لم يعد تدخل الأجهزة الأمنية والعسكرية في السودان يقتصر على إدارة الملفات الكبرى المرتبطة بالسياسة أو الاقتصاد أو الحرب. فقد تمدد هذا النفوذ ليصل حتى إلى الفضاءات التي يُفترض أن تكون محايدة ومرتبطة بالثقافة والرياضة والمجتمع المدني. المثال الأحدث جاء من نادي المريخ العريق، بعد ترشيح رجل الأعمال المعروف مجاهد عبد الله سهل، الناشط في مجال استيراد المشتقات البترولية، لرئاسة النادي الأحمر. الرياضة كمدخل للنفوذ تكشف المعلومات أن ترشيح مجاهد سهل لم يكن محض صدفة، بل جاء بترتيب مباشر من جهات سيادية، كما حدث من قبل مع هشام السوباط في الهلال. التشابه بين الحالتين ليس في الخلفيات الاقتصادية فقط، بل في الارتباط الوثيق بين الرجلين والجنرالات النافذين داخل مجلس السيادة والأجهزة السيادية. بهذا الشكل، تتحول الرياضة إلى منصة خلفية، يُعاد عبرها إنتاج الحضور السياسي والأمني في فضاء اجتماعي جماهيري واسع، يضم ملايين السودانيين. فالنادي ليس مجرد فريق كرة قدم بل واجهة للنفوذ الرمزي والقدرة على تشكيل الرأي العام. شبكات المصالح: النفط نموذجاً المثير للانتباه أن الأسماء المرشحة لإدارة الأندية الكبرى تأتي غالباً من قطاع النفط والمشتقات البترولية. هذا القطاع ظل لعقود مجالاً مغلقاً على مجموعة ضيقة من رجال الأعمال المرتبطين بالمؤسسة العسكرية، سواء عبر منظومة الصناعات الدفاعية أو عبر شركات تعمل بالوكالة. بالتالي، فإن الدفع بهذه الشخصيات إلى المشهد الرياضي يهدف لإعادة تدوير نفوذها، وتوسيع شبكة حضورها الاجتماعي، بما يضمن استقرار مصالحها الاقتصادية والسياسية. هندسة المشهد.. من السياسة إلى المجتمع توضح تجربة المريخ الأخيرة كيف تعمل الاستخبارات العسكرية وجهاز الأمن على "هندسة المشهد" في السودان: في السياسة- عبر تعيين أو دعم واجهات حزبية ومدنية محسوبة. في الاقتصاد- عبر تمكين شبكات رجال الأعمال في قطاعات استراتيجية مثل البترول والذهب. في الرياضة والمجتمع- عبر فرض شخصيات مرتبطة بالأجهزة على رأس مؤسسات جماهيرية، بما يضمن تطبيع الوجود الأمني داخل المجال العام. أثر ذلك على المجتمع قد يبدو الأمر مجرد صراع إداري في نادٍ رياضي، لكنه في الحقيقة يكشف كيف تُدار الحياة العامة بمنطق السيطرة، لا بمنطق الحرية أو الكفاءة. ما يحدث في المريخ والهلال، يوازيه ما يحدث في النقابات، الجامعات، وحتى منظمات المجتمع المدني. والنتيجة: تآكل استقلالية الفضاء العام، وتحويل كل المنابر الممكنة إلى امتداد للسلطة الأمنية.
*إن دخول الأجهزة الأمنية والعسكرية إلى فضاءات مثل كرة القدم يعكس أزمة أعمق و غياب الثقة في المؤسسات المدنية، والرغبة المستمرة في إحكام القبضة على كل ما يمكن أن يؤثر على الرأي العام. وإذا لم يُكسر هذا النمط، سيبقى المشهد السوداني يُدار بالهندسة لا بالتنافس الحر، وبالولاءات لا بالكفاءات.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة