلاحقة، ومع ذلك يخرج الجيش ليعلن أنه سيقوم بتفجير ذخائر لم تُستخدم… لا في حماية المواطنين، ولا في الدفاع عن الحدود، ولا في تحقيق أي هدف وطني. ذخائر “ثقيلة”، نُقلت، وخُزّنت، وصُرفت عليها ميزانيات، ثم تُهدر الآن تحت مسمى “تالف”. هنا تبدأ القصة الحقيقية. 1. دولة بميزانية حرب… وذخائر تالفة! لطالما كان الحديث عن أن المؤسسة العسكرية تبتلع أكثر من 80% من ميزانية الدولة حديثاً مسكوتاً عنه، يتم التعامل معه كقضاء وقدر. ولكن حين تنتهي هذه النسبة الضخمة –التي تُقتطع من قوت الناس وصحتهم وتعليم أطفالهم– إلى ذخائر تالفة تُحرق في الصحراء، فلا بد أن نسأل: ما الذي يحدث داخل هذه الميزانية؟ من يحاسب؟ ومن يراجع؟ ولماذا تصمت وزارة المالية والمراجع العام؟ من الطبيعي أن تكون هناك نفقات عسكرية، فالدول تُموّل جيوشها. لكن غير الطبيعي أن تتحول هذه النفقات إلى منظومة لا رقابة عليها، تعمل بما يشبه دولة داخل دولة، وتنتج في النهاية هدراً واسعاً ينعكس على المواطن فقراً ومرضاً وانعداماً للخدمات. 2. حرب داخلية عبثية… والمسرح الحقيقي في شلاتين وحليب بلا طلقة واحدة المفارقة الأكبر أن هذه الذخائر –التي صُرفت عليها ملايين الدولارات– لم تُستخدم في شلاتين وحلايب حيث توجد النزاعات الحدودية المعروفة، ولم تُوجَّه لحماية السيادة الوطنية. بل ذهبت هدراً داخل حرب داخلية عبثية، حرب لا منتصر فيها سوى تجار السلاح والوسطاء والمستفيدين من استمرار النزاع. كيف يتحول جيش تمتد موارده إلى معظم ميزانية الدولة إلى مؤسسة غير قادرة على حماية البلاد من الانهيار السياسي والاجتماعي؟ وكيف تصبح الخرطوم ودارفور والجزيرة مسارح للدمار، بينما مناطق السيادة الوطنية الحقيقية صامتة، لا تُطلق فيها رصاصة واحدة؟ 3. غياب المالية… وصمت المراجع العام لا وزارة المالية تُفسّر، ولا المراجع العام يجرؤ على إعلان حجم الهدر الذي ينتج عن هذه “الذخائر التالفة”. أين ذهبت أموال الشراء؟ هل تم تخزين الذخائر بطريقة فاسدة؟ هل تم دفن الصفقات تحت بند “السرية العسكرية”؟ ولماذا تُترك مؤسسات الدولة دون رقابة فعالة بينما المواطن لا يجد ثمن الخبز والدواء؟ إن غياب الشفافية في الصرف العسكري ليس مجرد خلل إداري؛ إنه أداة لاستدامة الفساد، ونتيجة طبيعية لدولة تعيش على إيقاع الحرب، وتجد في استمرارها مبرراً لغياب المحاسبة. 4. الحرب كبيئة مثالية لإعادة إنتاج الفساد الحرب ليست فقط ساحة للقتال؛ إنها بيئة خصبة للثراء السريع وللفاسدين الذين يختبئون خلف “ضرورات الأمن القومي”. فكلما اشتد النزاع، ضعفت الرقابة، وتضخمت “ميزانيات الطوارئ”، واتسعت الفرصة لتمرير صفقات السلاح والوقود والتموين دون تدقيق. والنتيجة:
اقتصاد منهار
مواطن جائع
دولة عاجزة
جيش يملك كل شيء… ولا يقدّم شيئاً
إن مشهد “إبادة الذخائر التالفة” ليس سوى قمة جبل الجليد؛ تحته عقود وصفقات وميزانيات ضخمة تُهدر بلا حساب. 5. من يدفع الثمن؟ يدفع المواطن السوداني الثمن مرتين:
مرة حين تُقتطع ميزانية حياته اليومية لصالح مؤسسة تستنزف موارد الدولة
ومرة أخرى حين يرى هذه الموارد تُحرق في الصحراء بدلاً من أن تُستخدم لحماية الوطن أو دعم استقراره
إن استمرار الحرب لا يعني فقط استمرار القتال، بل يعني أيضاً استمرار اقتصاد فاسد، ومؤسسات تستفيد من الفوضى، وغياباً كاملاً للشفافية. الخلاصة: الحرب ليست مجرد قتال… إنها ماكينة لصناعة الفساد إن بيان الفرقة 19 مشاة ليس خبراً عابراً، بل نافذة صغيرة تطل على واقع دولة تُدار بميزانية حرب، وتعيش بلا محاسبة، ويجري فيها هدر ملايين الدولارات بينما يعيش المواطنون على حافة الجوع. الحرب في السودان لم تعد صراعاً بين قوتين؛ بل أصبحت أداة لاستدامة الفساد، وغطاءً لإخفاء التجاوزات، ومبرراً لابتلاع الموارد العامة. والسؤال الأهم الذي ينبغي أن نطرحه الآن: متى يصبح الإنسان أهم من الذخيرة؟ ومتى تصبح الدولة أقوى من جيشها؟ ،،،،،،،،،
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة