يا أصدقائي حاولوا أن تقرأوا كتاب أن تكتبوا كتاب .. أن تزرعوا الحروف والرمان والأعناب أن تبحروا الى بلاد الثلج والضباب فالناس يجهلونكم في خارج السرداب الناس يحسبونكم نوعا من الذئاب
نزار قباني
بقلم: قرأت مقالا قبل أيام للإعلامي ضياء الدين بلال عن ضرورة الاستفادة من الكفاءات الأجنبية في التخطيط والتنفيذ وتقديم الاستشارات وهو نهج سارت عليه المستعمرات البريطانية في شرق أفريقيا والفرنسية في غرب القارة وأتفق معه تماما على ما ذهب اليه فقد رأيت بعيني كيف استفادت دول شرق افريقيا وهي مستعمرات سابقة لبريطانيا من هذه الخبرات الأجنبية .. في نيروبي رأيت ذوي العيون الزرق والشعر الأشقر وهم يترأسون أقسام الشرطة في المدينة التي تحمل بجمالها وأناقتها لقب little London .رأيتها أيضا في العاصمة الزامبية لوساكا وسمعت بها في هاراري العاصمة الزيمبابوية التي كانت شيئا وتحولت الى لا شيء تحت حكم الرئيس روبرت موجابي ..ليس لبقائه في كرسي الرئاسة ثلاثون عاما وكان مصرا على المواصلة ولكن أقالوه بعد أن نال منه الخرف وشطب السكر المتواصل رأسه فأقدم على لم يقدم عليه حتى نميري نفسه حينما سيطرت عليه (هاشمية) ناصر وأمم شركات جلاتلي هانكي وكونت ميخالوص اذ سقط موجابي في شر أعماله حينما أقدم على تأميم مزارع للبيض كانت العمود الفقري فانهار الاقتصاد وجاع مواطنو زيمبابوي فتسلوا من تحت السلك الشائك الى جنوب أفريقيا بحثا عن ما يسد الرمق . (2) لكن الذي أود أضافته الى مقترح ضياء مقترح آخر بتوسعة ماعون الاستفادة من كفاءات ذوي اللياقات البيضاء لتشمل أيضا قطاع العمال والموظفين وهي ضرورة تحتمها حقائق مؤكدة دون تحفظ وهي ان هذه الشرائح عالية النشاط والإنتاجية خارج الحدود وتحديدا في دول الخليج صفرية الأداء داخل حوش الوطن ..الذي يلفت النظر هنا خصوصيات سودانية made in Sudan لا وجود لها في العالم الآخر وهي انه في حوالي العاشرة صباحا تكون المكاتب ومقار العمل في (سوداني الجو وجداني ) خاوية على عروشها حيث يتوجه الجميع لتناول وجبة الفطور ولو اقتصر على ذلك لهان الأمر ولكن تتمدد الفوضى وعدم الانضباط الى ستات الشاي حيث تبدأ طقوس تجرع أكواب الشاي والقهوة وهي فرصة ذهبية لتبادل الشمارات ..الذي يستوقف هنا أيضا ان كل الواجبات الاجتماعية من زيارة المرضى في المستشفيات ودفنهم في المقابر ورفع الفاتحة عليهم في بيوت العزاء تتم داخل ساعات الدوام الرسمية هذا غير الراحات المرضية والاجازات الرسمية فماذا تبقى حتى ننتظر انتاجا من هذه الكائنات ؟. (3) كاتب هذه السطور هو أحد ضحايا هذه الممارسات حينما ابتليت مثل الالاف لبناء منزل يأوي أسرتي فقد لاحظت ان العمال يأتون في التاسعة صباحا وفي الحادية عشر يتوقفون لتناول الفطور ثم يتوجهون الى الذي يزيد الطين بلة وهو شرب الشاي والقهوة والونسة وهي طقوس تمتد أحيانا لساعة وساعتين وحينما كنت أحضر للمراجعة في الساعة الواحدة أجدهم ينتظروني تحت ظلال الجدران لاستلام اليومية مقابل عمل لا يشاهد بالعين المجردة وحينما توصلت لقناعة ان القضية ليست بثمنها فكرت في خطة أكثر مكرا من خطة مهندسي ثغرة (الدفر سوار) في حرب أكتوبر 73 وذلك بالالتفاف حول هؤلاء العطالة كسبا للوقت وهي التبرع بالفطور من جيبي بصحن فول ولا في الخيال مدعوم بجبنة الدويم وسمسم القضارف وطماطم طوكر من باب التحفيز حتى لا يتوقف القوم عن العمل ولكن النتائج كانت (كأننا يا بدر لار حنا ولا جينا) ..هنا انفعلت محتجا فسمعت من رئيسهم مالم يكن في الحسبان (يا عمنا انت مالك مستعجل أصلو الدنيا طايرة) وطارت الدنيا وطار الآخرون وبقينا وحدنا بحروبنا وصراعاتنا جامدون في القاع (أسفل سافلين) نجتر مرارات السجم والرماد كأننا جلمود صخر حطه السيل . (4) مثل هذه القصص تكسب شرعيتها مع حمل المستعمر متاعه وخرج من السودان وهنا طرفة سمعتها من الراحل سيد أحمد خليفة صاحب جريدة الوطن فقد قال ان موظفي مصلحة البريد والبرق عاشوا فترات من السعادة مميزة لا تنسى فقد كانوا يأتون متأخرين ويغادرون مبكرين ..ينحرون معظم الوقت في الونسة وتجرع فناجين القهوة والشاي أما العمل فقد كان يقوم به مستر بيتر وحيدا اذ كان يأتي في الصباح الباكر وينخرط في العمل بل يبقى وحيدا لاستكمال النواقص .في أحد الصباحات جاء أحدهم الى العمل فنقل اليه زميله الخبر (القنبلة) وهو إيقاف المستر بيتر ضمن قوانين (السودنة)..لحظات لم يستوعب صاحبنا الخبر الصاعق وتساءل يغالب الصدمة اذن من الذي تم تكليفه بالوظيفة فقال له (كلفوك انت دا) فرد (ان كان كده القضية جاطت) . (5) تذكرت أيضا مقالا للكاتب المصري عبد الستار الطويلة جاء في مجلة (أكتوبر) في السبعينات تحت مانشيت (رحلة القطار اللعين) بث فيه انطباعاته عن رحلة داخل قطار ركاب حلفا عطبرة ..قال انه اختار السفر بالقطار بدلا من الطائرة حتى يتعرف على الشعب السوداني عن كثب ..وقال ان قطارات السودان البيضاء اللون تذكره من بعيد بقطارات أوروبا ولكن الكوارث تكمن في التفاصيل داخل عربات القطار ..وأضاف كان الفصل صيفا ودرجات الحرارة عالية لا توصف والكهرباء معطلة ..سألت (الكومساري) متى ستعمل الكهرباء فأجاب مع تحرك القطار ومتى يتحرك القطار أجاب لا أدري فسألت كيف لا تدري أولست المسؤول فلما شاهد علامات الغضب التي كست وجهي قال لي يا أستاذ انت عارف القطر دا أيام الاستعمار كنت تضبط ساعتك عليه ..وتعجبت كثيرا من قيادات ما يعرف بالعالم الثالث الذي لا يستحق لقب الثالث ولكن العالم (الثالث عشر) كما يقول الكاتب المصري الساخر محمود السعدني فبعد ان دوخوا لجنة تصفية الاستعمار بالشكاوي والاحتجاجات طلبا للاستقلال عاجزون الآن عن تسيير قطار في مواعيده . (6) العجائب لا تنتهي في بلاد الغرائب ففي السبعينات كلفت بمرافقة مدير مكتب جريدة (البرافدا) الروسية في القاهرة الى الجنوب حينما كنت أعمل كضابط اعلام في قسم الاعلام الخارجي بوزارة الثقافة والاعلام. بذلنا وبذل معنا المسؤول الروسي جهدا خارقا للحصول على حجوزات على طائرة (الفركرز) المغادرة الى جوبا في الغد بتدخلات من الوزير بونا ملوال شخصيا سيما وقد كان الرجل أول صحفي روسي يزور جنوب السودان. لا أستطيع أن أصف مشاعري وأنا قادم من الخرطوم والشمس تكاد تجثم على رؤوس الناس حينما ترجلنا من الطائرة في مطار جوبا لأجد بلدا سمائه غيم يتحرك فوق الرؤوس ورذاذا من المطر يصافح الوجوه أما الأرض فقد كانت نجيلا أخضر على امتداد البصر تتوسطه بحيرات وأشجارا سامقة. لا مرعى للحيوانات هنا فقد رأيت الماعز وهي تتحرك بصعوبة مكسوة بالشحوم لترعى داخل السوق هل يعقل أن يكون الذي أمامي هي أرضا سودانية؟ (7) في الفندق أوصد الخواجة باب غرفته ليأخذ قيلولة أما أنا فقد اتجهت ركضا الى سوق الخضار لأنعم برؤية الخضروات وشراء بعض الفواكه الاستوائية ..وليتني لم أذهب فقد عدت محبطا من هناك .. لم أجد خضروات ولم أشاهد فواكه الاستواء ..لم أجد سوى طحين يطلقون عليه (البافرا) يقولون انه مستخلص من جذور بعض الأشجار ثم (كيمان) من الحشرات أشبه بصغار الجراد ..عدت محبطا من هناك أتساءل اذن من أين يؤمن الفندق أطباق الخضروات لنزلائه وهو سؤال عرفت اجابته لاحقا من مدير الفندق الذي أفادنا أنه يزرعها في حديقة الفندق لعدم تواجدها في السوق . وكان ذلك مصدر دهشة وزير الزراعة واظن ان اسمه الدكتور قاما حسن ويحمل شهادة دكتوراه في الزراعة حينما رأي حيضان الخضروات حول الفندق فتساءل (الله .. معقول كل دا يقوم في الجنوب) . (8) في بهو فندق جوبا تهللت أسارير الروسي حينما علم ان ملامح نجاح زيارته التي كانت لتبادل الآراء حول التنمية والسلام بعد اتفاقية السلام التي أبرمها نميري مع حكومة الجنوب والعودة بحصيلة وفيرة من المعلومات قد تبدت وهو يتوسط سربا من أعضاء مجلس الشعب ..من بعيد يبدو هؤلاء الأعضاء بالبدل الفاخرة وربطات العنق الأنيقة وحقائب (السامسونايت) الراقية كأنهم خبراء دوليون ولكن الشياطين دائما في التفاصيل فما أن تمدد الليل ولعبت (البيرا أبو جمل بالرؤوس) التي كانت تتحدث عن إمكانيات زراعية ومشروعات إنتاجية طموحة لا وجود لها في الواقع حتى حول مراسل البرافدا ضفة الحوار الى أسئلة هزلية شخصية عن عدد الأبناء وعدد الزوجات .. وفيما كانت تتعالى ضحكاته عن الإجابات كنت أذوب خجلا وغضبا مما أراه وأسمعه أمامي ولا أدري أية مشاعر عاد بها ذلك الرجل عن زيارته التي استمات لتنفيذها. (9) الذي تحدثت عنه يمكن أن يحدث في أية منطقة في السودان (قص ولصق) فالجنوب رغم رحيله فلا زال قطعة من تأريخ ووجدان هذا البلد وحقيقة نقص القادرين على التمام هي جزء من الطابع القومي لبلادنا ولكنني أتحدث عن ثقافة (أكل الكيكة والاحتفاظ بها) السائدة والتي تتمثل هنا في عدمية الإنتاجية واستلام الراتب والحوافز كاملة غير منقوصة بصرف النظر عن الأسباب ..اذا تفاءلنا خيرا وانزاح عن صدر الوطن كابوس الحروب وهدانا الله للاتجاه لاستثمار امكانياتنا فان قطار التنمية سيقوده فطع شك القطاع الخاص الذي لن يقبل ثقافة العمل السائدة وفي هذه الحالة فلا يتبقى للأجير خيار سوى خلع هذه الكساء الذي لا يستر عورة أو التوجه بقلب قوي للتكل لعواسة الكسرة سيما فان البديل (البنغالي) جاهز يطرق الباب .The
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة