كان يمكن للحرب أن تكون لحظة عابرة في تاريخ بلدٍ أنهكته الأزمات، لكن الإسلاميين كما لو أنهم ورثة النار لم يكتفوا بإشعالها، بل جعلوا منها مشروعًا سياسيًا طويل الأمد، لا يريدون له نهاية، ولا يسمحون بظهور أي ضوءٍ في آخر النفق. الحرب بالنسبة لهم ليست كارثة، بل خيارٌ محسوب؛ ليست خطأً، بل أداة؛ ليست آخر الطريق، بل بدايته. منذ اللحظة الأولى، تعاملوا مع الحرب كأنها فرصة ذهبية لاستعادة النفوذ الذي فقدوه بعد الثورة. لم يبالغوا في إخفاء ذلك، بل أطلقوا تصريحاتهم بوضوح يليق بمن لا يخجل: “سنواصل”، “سنحسم”، “لا هدنة”، “لا تفاوض”. خطابٌ بارد أمام دمٍ ساخن. كان كل شيء يشير إلى أنهم لا يريدون إطفاء النار… لأنهم ببساطة يحتاجونها. لقد صنعوا من الحرب ملاذًا سياسيًا؛ ساحة يختبئون خلفها من مطالب الدولة الحديثة ومن مساءلة التاريخ. كلما اقتربت البلاد من فرصةٍ للسلام، رفعوا سلاح الشعارات لقتلها قبل أن تولد. رأوا في الرباعية “استهدافًا”، وفي مبادرة جدة “مؤامرة”، وفي أي مسار تفاوضي “خيانة”. لكن ما إن جاء كلام ترامب، حتى تلاشى كل ذاك الصراخ، وسقطت كل خطوطهم الحمراء دفعة واحدة، وكأن الحرب لا تحتاج إلا لمزاج دولي حتى تتبدل قناعاتهم المتحجرة. والحقيقة التي يحاول الإسلاميون إخفاءها دائمًا هي أنه لا عداء ولا مؤامرة عليهم كما يسوّقون؛ فالعالم لم يتفرغ ليحاربهم، بل هم من تآمروا على دول الجوار، وضيّعوا السودان عندما جعلوه ملجأً لتنظيم القاعدة، وفتحوا معسكرات للمتطرفين، مهددين الأمن العربي كله. دعموا جماعات متطرفة في ليبيا بالطيران والسلاح، ومولوا حركات إسلامية في تشاد وأفريقيا الوسطى، حتى صار السودان نقطة ارتكاز للفوضى بدلًا من أن يكون ركيزة للاستقرار. إنهم لا يهربون من “مؤامرة”، بل من تاريخ صنعوه بأنفسهم، وخطايا يعرفون أنهم لن ينجوا من محاسبتها إذا تحقق السلام الحقيقي. وما يزيد المرارة أن الذين يشعلون الحرب بأيديهم، يجعلون أبناءهم في مأمنٍ منها. أولادهم خارج السودان في ماليزيا وأمريكا ومصر يعيشون في أفخم الفلل والشقق، يدرسون في أفضل المدارس ويُمنحون كل ما حُرم منه أطفال السودان. بينما في الداخل، هناك أكثر من ١٤ مليون طفل محرومون من التعليم بسبب الحرب التي أشعلها هؤلاء أنفسهم. المفارقة ليست في التفاوت الطبقي فحسب، بل في السؤال الذي يطرح نفسه: من أين لهم كل هذا المال؟ الكل يعرف تاريخ قادتهم، ويعرف أنهم لم يكونوا يملكون شيئًا قبل السلطة… وأن ثراءهم لم يكن يومًا نتيجة كدّ أو اجتهاد، بل نتيجة فسادٍ ودولة استباحوها كما يشتهون. الحقيقة أن الإسلاميين لم يرفضوا السلام يومًا لأنه ناقص… بل رفضوه لأنه كامل. كامل بما يكفي لكشف أكذوبة “الكرامة” التي سوّقوها، ولنسف خطاب “الحرب المقدسة” الذي يقتات على الجهل والخوف. فسلام كهذا يضعهم أمام مسؤولياتهم، ويحرمهم من الاستثمار في دماء الناس، ويكشف للعالم حجم الخراب الذي تسببوا فيه. أشعلوها وهم يعلمون أنهم يقفون على قمّة جبلٍ من البارود، ويعرفون أن كل يوم يمر يعني مزيدًا من التهجير، مزيدًا من المدن المدمرة، مزيدًا من الجثث التي لا تجد من يدفنها. ومع ذلك، يصرّون على البقاء، لأنهم يحلمون بأن يُعيد الحريق تشكيل السودان على مقاسهم القديم. لكن النار دائمًا تكشف أصحابها. تكشف خوفهم حين يلوّح العالم بإطفائها. تكشف سذاجة خطابهم حين تتحول “المؤامرة الدولية” فجأة إلى “جهود مشكورة”. تكشف أن الذين أشعلوا الحرب لم يكونوا يومًا مستعدين لوقفها… لأنهم ببساطة لا يملكون مشروعًا غيرها. السودان لا يحتاج إلى من يقاتل باسمه، ولا إلى من يزايد بدم أبنائه. يحتاج إلى من يملك الشجاعة ليعترف بأن النار التي اشتعلت لم تكن قدرًا، بل قرارًا. قرار اتخذه من يخاف الدولة، ويكره الاستقرار، ويعرف أن السلام وحده يمكن أن يطوي صفحتهم إلى الأبد. نعم… أشعلوها ولا يريدون إطفاءها. لكن الشعوب التي تعلّمت من رمادها، والتي رأت النار تلتهم بيوتها وأحلامها، لم تعد قابلة للابتلاع مرة أخرى. وسيأتي يوم مهما طال تُنتزع فيه المطفأة من أيديهم، لتصبح النار آخر ما يملكون… لا أول ما يحمون.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة