يحاول البعض التبرير لوجود هذا الكم من القوات المسلحة في الخرطوم وبعض المدن فيزعمون أن هذا يخلق نوعا من توازن القوى بين فرقاء متفرقون وبذا لم يعد ميزان القوة في صالح فئة محددة ، ويقصدون بالفئة المحددة هذه قوات الدعم السريع أو قوات حميدتي سمها ما شئت . بل يذهبون إلى أكثر من هذا فيزعمون أنها انجاز حمدوكي مذهل ؟ وقد يبدو هذا التبرير منطقيا بل يعده البعض ضربة معلم من الدكتور حمدوك ، فلم يعد – على حد قولهم – تحت ضغط العسكريين وخاصة حميدتي . ولو انصف هؤلاء لرأوا بعين ثاقبة أن الأمر ليس أمر توازن للقوى ، لأن هذا يعني خلق مراكز ضغط متعددة وقابلة للانفجار في أية لحظة . وهذا يذكرنا ببيروت ابان الحرب اللبنانية ، فقد تسلحت بعض التنظيمات والأحزاب ومارست نفوذها في مناطق محددة من العاصمة بيروت وبقية المدن بقوة السلاح ، وبقي الجيش اللبناني محاضرا ، في ثكناته . وعندما اشتعل فتيل الحرب أصبح الأمر سداح مداح لا قانون يعلو على صوت البندقية ولا يسمع إلا لدوي القنابل وانفجارات الدانات . وكانت خسارة كبرى لم تتعافَ منها لبنان إلى الآن . فهل يراد بنا ذلك ؟ يكفي احتكاك بسيط أن يشعل المدينة كلها ، والأسباب أكثر من أن تعد ، فالسلاح في يد من دُرب على الضرب لا يعرف لغة أخرى غيره ، وهذه القوات مهما كانت منضبطة فليس لها ولاء إلا لقادتها فقط ، هكذا تدربوا وهكذا تعلموا ، وليس كالشرطة أو الجيش القومي قومية حقيقية ، فولاء هؤلاء للوطن أولا قبل القائد . وما لنا نذهب بعيدا فهناك مثال أمام أعيننا وهو قوات الدعم السريع ، ولا نريد أن نحصي انتهاكاتها ضد المواطنين فهي أكثر من أن تعد ، وقد أقر قائدهم حميدتي نفسه بتفلتاتها ، وما حادثة الشهيد بها الدين إلا مثالا واحدا فقط . نحن هنا لا نستعدي أحدا ولا ندعوا لعزل أحد ، ولكنا نحذر أن الأمور قابلة للخروج عن السيطرة ، وربما لا يستطيع حتى قادتهم من ذلك لو أنه لا سمح الله حدث حادث عرضي أو حتى فردي يؤدي لاشعال نار لا تبقي ولا تذر . الأمر ليس أمر خلق "توازن الرعب" ، فالدولة الهشة هي التي تعتمد على عضلاتها أكثر مما تعتمد على القانون . القانون هو الذي يجب أن يخلق هذا التوازن ويحرس القانون من تدربوا وتعلموا ذلك ،وليس من جُلب من الغابة أو الأحراش هو من يحرص على القانون مهما قال قادتهم غير ذلك . والسؤال الذي يلح على كل ناظر هو : ماهي هذه الترتيبات الأمنية التي سمحت لهذا الكم من القوات أن تدخل بسلاحها الثقيل للمدينة ؟ حتى الرسول الكريم عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم عندما أراد أن يحج إلى مكة والبيت الحرام في قبضة الكفار دخل مكة بالسلاح الشخصي ولم يدخل بسلاح الحرب ، دلالة على أنه لم يأت لحرب ، لكن قادة الحركات المسلحة يرون أنهم في سلمهم لابد أن تصحبهم آلياتهم الثقيلة وتجهيزاتهم الميدانية . كل أمورنا الكبرى نتركها نهبا للضياع بسبب رعونة من سلمناهم أمرنا ، من مفاوضات الجنوب وإلى سد النهضة واتفاق الفترة الانتقالية وصولا للتريبات الأمنية التي ثبت أنها لم تُرتب إطلاقا . ويقولون لك الخطة هي دمج هذه القوات في القوات النظامية ، وكما تعودنا دائما لن يتم هذا إلى أن تنقضي الفترة الانتقالية هذا إذا انقضت على خير . فلم نسمع بلجان من الشق الأمني للدولة ومن تلك الحركات ، ولم نسمع بأي تحرك في هذا الاتجاه ، وسيكون مصيره مصير المجلس التشريعي ومصير قوات الدعم السريع التي هي جيش داخل الجيش . وما دام الأمر سيطول ولن يعرف له آخر فتجنبا لأي صدام مسلح فعلى الجميع أن يتفق على بناء معسكرات لهذه القوات خارج المدن ، لحين البت في أمرها . ولن يستمر الوضع بشكله الحالى مهما كانت الضمانات ، لأنه ببساطة لا توجد ضمانات ولا يحزنون . طبعا من قبيل الحلم أن يفكر قادة تلك الحركات في شيء آخر غير المناصب والتوزير . لأنهم لوكانوا فعلا يريدون نفعا ونصرة لقضيتهم لتوجهوا لمناطقهم أولا ووجهوا قواتهم لحماية أهلهم الذين لازالوا يعانون من القتل والنهب والاغتصاب . ولضغطوا في اتجاه دمج قواتهم في المظومة الأمنية قبل أن يتكالبوا على المناصب . لا نعرف إلى الآن ما نوع هؤلاء القادة هل هم عسكريون فنضمهم مع حميدتي وينالون الألقاب مثله ، أم أنهم مدنيون أم خليط بين هؤلاء وهؤلاء . ثم ماهي خططتهم لما بعد السلام ونصرة للقضية التي تمردوا من اجلها ؟ وماذا سيفعلون من أجل النهوض بمناطقهم ؟ ولماذا لم يسرحوا جزءا من قواتهم ويوجهونهم للذهاب لأهلهم للعمل هناك بعد أن هجروها وتركوا فيها النساء والأطفال والشيوخ .؟ لا شك عندي أن كل من أتي للخرطوم من هؤلاء لا يفكر مجرد التفكير في العودة إلا بمنصب أو مكسب ما ، أما غير ذلك فالبقاء هنا هو غاية المنى ، خاصة للقادة منهم فهل هناك أشد راحة من الفنادق أو أكثر رفاهية من المناصب ؟ يبدو أننا مقبلون على صيف حا ، وحار جدا ، فيه ستنجلي الأمور وتوضح النوايا . خاصة وأن هناك من يشكك في هذه النوايا ، ويقولها بالفم المليان أن خلف الأكمة ما وراءها ، وأن ما يبيته هؤلاء من نية سوداء معاكس تماما لما يظهر منهم ، وأن كل هذا مجرد تغطية لعملية أكبر تستهدف الدولة والسيطرة عليها وفرض إثنية جديدة ، في تحرك خلفه حقد دفين وموجدة على أهل الشمال ، ويظنون أنهم قد واتتهم الفرصة للانتقام . هذا الطرح الأخير يدعمه رأي أممي صادر من جهات مسؤولة هي التي حذرت من ما يبيته هؤلاء من سوء نية . والمطلوب من هؤلاء القادة ان يكذبوا عمليا هذه الشكوك بالعمل السريع والضغط لأجل دمج قواتهم أو بنقلها خارج المدينة . وإلا فالشكوك ستظل قائمة وتستطيل حتى تصبح يقينا .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة