كان البياض يُباع في قوارير صغيرة، تصطف خلف زجاج الفترينات الأنيقة في الاسواق والاحياء. تلتمع لها أعين الفتيات والنساء، فيتدافعن من أجل الحصول عليها بكل حماس، متفاخرات بمحو سمرتهن كما لو كانت وصمة عار.
وحدها "طاهرة" مشت بينهن واثقة الخطى بسمرتها النيلية، كوشم من طمي النيل لا يُمحى ولا يُبلى. وفي سبيل ذلك لم تسلم من الهمز واللمز ونظرات الاستنكار والسخرية ممن بعن سمرتهن دون حياء.
ثم اندلعت الحرب، ونهبت الأسواق، واحترقت المخازن، وانحصر الهم الأكبر في الأمن وما يسدّ الرمق، بينما صارت كريمات التفتيح ترفًا بعيد المنال.
في الأعراس القليلة التي قاومت الحرب و الدمار، ذهب البياض المستعار؛ إذ ذابت الألوان، وسقط القناع، وتشوهت وجوه أو عادت إلى أصلها وسمرتها.
دنت منها صديقة قديمة، تحدّق بدهشة واستغراب في وجهها الذي خطف الأبصار والعقول، وهمست: ــ "كيف ظللتِ كما أنتِ بهذا الصفاء؟"
رسمت "طاهرة" ابتسامة مشحونة بالنصر والفخر، وقالت بصوت يشبه يقين الأرض: ــ "أنا لم أبِع سمرتي كي تستردها الحرب."
عندها ساد صمت عميق، كأن الجميع أدركوا فجأة أن السمرة التي أنكروها يومًا… كانت الحقيقة الوحيدة التي لم تمسسها نيران الحرب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة