في سنوات المراهقة الباكرة، و قبل أن يستقر صوتي على نبرته الراهنة، كنت أجيد تقليد الأصوات، كل الأصوات: بشر، حيوانات، ظواهر طبيعيّة و مطربين، ثم رويداً رويداً، تخصصتُ في تقليد الفنانين، و الفنانين الكبار فقط، و كنت إذا ما استحممت أقضي وقتاً طويلاً، ليس للإستمتاع بالماء الدافيء شتاء و المنعش صيفاً وحده، و إنما لأنني كنت استمتع بالغناء اثناء الاستحمام! و عندما أشهق من برودة الماء في الشتاء، يكون ذلك خصماً على جودة الأغنيّة، التي كنت ابتدرت غنائها فور قراري الإستحمام، و كان غنائي يجذب اليه شباب البيت، بيد أنّهُ كان مزعجاً للوالد و الجيران... و اتاحت لي الجمعيّة الإدبيّة في المدارس و الجمعيات الثقافيّة في الجامعة فرصة الغناء شبه المحترف، ضمن الكورالات (الجوقات الموسيقية)... و عندما علم الوالد ببعض تلك الأنشطة، حاول، بموجب قرارات وديّة و تعليقات ساخرة، أن يدفعني للإقلاع عن الغناء، و لكن بلا طائل... و لكنه منعني بصرامة، و قد دق ناقوس الخطر بين جوانحه، و كان هذا لحظة إعلاني بأني قد انتويت: احتراف الغناء!... و صار الآن موقفُه نهائياً و مكشُوفاً: لا غناء!... لا في الحمّام، و لا خارجِهِ. و ادَّعي انه: (لا يحب سماع الأغاني!)، و دخل في جدال و سجال، و أورد آراء، ليست من الصَّواب في شيء، و ما أنزل الله بها من سُلطان ، تقلل من شأن الغناء و ضُرُوب الفن الأخرى كلها في الحياة العامة، و كانت مغالطاته، التي تهدف، فقط، لإثنائي عن عزمي، فجَّة و مُضحكة، و لكنها، في نهاية المطاف، افلحت في ازاحتى عن دنيا الغناء و الطرب، و تراجعت قدرتي على التقليد، و صار صوتي يابساً تنقصه المرونة بسبب ركود حبال الصوت و خمولها. و الآن، أطمأن الوالد لإن ابتعادي عن دنيا الفن بات مسلماً به، بعد خمسة عشر عاماً من التوقف عن ترديد الألجان الشجيّة، و بروز هوايات جديدة، عندها فقط باح لي برغبته في امتلاك مكتبه صوتية، قوامها: أغنيات حقيبة الفن، و قال إنه يحب بشكل خاص أغنيتي: قايد الأسطول و ينوحِن لي حماماتن و يحفظهما عن ظهر قلب! و لكنه لم يكتفي بالقول، فقط، و إنما تغنَّى لإبراهيم عبد الجليل، برغم الصوت الواهن، بطلاوة و حلاوة زينت أمسية استثنائية: بحق!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة