تعرض وزير الثقافة والإعلام ألاستاذ فيصل محمد صالح لحملة إنتقادات إسفيرية عنيفية ضجت بها وسائط التواصل الإجتماعي خاصة (الفيس بوك) و(الواتساب) على خلفية ما نُسب لشخصه من قول بأن سلطات إقالة مدير التلفزيون القومي ليست من إختصاصته وأن الجهة المناط بها إصدار هذا القرار هو رئيس الوزراء د.عبدالله حمدوك.
من الواضح أن هذا القول حظى عند البعض في المناقشات لتصوير وزير الإعلام بالضعف بإعتباره مجرد من السلطات والصلاحيات في ما مضي آخرون لأبعد من ذلك بإعتبار هذه الواقعة مؤشر على قلة حيلة الحكومة المدنية في مجابهة الدولة الموازية الموالية للنظام البائد بمؤسسات الخدمة المدنية التي تمترست بالقوانين التي تجعل إقالة وإبعادهم أمراً بعيد المنال.
جنحت فئة ثالثة من بقايا النظام الهالك البائد في إستغلال الأمر في أطار حملتها المستمرة لثلاث عقود التي تزايد اوارها بعدما سقط نظامهم متوهمين بأن بإمكانهم إعادة عقارب الساعة للوراء لإرجاع دولتهم الفاسدة والفاشلة مرة أخرى، ولذلك تستغل أي مسلك تعتبره هفوة أو تصطنعه لإعطاء إيحاء وبث رسائل بأن الجديد البديل (فاشل من البداية)، رغم أن أحاديث الفشل حينما تأتي فإن أخر من يحق لهم الحديث عنها وتقييم الاخرين هم أرباب النظام السابق والذين تكفي حصيلة حكمهم المطلق لثلاث عقود لطأطأة رؤوسهم لنصف قرن من الزمان.
سأحاول في هذا المقال مناقشة الأمر في ما يتصل بالتساؤول الأول حول ضعف وزير الإعلام وقلة حيلة الحكومة المدنية في مواجهة فلول التمكين جراء نصوص القوانين التي تجعل من وجودهم أمراً لا مناص منه. لكن أجد من الضروري قبل ذلك إلقاء نظرة على مسألة تعيين مدير التلفزيون على ضوء أحكام الوثيقة الدستورية والقانون المنظم لعمل التلفزيون القومي.
نجد أن الوثيقة الدستورية نصت في أحكامها الختامية على أيلولة كل الصلاحيات والإختصاصات المنصوص عليها بالقوانين لرئيس الجمهورية في ما عدا تلك التي باتت ضمن صلاحيات وإختصاصات مجلس السيادة لرئيس الوزراء.
حل قانون الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون لسنة 2001م بديلاً لقانون الهيئة القومية للتلفزيون لسنة 1991م ومع مراعاة التعديلات الهيكيلة التي أدخلها مجلس الوزراء على القانون في العام 2009م والتي قضت بإعادة تقسيم الهيئة لثلاث مكونات الأمر الذي أدي لتسمية مدير منفصل لكل من الإذاعة والتلفزيون.
نجد أن مواد قانون 2001م منحت رئيس الجمهورية حق إصدار قرار بناء على توصية الوزير المختص تعيين مجلس للأمناء وفقاً لأحكام المادة (11) والمدير العام وفقاً لأحكام المادة (18) ونواب المدير العام وفقاً لأحكام المادة (19)، في ما نصت المادة (16) على حق رئيس الجمهورية في إعفاء أي من رئيس وأعضاء مجلس الأمناء بناء على توصية الوزير المختص بالتشاور مع المجلس.
رغم صمت القانون عن إجراءات إعفاء المعينين بموجب أحكام المادتين (18) و(19) التي تشمل المدير العام ونوابه –ولاحقاً مديري التلفزيون والإذاعة- فإن أحكام الإعفاء تنطبق عليها ذات الإجراءات المتصلة بالمادة (16) مما يعني أن الإعفاء يتم بقرار صادر عن رئيس الجمهورية بالتشاور مع الوزير المختص.
من المهم إجراء مقارنة سريعة بين أحكام قانون 2001م وقانون 1991م في الجزئية المرتبطة بالتعيينات حيث تنص المادة 7 (2) من قانون 1991م على تشكيل مجلس إدارة الهيئة القومية للتلفزيون بقرار يصدره مجلس الوزراء بناء على توصية الوزير، في ما نصت المادة 13 (1) على تعيين المدير العام للتلفزيون القومي، في ما اشارت المادة 14 (1) لتعيين 4 نواب للمدير العام بواسطة رئيس مجلس الوزراء بناء على توصية الوزير المختص بناء على توصية مجلس إدارة الهيئة.
نجد أن المقاربة ذات الصلة بالتعيين والإعفاء وفقاً لقانوني 1991م و2001م تتمثل في ما عدا تعيين أعضاء مجلس إدارة الهيئة القومية للتلفزيون في قانون 1991م الذي يصدر بقرار عن مجلس الوزراء، فإن بقية التعيينات تصدر عن رئيس الوزراء في قانون 1991م أو كل التعينات بواسطة رئيس الجمهورية في قانون 2001م. من المهم الإشارة إلي أن شاغل هذين المنصبين هو رأس النظام السابق حيث تغيرت صفته الدستورية من رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الوزراء في أكتوبر 1993م لرئيس الجمهورية عقب إعلان حل مجلس قيادة الثورة.
بالعودة لأحكام الوثيقة الدستورية التي تم التوقيع عليها في 17 أغسطس الماضي نجد أن الصلاحيات المرتبطة بتعيين وإعفاء مدير عام التلفزيون القومي ليست ضمن الصلاحيات المنصوص ضمن إختصاصات مجلس السيادة وهو ما جعلها طبقاً لأحكام الوثيقة الدستورية ضمن الصلاحيات التي آلت لرئيس مجلس الوزراء بوصفها ضمن إختصاصات رئيس الجمهورية الواردة في قانون الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون.
بالإستناد لما ذكرناه أعلاه في ما يتصل بتوضيح الصورة القانونية التي تحكم إجراءات التعيين والإعفاء نحلص إلي أن الإجراء المرتبط بإعفاء مدير عام التلفزيون القومي يستوجب توصية الوزير المختص –وهو وزير الثقافة والإعلام- لرئيس الوزراء وهذا يعني أن صدور القرار غير ممكن صدوره بشكل مباشر من الوزير المختص وغير لائق صدوره مباشرة من رئيس الوزراء.
لعل ما أشرنا إليه أعلاه يشرح أسباب عدم إصدار رئيس الوزراء لقرار بإعفاء مدير التلفزيون القومي رغم إرتكابه لتقصير فادح بعدم تغطية التلفزيون القومي للمؤتمر الصحفي المشترك الذي جمع رئيس الوزراء مع وزير الخارجية الألماني بحجة (عدم توجيه الدعوة للتلفزيون) !!
بعد ما أشرنا إليه أعلاه دعونا نحاول تقديم إجابة على الإنتقاد الأول (هل وزير الإعلام ضعيف وغير مؤهل لممارسة مهامه ومسلوب السلطات وهو ما سيجعله بلا عطاء أو إنجاز؟) خاصة أن قضية إبعاد مدير التلفزيون القومي مرتبطة لدى الراي العام بتجاوزات مهنية تورط فيها مدير التلفزيون ببثه لمحتويات إعلامية غير مهنية ومسيئة للثوار والمعتصمين أشهرها فيلم وثائقي يزيد عن العشرة دقائق عقب جريمة فض إعتصام القيادة العامة في 3 يونيو 2019م حمل إسم (خفافيش الظلام) ثم ما تلاه من مسلك لاحق بعدها لحين التوقيع على الإتفاق السياسي منتصف يوليو الماضي.
للإجابة على هذا الإفتراض فمن الضروري الإشارة إلي أن وزير الإعلام ومنذ يومه الأول في الوزارة وخلال مخاطبته للعاملين تحدث بوضوح عن حالة من الإستياء الشعبي طالت أداء المؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة وهو ما فُهم منه تحديد غير مباشر لمدير التلفزيون القومي.
على المستوي العملي فإن وزير الإعلام أصدر وبناء على الصلاحيات المخولة له في القانون الذي يحكم عمل الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون لسنة 2001م المعدل في 2009م توصية لرئيس الوزراء لإقالة مدير التلفزيون القومي وهو ما يعد تطبيق فعلى لسلطاته وصلاحياته وهذا يدحض ما يقال عن ضعف الوزير وعدم مقدرته على تصريف مهام موقعه الجديد، هذا بخلاف أن هذا الحكم إنطباعي وتم إتخاذه بعد ايام فقط من شغله لموقعه مما يجعله حكماً عاطفياً قائم على إفتراضات عاجلة لا تصلح لإصدار حكم عام نهائي، وفي ذات الوقت أغفل ما أشرنا إليه من مباشرة الوزير لصلاحياته بالتوصية بإعفاء الشخص المعني.
نأتي للنقطة الثانية المرتبطة بإفتراض البعض أن جعل صلاحية إصدار قرار الإقالة رهين بموافقة رئيس الوزراء هو تعزيز لتمكين منسوبي النظام البائد وقطع للطريق أمام إعفائهم مما يعني إستمرارهم في مواقعهم. أعتقد أن هذا التوصيف غير دقيق لكون أن إجراءات الإعفاء ليست محصنة ولكنها مرتبطة بتسلسل ووجود جهة مرجعية تتولي إصدار القرار بالتعيين أو الإعفاء. وهذا الأمر ينظر إليه بإعتباره يدخل ضمن إجراءات حماية الخدمة المدنية ومؤسسات الدولة العامة من الإضطراب وعدم الإستقرار بسبب تغيير الوزراء بسبب التحولات والتقديرات السياسية.
تقودنا النقطة السابقة لبيت القصيد والمتمثل في إمكانية إعفاء أي من القيادات العاملة في الخدمة المدنية أو المؤسسات العامة الذين إرتبط تعيينهم بصدور قرارات من رئيس الجمهورية سواء بشكل مباشر منه أو بناء على توصية أي من الوزراء حسبما ينص القانون، بواسطة قرار إعفاء يصدره رئيس الوزراء للحكومة المدنية بشكل مباشر أو بناء على توصية الوزير المختص حسبما ينص القانون.
في تقديري أن مسألة إعفاء مدير التلفزيون القومي الحالي التي أوصى بها وزير الإعلام لرئيس الوزراء ستحظي بموافقة الثاني ولن يرفضها نظراً لعدم إقتصار إخفاقات مدير التلفزيون القومي على الجانب المهني وإنما إمتد قصوره لأداء مهمامه حينما تغييب التلفزيون القومي عن النقل المباشر للمؤتمر الصحفي لرئيس الوزراء مع وزير الخارجية الألماني بعذر أقبح من الذنب (بأن التلفزيون لم تتم دعوته لهذه الفعالية !!) في حين قامت بنقل المؤتمر الصحفي القنوات الفضائية الأجنبية !!
من المهم الإشارة إلي أن مدير التلفزيون القومي سعى منذ التوقيع على الإعلان السياسي والوثيقة الدستورية لتقديم نفسه بـ(نيولوك جديد) ليضمن له الإستمرار في موقعه، إلا أن الذاكرة الشعبية لن تنسي له أبد الدهر سمه الزعاف الذي بثه في أقسي اللحظات عبر شاشة التلفزيون القومي ودماء شهداء جريمة فض إعتصام القيادة العامة لم يجف بعد في مسخه الذي أطلق عليه (خفافيش الظلام) والذي إبتهجت خاتمته بـ"إنقشاع ليالي الظلاميين وسقوط القناع عن وجههم القبيح ورد كيدهم في نحرهم وتحرر الخرطوم من خفافيش الظلام ونفث خبثها" !! لم يكن ذاك التحرير يومها إلا جريمة فض إعتصام القيادة العامة وما رُد ذاك الكيد للنحور إلا بدماء شهداء وجرحي تلك الجريمة، !! فكيف يريد من السودانيين والسودانيات أن ينسوا ..؟!!
لكل ذلك ما سبق لا أعتقد أن وزير الإعلام فشل في إمتحانه الأول مما يجعله مرشحاً لمغادرة مقعده الوزاري خاصة أن القضية المرتبطة بإقالة مدير التلفزيون القومي إتخذ حيالها أقصي ما هو متاح بالتوصية لرئيس الحكومة بإقالته من منصبه بإعتباره مطلب شعبي عاجل ومهم يجب تحقيقه.
بالنسبة لصاحب كرسي (المدير) بالتلفزيون القومي ففي تقديري بأنه لم يترك شيئاً يشفع له أو يؤهله للإستمرار في موقعه الذي شغله منذ يونيو الماضي مهنياً أو عملياً وهو ما سيقوده صوب باب الخروج وإنتظار حكم التاريخ علي فترته تلك وأبرز إنجازاتها خلالها وعلى رأسها بثه لمسخ (خفافيش الظلام) !!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
شوقى الفقس
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست