ليست رواية "بئر الدهشة" عملًا صدر مؤخرًا، لكنها من تلك النصوص التي لا يبهت حضورها بمرور الوقت. في مشهد الرواية السودانية المعاصرة، تحتفظ هذه الرواية بقيمة فنية خاصة، تجعل من استعادتها اليوم ضرورة لفهم نسيج التنوع الإبداعي، وتطور الحساسية السردية لدى كتّاب من جيل ما بعد الحداثة. حين يتصالح السرد مع الذاكرة، وتتحوّل القرية إلى مرآة داخلية لوجدان الشخصيات، تولد أعمال أدبية لا تصرخ، لكنها تُقيم طويلًا في النفس. هذا هو الحال مع "بئر الدهشة" للروائي السوداني المعز عبد المتعال، التي صدرت عن دار روافد، وجاءت كحكاية متعددة الطبقات، تنبع من قلب القرية، وتمتد في الزمن العاطفي لشخوصها. الرواية، الممتدة بين اليومي والشاعري، لا تعتمد على عقدة تقليدية أو ذروة درامية حادة. هي فسيفساء من المشاهد والحوارات والانفعالات المتناثرة، تُشكّل معًا لوحة حيّة لقريـةٍ سودانية نيلية، لا تكفّ عن التكرار، ولا تتعب من البوح. عبد الجليل وأسماء: يمثلان النقاء العاطفي في قلب الرواية، يقف عبد الجليل، رجل بسيط، شاحب، لكنّه مفعم بحسّ ساخر، يحتضن ماضيه ويعيش حاضره بكرامة هادئة. يرفض الزواج وفاءً لذكرى زوجته الراحلة، ويغدو حضوره الأخلاقي ترياقًا لواقع قاسٍ. إلى جانبه، تتألّق أسماء، ابنته الوحيدة، والتي ترث عن أمها وهجها الداخلي، وتجد نفسها تمزج بين الحب والخوف، بين الرغبة في التمرد والخضوع لفكرة الأبوة. بين هذه الثنائية –الأب والابنة– تكتب الرواية فصلها الأهم: ليس في الحب وحده، بل في الصمت المشترك والمخاوف المؤجلة. القرية كبطلة سردية القرية في "بئر الدهشة" ليست ديكورًا، بل كيان حي. من البئر إلى الساقية، من جلسات المساء إلى سوق الغلال، كلّ تفاصيل المكان تنبض بالسرد. الحوارات اليومية عن السياسة، الزواج، والهموم الاقتصادية تخلق مناخًا واقعيًا فريدًا يجعل القارئ يتورط في العيش داخل الحكاية لا مجرد متابعتها. حتى الشخصيات الثانوية –مثل الشيخ موسى، عثمان، عبد التواب، نُهى، إخلاص، ونادية– ليست هامشية، بل كل منها يحمل خيطًا من خيوط المعنى. "عثمان"، مثلًا، ليس مجرد مجنون القرية، بل استعارة لفشل الحلم، ورمز لإنسان يرفضه المجتمع لأنه يعكس هشاشته. شاعرية اللغة وبساطة العمق ما يميز المعز عبد المتعال في هذا العمل هو قدرته على كتابة الشعر في نثر الحياة. جُمل مثل: "السعادة هي الرضا، والرضا هو النصر" "كيف تنتصر الحياة على الموت؟ كيف تنقلب اللحظة من فقد إلى يقين؟" تحمل في بساطتها الكثير من العمق، دون أن تتكلّف الفلسفة. الرواية تكتب مشاعر عادية بلغة غير عادية، وهذا سرّها. البئر كرمز داخل الشخصية السودانية "البئر" في العنوان ليست مجرد بئر ماء، بل رمز عميق للداخل، للمكبوت، لما لا يُقال. هي استعارة عن الرغبة، عن الحب المدفون، عن الحزن الموروث، وربما عن الأنوثة المقهورة التي لا تجد تعبيرًا في قرية مغلقة القيم. أما "الدهشة" فهي ليست مفاجأة الحدث، بل هي انكشاف الذات أمام الحب، الموت، والرغبة في حياة أجمل. نساء الرواية التمرد الصامت لا أحد يصرخ في الرواية، لكن الجميع يعاني. النساء، تحديدًا، يبدين خاضعات، لكن كل واحدة منهن تخفي رغبة سرية في الانفلات. من أسماء إلى نُهى إلى نادية، ومن إخلاص إلى نفيسة، تتنوّع الأصوات الأنثوية بين الحلم، العشق الألم، والانكسار، ويظل سؤال: "من يختار المرأة في هذه القرى؟ وهل يُسمح لها بالاختيار أصلاً؟" معلّقًا كفكرة تحت جلد النص.
"بئر الدهشة" ليست رواية تقرأها لتعرف "ما الذي سيحدث؟"، بل لتتأمل "لماذا لم يحدث شيء؟"، ولماذا بقيت الشخصيات على حالها. هذا النص الروائي يرسم ملامح مجتمع على حافة الصمت ويعيد صياغة الحنين لا كنوستالجيا بل كحقيقة ثقيلة تعيش في تفاصيل الجسد والذاكرة. إنها رواية عن الحياة المؤجلة، عن أحلام البسطاء التي لا تموت لكنها لا تولد أيضًا، عن الحب الذي يختبئ في النظرة، لا في الاعتراف. رواية تستحق أن تُقرأ لا مرة واحدة، بل كأنك تنزل إلى بئر فعلاً، باحثًا عن دهشتك الخاصة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة