نشرنا في الجزء (١) ما سجله يراع الباحث والاديب د .محمد المصطفي موسى حامد الطيب أيرلندا لقيمته التوثيقية العالية بعنوان :
(في ذكري معركة شيكان .. .. قراءة تحليلية لردود أفعال الصحافة البريطانية وبعض الصحف العالمية بعد الموقعة) لما لذلك من قيمة للباحثين عن تاريخ المهدية ومجاهداتها .. وانتهز هذه السانحة لأشكر صديقتي ( الأنصارية القح علي رفدنا بهذا الكنز من افواه وأقلام الصحافة العالمية ) : مع بيان المصادر حيث كتب الباحث :
وإنضمت صحف نمساوية بارزة لحملة إنتقادات الصحف الفرنسية للإعلام البريطاني وسياسته الرامية للتملص من هزيمتهم في شيكان فكتبت صحيفة Neue Freie Presse بتاريخ ديسمبر 1883 : ” إن في مقدور بريطانيا أن تزعم لآلاف المرات ان لا شأن لها بما يحدث في السودان . ولكن القضية الأن لم تعد قضية السودان لوحده بقدر ما هي قضية مصر . لقد هزت الحركة المهدية موقع الخديوي ولو لم يتم تقويته فمن المتوقع ان تنتشر تلك الموجة لتشمل كل أنحاء العالم الاسلامي “. اما صحيفة Tagblatt التي كانت تصدر من فيينا فقد استبقت الأحداث بالحديث عن قراءتها الخاصة لنتائج موقعة شيكان حين قالت : ” إن عدم منع المهدي من التقدم بقواته نحو مصر سيؤدي لتغييرات بالغة بكل العلاقات الدولية في القارة الأوربية ” .. وإنتحت صحيفة بريطانية مهمة كصحيفة ” Reading Mercury ” منحاً مشابهاً لصحف فيينا في تناولها لإنتصار الثورة المهدية بشيكان من حيث خطورة الأثر الذي ستحدثه نتائج تلك المعركة الحاسمة علي قبضة بريطانيا المحكمة فيما يختص بمستعمراتها بالعالم الاسلامي .. وجاء بالصحيفة بهذا الشأن تحديداً : ” إن هنالك ثمة مخاوف جدية ستترتب علي انتصار المهدي بما يُتوقع ان يتلوه من انعكاسات علي العالم الاسلامي . انه من الممكن جداً ان يكون نجاح الثورة المهدية بمثابة رسالة إيجابية تحرض المسلمين علي القيام بإنتفاضات مماثلة في المنطقة العربية وبلاد فارس وكل مناطق المسلمين بالهند ” .. ( صحيفة Reading Mercury .. عدد بتاريخ السبت 1 ديسمبر 1883 ) .
وكتب الصحفي والبرلماني الأيرلندي اوكيلي الذي عرف عنه تعاطفاً كبيراً مع الثورة المهدية .. كتب بصحيفة ” The Western Morning News ” الانجليزية الصادرة بصبيحة الخميس 22 يناير 1885 .. عن تفاصيل مشاركة الامام المهدي مقاتلاً بسيفه في معركة شيكان و زعم بأنه جُرح في المعركة مدللاً بذلك علي بسالته كقائد . وجزم اوكيلي بأن المهدي لم يكن ليخبئ نفسه في المعارك بل كان يقاتل وسط جنوده
( He takes part in all battles and does not spare his own person ) .
ويصف اوكيلي الامام المهدي في ذات المقال بأنه قائد علي مستوي متعاظم من الذكاء ويتسم بقدرات شخصية قيادية خارقة لا يمكن ان يتسرب اليها شك ” . غير أن الصحافة البريطانية لم تغفل أيضاً عن تقريظ جنرال بريطانيا الذي ابتلعته غابة شيكان بما يليق من المدح فتعرضت صحيفة “شيفلد ديلي تليغراف ” في أعقاب انقضاء المعركة لتفاصيل مقتله بمقال مفصل ذكرت فيه أن الجنرال هكس كان قد قاتل بشجاعة الأسود حتي نقطة النهاية وأفرغ محتويات مسدسه لثلاثة مرات قبل ان يقاتل بالسيف ثم يُقتل بعد ذاك فكان اخر من لقي حتفه من رجال حملته . ( شيفيلد ديلي تليغراف ، 19 ديسمبر 1883 ) واتجهت صحيفة أسكتلندية معروفة كصحيفة ” The Dundee Courier And Argus ” لتخصيص صفحتها الأولي من عددها الصادر بصباح الجمعة 23 نوفمبر 1883 لتحقيق مطول عن تفاصيل معركة شيكان تحت عنوان لم يخلو من إثارة بيّنة .. ( الكارثة المفزعة في السودان ، هزيمة هكس باشا وإبادة جيشه ، تفاصيل المذبحة التي تعرضت لها قوات بلغ تعدادها 10 الف رجل ) .. وأشارت الصحيفة الي أن المربع العسكري الذي شكل هكس قواته عليه قد تعرض للكسر بواسطة قوات المهدي بعد 3 ايام من المناوشات و المعارك المتصلة انتهت بإبادة جيشه في شيكان . كما نقلت عن احد شهود العيان إفادات تشير الي انه استطاع ان يحصي 150 من جرحي الحملة المبادة أبقي الانصار علي حياتهم بما في ذلك الصحفي فرانك باور . وتحدثت الصحيفة عما وصفته بالشلل التام الذي خيم علي حكومة غلادستون بفعل هذه الكارثة ولكنها توقعت ان يتم اتخاذ تدابير رسمية معينة بمساء يوم 23 نوفمبر 1883 حيال ما حدث . وحذرت الصحيفة بلهجة صارمة من وجود دلائل تشير الي إمكانية سقوط ميناء سواكن في قبضة القبائل التي أعلنت ولائها للثورة المهدية بشرق السودان في إشارة منها لعمليات الامير عثمان دقنة والتي أدت الي مقتل القائد الانجليزي مونكريف في أعقاب موقعة شيكان مباشرة . وواصلت الصحيفة تحذيراتها المرسلة فتطرقت لتقدم قوات الثورة المهدية نحو الخرطوم الذي بات وشيكاً كما تحدثت بتفصيل عن ان مصر نفسها لم تعد بمأمن من تقدم قوات الثورة السودانية ونبهت الي أن قوات الجنرال البريطاني “إيفلين وود” المتواجدة بجنوب مصر لم تكن سوي قوات ضئيلة العدد قياساً بما يحدث في المنطقة . و في ختام تحقيقها المفصل اتجهت “The Dundee” .. للهجة غلب عليها التشاؤم بخصوص فرص بريطانيا لإعادة الامور الي ما كانت عليه حين قالت نصاً .. : ” في واقع الحال ، ان أسراب المقاتلين الضخمة التي تتوفر تحت قيادة المهدي وما يتوقع لأعدادها من تزايد ستقلل كثيراً من توفر العوامل المساعدة لمقاومتنا لتحركاته الناجحة ” .. ويبدو ان مخاوف ” The Dundee” التي جاهرت بها كان لها ما بعدها .. فإنبرت صحيفة لندنية متفردة كصحيفة ” London Daily News” .. لنشر تحليل مستفيض حول الانتصارات المتتابعة التي حققتها الثورة المهدية تضمن احداث حصار وتحرير مدينة الابيض التي سبقت موقعة شيكان .. وتعرضت الصحيفة للوحدة الوطنية التي حققتها المهدية بين قبائل السودان المختلفة قائلة : ” بالاضافة للثلاثين او الأربعين الف من رجال المهدي الخلُص الذين يعسكرون معه بالأبيض . أنه من الممكن القول بأن المهدي يحظي بالمساندة والتعاون الحيوي مما يقارب الثمانين قبيلة من قبائل السودان والتي تتمدد في أغلبية أراضي هذا البلد الشاسع من حدود صحراء بيوضة الي أقاصي المناطق الاستوائية و بمقدار مماثل يصعب تحديده لأقاصي حدود دارفور الغربية . هؤلاء الانصار الذين تتراوح أعدادهم ما بين ال 200 الي 300 ألف مقاتل يختلفون كثيراً في البنيان الجسماني والمزاج العام عن جنود احمد عرابي . في الغالب الاعم تتشابه سحناتهم بدرجة وثيقة مع سحنات الهنود الحمر الأمريكيين وفي كثير من الأحوال تختلط دمائهم بالدم الزنجي . ويمكن تعميم هذه الصفة علي القبائل العربية المتاخمة للمناطق الإستوائية ” .. وقبل أن يمر شهر علي هزيمة هكس بشيكان نشرت صحيفة ” مونماوث شراين مرلين ” .. ” Monmouthshire Merlin” التي تصدر من ويلز تحقيقاً بعنوان ” رأي احمد عرابي في المهدي ” حيث أشارت في تحقيقها المؤرخ بتاريخ الجمعة 30 نوفمبر 1883 .. الي أن انتصار الثورة المهدية الأخير علي قوات هكس لم يكن مفاجئاً بالنسبة لعرابي الذي كان يتحدث عن تعاظم نفوذ المهدي بصورة مكررة وقال بما يكفي من الصراحة أن علي إنجلترا الآن ان تُعد نفسها لزحف قواته التي ستعسكر يوماً ما بالقرب من القاهرة . وذكرت الصحيفة أن عرابي منذ قدومه الي منفاه بجزيرة سريلانكا ظل ثابتاً علي رأيه بحتمية انتصار المهدي لأنه- بعكس الأوربيين – يدرك أن روح الشعوب هناك تتوق بطبيعتها للتخلص عن ما أسماه ب ” الاستعمار المسيحي” شأنها شأن المسلمين في كل مكان .
وعلي ذات الايقاع مضت تصريحات عرابي اللاحقة عن الثورة المهدية بلهجة متصاعدة من التأييد حين نقلت صحيفة ” يوركشاير بوست” الانجليزية الصادرة في يوم الاثنين 4 فبراير 1884 تصريحاته التي وصف فيها الامام المهدي بالزعيم الذي يمتلك مقدرات هائلة تدعمها شخصية قوية متماسكة مما مكنه من أن يحشد خلفه ما لا يقل عن 150 الف من رجال شعبه الذين جُبلت فطرتهم علي القتال “.. ويبدو أن احمد عرابي باشا لم يُخرج كل ما في صدره من إنحياز للثورة المهدية الا عندما انتصرت انتصاراً حاسماً آخراً علي بريطانيا بتحرير الخرطوم ومقتل غردون الذي تزامن مع فشل حملة إنقاذه البريطانية بقيادة اللورد ولزلي .. وفي ذلك اوردت صحيفة ” وسترن ديلي برس ” البريطانية بعضاً من نص رسالة عرابي لليدي آن بلنت والتي عبر فيها بوضوح عن مشاعره الحقيقية تجاه الثورة في السودان وقد جاء ذلك في عدد الصحيفة المؤرخ ب 2 مارس 1885 : ” لم تكسب بريطانيا شيئا من محاولتها غزو السودان .. لقد خسرت كل شئ .. خسرت اسمها وسمعتها و خسرت كل المسلمين . لقد فقدت بريطانيا غردون وستيوارت وهكس و أيرل وكم وكم غيرهم من الضباط البريطانيين . كما فقدت ايضا تعاطف كل القلوب بسبب حربها علي ثورة التحرر في السودان .إن السودانيين الشجعان أخذوا بالثأر لاخوانهم المصريين وحموا بلادهم ضد الغزاة ومنهم رجال يفضلون أن يتجرّعوا كأس الموت علي أن يروا مستعمرا دخيلاً عليهم داخل حدودهم . لقد بايع الشعب السوداني المهدي بالملايين علي الموت من اجل الحرية و كلما ازداد العدوان الانجليزي عليهم كلما ازدادت قوتهم “.. صفوة القول أنه بالإستناد علي ما تقدم من وثائق يمكن الخلوص الي أن معركة شيكان وما تلاها من نتائج وتداعيات قد أخذت حيزاً واسعاً من الاهتمام الصحفي البريطاني والعالمي ونالت كمثيلاتها من النزالات العسكرية الفاصلة في عالم القرن التاسع عشر قدراً متقدماً من التحليل والتمحيص في تفاصيلها بما يليق بما أحدثته من تغيير قلب موازين القوي العالمية – و لو الي حين – في عالم تناهشته المطامع الإستعمارية التي لا تلقي بالاً لإرادات الشعوب .. فكانت شيكان انتصاراً سودانياً شعبياً باهراً جري مده في عكس اتجاه جريان النهر الامبريالي العالمي أنذاك .. وكان من أمره ما كان .
المصادر :
1) ارشيف الصحافة البريطانية ..
2) فيرغس نيكول : جلادستون وغردون وحروب السودان ، Publisher : Pen andSword ، Souh Yorkshire، نسخة الكترونية ، نسخة العام 2013 .
3) فيرغس نيكول : مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون ، دار سوتون Sutton للنشر ، جلوستارشاير ، المملكة المتحدة 2004.
4) منشور الامام المهدي للامير احمد ود جفون : الاثار الكاملة للامام المهدي لابوسليم ، المجلد الاول، دار جامعة الخرطوم .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة