تَمهِيدٌ: تُعَدُّ الموسيقى السودانية من أَغنَى المدارسِ الغِنائِيَّةِ في القارَّةِ الإفريقية والعالم العربي، لما تمتاز به من تنوُّعٍ في الإيقاعات، وغِنى في الألحان، وثراءٍ في التجربةِ الثقافيةِ والشعبية. وفي هذا الإطار، يَبْرُزُ الفنانُ أحمد الجابري كأحد رموز هذا الفن، لا سيَّما في تبنِّيه لأسلوبٍ موسيقيٍّ يَجمَعُ بين الروح السودانيةِ المحلية، والميل إلى الاتِّجاهِ الشرقيِّ العربيِّ، ما يُضفي على أعماله طابعًا فنيًّا فريدًا يستحق الدراسة والتأمُّل. نَبْذَةٌ عن الفَنَّان وُلِدَ أحمد الجابري في الثلاثينيات من القرن العشرين بقرية "الشَّرَفَة" في السودان. اسمه الحقيقي هو أحمد محمد عبد الله ، ونشأ في بيئةٍ ريفية، حيث انتقل إلى مدينة أم درمان في طفولته، وهناك بدأت تتشكَّل ملامح موهبته الغنائية. لم يكن الجابري متعلِّمًا تعليمًا نظاميًّا، إلا أنّه امتلك نَفَسًا فنيًّا فطريًّا، وصوتًا دافئًا، وحسًّا موسيقيًّا مميزًا مكّنه من أن يحفر اسمه في ذاكرة الفن السوداني. المَعَالِمُ الشَّرْقِيَّةُ فِي مُوسِيقَاهُ رغم جُذور أحمد الجابري الراسخة في التُّراث السوداني، إلا أنّ أعماله حملت كثيرًا من الملامح الشرقية التي تتجلّى في العناصر الآتية: ١. استخدام الآلات الشرقية اعتمد الجابري في أداءه الموسيقي على آلة العُود كأداة رئيسية في التلحين، وهي آلة موسيقية ذات طابع شرقي خالص. وقد كان يعزف العود ببراعة، ما جعله يُقدِّم ألحانًا تُلامس الحسَّ العربي في نغمتها، وتُقارب في كثير من الأحيان المدرسة المصرية واللبنانية من حيث الرّقة والانسيابية. ٢. المقامات الموسيقية العربية في العديد من أغانيه، يُلاحَظُ استخدامه لمقامات شرقية مثل البياتي، الحجاز، والرست، وهي مقامات تُستخدم على نطاقٍ واسع في الغناء العربي الشرقي، لما لها من قدرة على التعبير عن الشجن والحنين والعاطفة. ٣. المواضيع الغنائية والعاطفية تميّزت أغاني الجابري بالمواضيع العاطفية الرقيقة، مثل الحب، الفُراق، الشوق، الجمال، وهي مضامين قريبة من الذوق العربي الشرقي، وتعكس نزعة وجدانية تُناسب الألحان الشرقية المُتمهِّلة والمُتأنية. ٤. البناء اللحني والطول الزمني للأغنية كانت ألحان الجابري تعتمد على المدّ اللحني الطويل، وتكرار الجُمل الموسيقية بتنوّعٍ تعبيري، وهو نهجٌ معروف في الموسيقى الشرقية التقليدية، بعيدًا عن الاختزال والتقليص، بل يترك مساحة للمُستمع كي يتماهى مع اللحن. ٥. التأثُّر بالمدرسة المصرية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، شهد السودان تداخلاً ثقافيًّا قويًّا مع مصر، فانتقلت العديد من الأنماط الموسيقية المصرية إلى السودان عبر الإذاعة والأسطوانات، ويبدو أنّ الجابري قد تأثر بهذه المدرسة، خاصّةً من حيث صياغة اللحن وتوزيع الآلات. مُقَارَبَةٌ بَيْنَ المَحلِّيِّ وَالشَّرقيِّ رغم ميله إلى الطابع الشرقي، لم يتخلَّ أحمد الجابري عن جذوره السودانية، بل عمل على مزجها بشكل ذكي مع الروح الشرقية، فحافظ على الخصوصية السودانية في الإيقاع واللّهجة، وأضاف إليها اللمسة الشرقية في التلحين والعزف والغِنَاء. مثال ذلك أغنية «أسمر يا أسمر» التي تحمل في لحنها تنغيمات شرقية واضحة، بينما يُؤدّيها الجابري باللهجة السودانية الدارجة، فيُنتِج توازنًا رائعًا بين الانتماء المحلي والانفتاح الفني. أَثَرُهُ وَإِرْثُهُ الفَنِّيّ شكَّل أحمد الجابري علامة بارزة في الغناء السوداني، وترك خلفه إرثًا من الأغاني التي تُعبِّر عن التمازج الثقافي بين السودان والمشرق العربي. وقد أصبح قدوة لفنّانين لاحقين حاولوا الاقتداء بأسلوبه الفريد، لا سيما أولئك الذين أرادوا الحفاظ على الهُوية الموسيقية دون الانغلاق على النفس. خَاتِمَةٌ إنّ تجربة الفنان أحمد الجابري تُجسِّدُ بحساسيةٍ فنيَّةٍ عاليةٍ ذاك التوازن الجميل بين التراث المحليّ والانفتاح على المدارس الشرقية، فجاءت موسيقاه جسرًا ثقافيًّا يمتدّ من ضفاف النيل السوداني إلى عوالم الطرب العربي الأصيل. وفي زمنٍ طغت فيه الأنماط الغربية السريعة، تظلّ موسيقى الجابري نموذجًا لما يمكن أن يكون عليه الفن العربي الأصيل: متجذِّرًا في الأرض، متسامحًا مع الآخر، ومُنفتحًا على الجمال في كافّة صوره.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة