كتابات الثورة-خرائطيّو «حرب العصابات» السلميّون يعيدون رسم مدينتهم-عمّار جمال كاتب سوداني

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 11:11 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2019م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-24-2019, 04:46 PM

زهير عثمان حمد
<aزهير عثمان حمد
تاريخ التسجيل: 08-07-2006
مجموع المشاركات: 8273

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
كتابات الثورة-خرائطيّو «حرب العصابات» السلميّون يعيدون رسم مدينتهم-عمّار جمال كاتب سوداني

    03:46 PM December, 24 2019

    سودانيز اون لاين
    زهير عثمان حمد-السودان الخرطوم
    مكتبتى
    رابط مختصر




    منذ بروزها إلى العلن في كانون الأوّل / ديسمبر ٢٠١٨، وخلال مسيرتها الباهرة، كانت الثورة السودانيّة تجلب إلى ذهني عبارة دولوز في وصف فوكو: «هناك خرائطيٌّ جديدٌ في المدينة». فقد اتّخدتْ ثورتنا من المكان عنصرَها الأصيل. ابتهاجٌ بالمكان، إعادة تشكيله، تحديده وترسيمه، قفله جزئيّاً أو كلّيّاً وفقاً لضرورة الحراك (ربّما كانت كلمة حراك أكثر نبلاً في وصف شعراء الفضاء هؤلاء).

    تمثّلتْ بهجة المكان الأولى بتاريخ ١٩ كانون الأوّل / ديسمبر ٢٠١٨ في المقاطع البصريّة التي تبيّن حريق دار الحزب الحاكم في مدينة عطبرة العُمّاليّة وتحوّله إلى محض سخامٍ في جهاز السودان العصبيّ، ليَطردَ الخوفَ ويبني الأمل بإعادة بناء التضامن بعد ثلاثين عاماً من الاكتئاب الجماعيّ. تدفَّقت الإشارة في المكان وبدأت الثورة صوب اكتشاف قوّةٍ تعيد الربط بين الفعل والوجود المشترَك.

    للقيام بذلك أعاد السودانيّون اكتشاف تكتيكاتٍ تقليديّة مثل تكتيك «حرب العصابات» (Guerilla Warfare) واشتباكات المدن، ومناورات الاستنزاف، لكنْ تحت راية الثورة السلميّة. فقد كان من الصعب، إن لم يكن المستحيل، اتّخاذ سبيل المواجهة المباشرة مع النظام الذي قَتل المئات خلال انتفاضة أيلول / سبتمبر ٢٠١٣، وزجّ بالآلاف في معتقلات النظام سيّئة الصّيت المعروفة بوسائل تعذيبها الفانتازيّة. لكنْ في الوقت عينه كانت «سبتمبر» فرصةً لتطوير لجان مقاومة الأحياء التي ستلعب الدور الفعّال في «ثورة #تسقط-بس» بعد ستّ سنوات.

    في كتابهما المشترك «إعلان» (Declaration)، رسَمَ الماركسيّان أنتونيو نيغري ومايكل هارتْ السِّمات والخصائصَ المشتركة لدورة نضالات العام ٢٠١١ التي بدأت في تونس ثمّ مصر، وانتشرتْ حتى ميادين عواصم الدول الغربيّة:

    «تتشارك هذه الحركات في سلسلةٍ من الخصائص، أبرزُها استراتيجيّة التخييم أو الاحتلال. قبل عقْدٍ من الزمان كانت حركات العولمة البديلة ذاتَ طبيعة بدويّة مترحّلة، تهاجر من اجتماعِ قمّةٍ إلى آخر، لتكشف الطبيعة المعادية للديمقراطيّة وممارسات مؤسّسات نظام القوّة العالميّ الظالمة: منظمة التجارة العالميّة، صندوق النقد الدوليّ، البنك الدوليّ، والزعماء الوطنيّين لمجموعة الثماني، وغيرها. على النقيض من ذلك كانتْ دورة النضالات التي بدأت في عام ٢٠١١ ذاتَ طبيعةٍ مستقرّة. بدلاً من التجوال وفقاً لجدول اجتماعات القمّة، تظلّ هذه الحركات قائمةً في موقعها، بل وترفض التحرّك. ترجع لا تحرُّكيّة حركتها جزئيّاً إلى حقيقةِ أنّهم متجذّرون في القضايا الاجتماعيّة المحلّيّة والوطنيّة».

    أسلوب جدول المسارات

    منذ بدايتها رسمتْ ثورة «تسقط بس» أسلوباً جديداً يخصّها، نابعاً من خبرة شابّات السودان وشبّانه الطويلة في مقاومة نظام عمر البشير، بأيديولوجيّته الإسلاميّة القمعيّة، لكنّه في اللحظة ذاتها أسلوبٌ تجريبيّ، براغماتيّ، مفتوح النهايات، أسلوبٌ يمكن التعبير عنه بعبارةٍ واحدة: جدول المسارات.

    تحوّلتْ كلمة الجدول (ti####ble) إلى تعويذةِ الثورة الأساسيّة التي يردّدها الثوّار بنشوةٍ طفوليّةٍ نيتشويّة: («الجدول مَرَق»، «بكرة الموكب، بكرة الموكب» وغيرها). بتاريخ ٢٥ كانون الأوّل / ديسمبر ٢٠١٨ خرجَ بيانٌ موقَّعٌ باسم «تجمّع المهنيّين السودانيّين» يدعو الناسَ إلى مليونيّةٍ صَوب القصر الجمهوريّ تدعو الرئيس إلى التنحّي وتسليم السلطة إلى حكومةٍ مدنيّة. ومع أنّ الموكبَ لم يحقّق غايتَه، فقد وضَعَ الأساس لعلاقةٍ تتّسم بشاعريةٍ ثوريّة بين التجمّع والثوار. ولأنّ أعضاء «التجمّع» كانوا مجهولين بالنسبة للجميع، بمن فيهم قوى النظام ومليشياتُه القمعيّة، فإنّ الرابطَ بين قوّة الفعل والوجود المشترك كانتْ تقوم فقط عن طريق البيانات والإعلانات. يكفي أنْ يَصدر بيانٌ على صفحات التجمّع على مواقع التواصل الاجتماعي يحدّد المواقيتَ والمساراتِ لتتدفّق عشراتُ الآلاف في الزمان والفضاء المعلومَين. لقد انكسر الخوف، لكنّ الأهمّ من ذلك أنّ التجميعات (assemblages) الجديدة بدأتْ في التشكّل.

    لأربعة أشهرٍ متتالية، يوماً وراء يوم، خرجت السودانيّات والسودانيّون في مواكبَ سلميّة متواصلة في جميع أرجاء البلاد، مواكب تأتي دعواتُها عبْر بيانات «تجمّع المهنيّين» تحدّد جداول المكان، والزمان، والشعار. التزم «الجمعُ المتعدّد» (multitude) بالجداول كثيراً، وخانوه أكثر (الخيانة اسمٌ آخرُ للحرّيّة مثلما نبّهنا دولوز). جاءت الخيانة من الأجسام الأكثر غموضاً، «لجان مقاومة الأحياء» التي مثّلتْ ميكروفيزياء الحراك السلميّ. كلّما خرج بيانٌ لـ«التجمّع» يحدّد أحياء معيَّنة للخروج في تاريخٍ معيَّن، إذا أحياء أخرى تخرج في خيانةٍ واضحة للجدول. فيتحوّل الأمر في آخر المطاف إلى وجود أحياءٍ بعينها (حيّ بُرّي، مثلاً) تمرَّست في إخلاصها المعتاد للخيانة. وممّا يجب ذكره هنا أنّ «لجان المقاومة» هذه قد استندتْ إلى منظومةٍ للقيَم السودانيّة قائمة على التشاركيّة، وفتْح البيوت للجميع، وحماية الملهوف. هي منظومةٌ كثيراً ما عملتْ في السابق كفانتازمٍ كاذب، قبل أن تحوّلها الثورةُ إلى روح الثقة والتضامن. انتقلت الثورة إلى أصغر حيّز، إلى البيوت، وإلى الأسرة، ووجدان الآباء والأمّهات.

    إعادة رسم المدينة

    يمكن القولُ إنّ الجسم الأفقيّ اللامركزيّ الغامضَ لـ«تجمّع المهنيّين» قد استند إلى إخلاصِ «لجان المقاومة» للخيانة، تغذّيها منظومةُ قيَم تضامنٍ ينخرط فيها الجميع. إنّها واحدةٌ من اللحظات النادرة لاكتمال البراكسيس الثوريّ في تاريخنا البشريّ.

    أعاد خرائطيّو الثورة هؤلاءِ رسمَ مدينتهم. لم يعدْ معمار الخرطوم يشبه سابقه. أصبحتْ مدينةً جديدة الهيئة، فقد انتصبت المتاريسُ الشاهقة، تلوّنت الجداريّاتُ بالغرافيتي الثوريّ (كثيرٌ منه يشبه رسومات الأطفال والمجانين)، أغلقت الكباري التي تعبُر النيل بين أحياء العاصمة، والطرق التي تربط العاصمة بالولايات، والولايات بالولايات. لكنّ علينا التأكيد هنا على خصيصة طريفة: في كثيرٍ من الأحيان تلازَمَ خلوّ الشوارع من الناس مع استمرار الثورة. ما أن يُشعل الثوّار الإطاراتِ ويرفعون المتاريس في أزقّة الأحياء الضيّقة وشوارعها حتى يهجمَ رجال الأمن والشرطة بسيّاراتهم رُباعيّة الدفع. ينسحب الثوّار داخل البيوت، يصعدون أسقف البيوت، ويصوّرون مقاطع فيديو تبيّن بَلادة وغباء سقوط السيّارات في الفخاخ المنصوبة، فيما تقهقه المؤثّرات الصوتيّة للأطفال والنساء والثوار (التي كثيراً ما بكتْ أيضاً بحرقةٍ تقطع القلب). هذه المدينة التي أعيد تخريطها بعنايةٍ لا يعلم مساراتِها إلّا الثوّار.

    تعلن هذه الاستراتيجيّةُ عن مبدأ يقول إنّ الثورة مستمرّة، وإنّ اعادة بناء التضامن مشوارٌ ليس سهلاً، لكنّه مع ذلك مشوارٌ ممتع، وإنّ ليس من برنامجٍ ثوريّ خارج التجريب والممارسة والصيرورة - الثوريّة. من خلال التجريبيّة البراغماتيّة اكتشف ثوّارُ السودان ضعف خصمهم. كانتْ مليشيات النظام ملثَّمة الوجه تتساقط واحدةً تلو الأخرى في أزقّة المدينة الجديدة المجهولة بالنسبة لهم. كلّما ارتدَوا قناعاً يُخفي وجوههم، ارتدت المدينة خريطةً جديدة وهي تهتف «سلميّة يا خرطوم».

    نجادل هنا أنّ ثوريّي «حرب العصابات» السلميّين هؤلاء أنجزوا ثورةً تتّسم بخصيصةٍ فريدة داخلَ دورات النضال العالميّ التي بدأتْ في عقد القرن الواحد والعشرين. لكنّ علينا الحذر هنا. فبطريقةٍ ما تُعتبر الثورةُ السودانيّة استمراراً لصيرورة نداءٍ مستمرّةٍ ومتنوّعة بدأتْ من قبل، انطلقتْ مسبّباتُها من مأساةٍ محلّيّة لجشع رأس المال العالميّ، والتَّجاور النجس للكمبرادور القمعيّ مع ديمقراطيّاتٍ غربيّة يربطهما إعلانٌ للحقوق العالميّة تجريديٌّ في تصوّره لمفهوم الإنسان. لكنْ في نفس الوقت، يبيّن العملُ الميدانيّ أنّ الصورة - فعلٌ لثورة «تسقط بس» ذات فرادة استراتيجيّة تبتعد عن تمييز نيغري وهارتْ بين نزعتَي الثورة التي وسمتْ القرنَ الواحد والعشرين. لم تكن «تسقط بس» نومادولوجيّةً (ترحاليّة) تشبه مؤتمرات بورتو أليغري، كما لم تكن مستقرّةً مثل ميدان التحرير. في انتشار أقلمتِها وإعادة أقلمتها اليوميّ في «اضربْ واهربْ»، تشابهت الثورة السودانيّة أكثر مع استراتيجيّات حركات تحرير منتصَف القرن العشرين، ومع «متاريس» حروب عصابات حركات الطلبة والعمّال وكارتيلات المخدّرات في ستينيّاتها، وتكتيك تحرير الجزائر الاستنزافيّ. ما يجمع هذه النماذجَ ويموضعها في الحالة السودانيّة هو الخريطة، وهو المسار








                  

12-24-2019, 04:54 PM

زهير عثمان حمد
<aزهير عثمان حمد
تاريخ التسجيل: 08-07-2006
مجموع المشاركات: 8273

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كتابات الثورة-خرائطيّو «حرب العصابات» ال� (Re: زهير عثمان حمد)

    قوى الاحتجاج وقوى الرِّدّة-مجدي الجزولي
    السودان: عظمة الثورة السِلمية وحدودها
    لم تغيّر إطاحةُ عمر البشير واستيلاءُ الجيش على زمام الأمور شيئاً لإقناع المحتجّين السودانيين بالعودة إلى ديارهم أو كبْح دعوتهم لتغيير النظام. استمرت حشود المحتجّين في التظاهر رافضةً تحرُّك الجيش باعتباره انقلاباً للنظام، ومطالبةً بتسليم السلطة إلى حكومة انتقاليّةٍ مدنيّة. في حين أنّ مستقبل المرحلة الانتقاليّة لا يزال غامضاً (حتى بعد التوقيع على الاتفاق بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير) في خضمّ البحثٍ عن بديلٍ ديمقراطيٍّ يستجيب لمطالب ومكوّنات المجتمع السودانيّ، من المهمّ فحصُ نشأة القوى الاحتجاجيّة التي هزّت البلاد خلال الأشهر الأربعة الماضية والمراحل المختلفة لتطوّرها.

    «ما هو تجمّع المهنيّين السودانيّين على أيّ حال؟». هكذا سأل المعلّقون الحائرون ومذيعو الأخبار على القنوات التلفزيونيّة المتحالفة مع الحكومة السودانيّة مراراً، كما لو كانوا مقيَّدين بلعنة. وفي هذا المجال، وصف مذيعٌ في إذاعة «بي بي سي العربيّة» تجمّعَ المهنيّين السودانيّين بأنّه «غامضٌ ومحيّر». وبدأ الجميع يسأل عن تلك الهيئة التي يبدو أنّها غيرُ مفهومة، والتي أخذت المشهد السياسيّ السودانيّ على حين غَرّة منذ كانون الأوّل / ديسمبر ٢٠١٨، عندما بدأت الموجة المستمرّة من الاحتجاجات الشعبيّة ضدّ الحكم الاستبداديّ الذي امتدّ لثلاثين عاماً تحت حكم الرئيس البشير في بلدات السودان الإقليميّة.

    جاءتْ شرارة الاحتجاجات الأوّليّة من عطبرة - وهي بلدةٌ مغبرّةٌ تقع بين النيل والصحراء على بعد حوالي ٣٥٠ كيلومتراً شمال الخرطوم - حيث احتدم حشدٌ من التلاميذ في المدارس والعاملين في السوق وطلّاب الجامعات ضّد الحكومة، ردّاً على مضاعفة سعر الخبز بشكل مفاجئٍ ثلاث مرّاتٍ نتيجةً لإزالةَ الدعم عن القمح. وقام المحتجّون في بلدات السودان الإقليميّة - عطبرة ودنقلا على النيل في شمال السودان، والقضارف في وسط السودان، والرهد والنهود في إقليم كردفان غرب السودان - بإشعال النار في مقارّ حزب المؤتمر الوطنيّ الحاكم، واقتحموا مكاتب الحكومة المحلّيّة وكذلك مخازن غرفة الزكاة، واستولَوا على موادّ غذائيّة في استعراضٍ للسيادة الشعبيّة.

    البداية… أيلول / سبتمبر ٢٠١٣

    منذ استقلال جنوب السودان في عام ٢٠١١، كان السودان في حالةٍ من الركود الاقتصاديّ، حيث أخذ الجنوب معه الجزءَ الأكبرَ من النفط، وتلاشتْ عائدات الحكومة بين عشيّةٍ وضحاها تقريباً. لقد تسبّب انخفاض قيمة العملة والتضخّم المفرط وتراجع احتياطيّات العملات الأجنبيّة، مع خروج أسعار السلع عن السيطرة، وأزمةٍ مصرفية مع نقصٍ حادٍّ في المعروض من النقد، في أزمةٍ اقتصاديّةٍ شديدة. وكان ردُّ الحكومة إطلاقَ العنان لجولةٍ جديدةٍ من تدابير التقشّف، وخَفْض النفقات في مجال الخدمات الاجتماعيّة، وتقليص الدعم على الوقود والكهرباء والقمح. عندما اندلعت الاحتجاجاتُ الشعبيّة وحركات التمرّد ضدّ الأنظمة الاستبداديّة الراسخة في العالم العربيّ في عام ٢٠١١، كان السودان يُستهلَك في عمليّةِ انفصال جنوب السودان تحت الإشراف الدوليّ. كانتْ سياسة الانفصال معقّدة كما يُتوقّع، وانتهتْ بتجديد الحرب في منطقة الحدود مع جنوب السودان. استؤنفت التمرّداتُ المحلّيّة في ولايتَي جنوب كردفان والنيل الأزرق بعد فترةٍ قصيرةٍ من السلام، وسرعان ما غزَت حربٌ أهليّةٌ جنوب السودان المستقلّ، حيث تنافستْ كلٌّ من العاصمتَين، الخرطوم وجوبا، لبسْط نفوذ الواحدة منهما على الأخرى.

    تضمّنتْ أوّل ميزانيّةٍ للسودان بعد الانفصال مجموعةً كبيرةً من تدابير التقشّف. وفي أيلول / سبتمبر ٢٠١٣، واجهت الحكومةُ سلسلةً من أعمال الشغب في الخرطوم كردٍّ على ارتفاع أسعار الوقود والخبز. وكان الردّ بوحشيّةٍ ساحقة، فقُتل ما لا يقلّ عن ١٨٥ متظاهراً في الأحداث (منظّمة العفو الدوليّة والمركز الأفريقيّ لدراسات العدالة والسلام، ٢٠١٤).

    وإذا نظرنا اليوم إلى أحداث أيلول / سبتمبر ٢٠١٣، سنجد أنّها كانت مقدّمةً للموجة الحاليّة من الاحتجاجات الشعبيّة ضدّ حكومة الرئيس البشير. لقد تجنّب الجيل الجديد من المتظاهرين، ومعظمهم من الطلاب والمهنيّين الشباب، البُنى الهرميّة للأحزاب السياسيّة القائمة، وقاموا بتكوين شبكاتهم الأفقيّة المتسلّحة بشبكة الإنترنت. وبدلاً من القادة المعروفين، أضفتْ مجموعاتٌ مثل «قرفنا» و«شرارة» و«التغيير الآن» على احتجاجات أيلول / سبتمبر ٢٠١٣، التي لم يكن لها رأسٌ مدبّر، أصواتاً عاليةً وصوَراً مؤثّرة انتشرتْ عالميّاً عبْر الإنترنت.

    الإسلاميّون والنيوليبراليّة

    في ذلك الوقت، أنكر الرئيسُ البشير أنّ حمّى «الربيع العربيّ» قد وصلتْ إلى بلاده، وقال إنّ السودان قد تجاوز تلك المرحلة بالفعل. وبطريقةٍ ما، كان على حقّ. إذ يمكن القولُ بأنّ لحظةَ الربيع العربيّ في السودان كانت انتفاضةَ نيسان / أبريل ١٩٨٥، التي أفضتْ إلى انقلابٍ عسكريٍّ أنهى ١٦ عاماً من الحكم الديكتاتوريّ للرئيس جعفر النميري، ومهّد لمرحلةٍ قصيرةٍ من الديمقراطيّة البرلمانية (١٩٨٦ - ١٩٨٩).

    تحوّلَ النميري، وهو مستبدٌّ على غرار عبد الناصر، في ولائه من الكتلة الشيوعيّة إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، ليصبح رجلَ واشنطن في القرن الأفريقيّ. وبعد تراكم الديون الهائل من جرّاء المشاريع التنمويّة الفاشلة التي تقودها الدولة، اضطرّتْ حكومتُه إلى تنفيذ مجموعةٍ من «الإصلاحات الاقتصاديّة» التي صمّمها صندوقُ النقد الدوليّ لتحرير الاقتصاد وتخفيض النفقات الحكوميّة على نحوٍ كبير. تضمّنتْ هذه «الإصلاحاتُ» جميعَ الوصفات المألوفة للنّموذج النيوليبراليّ: تخفيض قيمة العملة وخفض الإعانات وخصخصة المؤسّسات العامّة وخفْض الإنفاق الاجتماعيّ (غوردون، ١٩٩١).

    لكنّ الرئيس النميري لم ينجُ من إصلاحات صندوق النقد الدوليّ، فأدّى الغضبُ الشعبيّ من التقشّف في الخرطوم - المدينة المتوتّرة بسبب تدفّق المهاجرين الريفيّين الفارّين من الحرب في جنوب السودان ومن المجاعة في غرب السودان - إلى إنهاء حكمه بعد أسبوعين من الاحتجاجات الضخمة في أبريل / نيسان ١٩٨٥. وكان السادات قد تمكّنَ في مصر من سحْق أعمال الشغب التي اندلعتْ في عام ١٩٧٧ ضدّ نسخة التقشّف الخاصّة به والفوز بتأييد الإسلاميّين، وإنْ كان الفترةٍ وجيزةٍ فقط. إذ لقيَ الساداتُ، وهو الحليف الإقليميُّ الرئيسيّ للنميري، مصرعَه على أيدي الإسلاميّين أنفسِهم الذين سعى إليهم من أجل ترويض الجماهير المعارِضة لنموذجه الاقتصاديّ. في السودان، أقام النميري تحالفاً مماثلاً مع الحركة الإسلاميّة بقيادة حَسن الترابي.

    على عكس مصر واغتيال السادات، فضّل الإسلاميّون السودانيّون السلطة على الجنّة، فاستغلّوا تحالفهم مع النميري لتنمية جيلٍ جديدٍ من الكوادر المتعلّمة الطموحة - معظمها من بلدات المحافظات السودانيّة - في مؤسّسات الدولة انتظاراً للّحظة المواتية للاستيلاء على السلطة. لقد وفّر الوعد بنهضةٍ إسلاميّة لهذه الطبقة الوسطى الطموحة قواعدَ سياسيّةً جديدة لمعارضة الطبقات الحاكمة في السودان. وفي النهاية، فازت الحركةُ الإسلاميّة بالسلطة بمساعدة الجيش في عام ١٩٨٩، مما أدّى إلى مزيج من الاستبداد والإسلامويّة.

    وبينما تحوّلت الحركات الإسلاميّة في بلدان «الربيع العربي»، بعد ثلاثة عقود، إلى حواملَ لمعارضة الحكم الاستبداديّ والغضب المدينيّ الظاهر ضدّ التحوّل النيوليبراليّ (جويا، ٢٠١١)، نفّذ الإسلاميّون السودانيّون في الحكومة «الإصلاحاتِ» ذاتَها التي لم يستطع النميري أن ينفّذها سياسيّاً. كان تفسير الإسلاميّين السودانيّين للدولة مطابقاً تماماً للنّموذج النيوليبرالي (مارشال وأخرين، ٢٠١٠). وعملت الدولةُ التي أعادوا صياغتَها كمحرّكٍ للخصخصة والتحرّر الاقتصاديّ، الذي ينظّم النشاط الاقتصاديَّ بما يتوافق مع مصالح الشركات الكبرى ويعزّز ثقافة الاستهلاك والمنافسة، ويكافئ الفائزين القلائل، ويُحكم قبضته على الخاسرين الكثر من خلال مزيجٍ من التشريعات التأديبيّة والقوّة الغاشمة.

    على مدار الثلاثين سنةً الخالية، جاءتْ معارضة حكم الإسلاميّين السودانيّين من جهتَين متوقَّعتين: الطبقة الحاكمة القديمة التي أطاحتْها سيطرةُ الإسلاميّين، والحركات المسلّحة في أطراف السودان - جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور. الأولى تتْبع سياسةً فاشلة تقضي بالعودة إلى نظام الحكم الأرستقراطيّ القديم، الذي تآكلتْ أسسُه الاجتماعيّة والاقتصاديّة منذ زمنٍ طويل. أمّا الثانيةُ فقدْ أُجهضتْ محاولاتُها المتكرّرة لتشكيل تحالفٍ عريضٍ يضمّ شعوبَ السودان المهمَّشة غير الناطقة بالعربيّة، بهدف رفع نظام الامتياز العنصريّ والاجتماعيّ الذي يحافظ على هيمنة النخبة المتمركزة حول النهر في قلب البلاد.

    تَمثّلَ ردُّ الإسلاميّين على هذا التحدّي المزدوج في سياسة استقطابٍ ناجحةٍ إلى حدٍّ كبير، بدمج عناصر النخبة، سواءٌ من الأحزاب القديمة أو تلك الآتية من الأطراف، في الطبقة الحاكمة. وكانتْ مقتضيات الحكومة والسياسة الواقعيّة لمواجهة الصعاب الإقليميّة والدوليّة من العوامل الرئيسيّة في تخلّي الرئيس البشير عن الحماسة الإيديولوجيّة للنهضة الإسلاميّة لصالح نهج براغماتيّ. حتّى إنّه استغنى عن قائد الحركة الإسلاميّة المخضْرم حسن الترابي وعن أبرز السياسيّين فيها تباعاً من أجل تأمين هذا التحوّل.

    نداء التعبئة: «الحريّة والسلام والعدالة»

    بالنسبة إلى الشبّان والشابّات الذين احتجوا في شوارع السودان ولا يزالون، وهم في غالبيّتهم من المهنيّين أو الطلّاب من الطبقة الوسطى، يظلّ الإسلام السياسيّ أيديولوجيّةَ العدوّ الموجود في السلطة. إنّه «الكوز» - وهي لفظة عربيّةٌ يستخدمها السودانيّون كنايةً عن طمع الإسلاميّين وجشعهم، وتعني المجرفةَ الكبيرة - الذين يريدون القضاء عليه. ويواجه المتظاهرون السودانيّون تحدّي استحداث قواعد سياسيّة بديلة للتعبير عن مَطالبهم، بعدما سُلبوا القوّةَ الأخلاقيّة والإيديولوجيّة لـ«الإسلام» باعتباره تعبيراً معارضاً، بسبب إفلاس المشروع الإسلاميّ في الحكومة.

    حتى الآن، تتمحور مطالب المتظاهرين وشعاراتُهم حول «الحرّيّة والسلام والعدالة». وغالباً ما يشير مُنتقدوهم في وسائل الإعلام الحكوميّة إلى عدم وضوح تلك الرؤية السياسيّة، مطالِبين إيّاهم بطرح برنامج حُكم بعيداً عن الشعارات الجذّابة.

    أنّ أحد أسباب نجاح تجمّع المهنيّين السودانيّين باعتباره وسيلةً للتعبئة السياسيّة ضدّ حكومة الرئيس البشير، هو براءتُه السياسيّة المتصوَّرة كما كانت. فالشبّان والشابّات الذين يستجيبون لدعوات تجمّع المهنيّين السودانيّين إنّما يفعلون ذلك لأنّه يعكس غضبَهم ضدّ الفساد الراسخ والمحسوبيّة وعدم الكفاءة، وكذلك سخطَهم على إخفاقات الطبقة السياسيّة عموماً، سواءٌ أكانتْ في الحكومة أم في المعارضة.والحالُ أنّ أحد أسباب نجاح تجمّع المهنيّين السودانيّين باعتباره وسيلةً للتعبئة السياسيّة ضدّ حكومة الرئيس البشير، هو براءتُه السياسيّة المتصوَّرة كما كانت. فالشبّان والشابّات الذين يستجيبون لدعوات تجمّع المهنيّين السودانيّين إنّما يفعلون ذلك لأنّه يعكس غضبَهم ضدّ الفساد الراسخ والمحسوبيّة وعدم الكفاءة، وكذلك سخطَهم على إخفاقات الطبقة السياسيّة عموماً، سواءٌ أكانتْ في الحكومة أم في المعارضة. ولا يتبنّى تجمّعُ المهنيّين السودانيّين، كمنظّمة، تَوّجهاً سياسيّا قائماً بذاته، بل يتحدّث بلغةٍ وظيفيّةٍ عالميّة من الحرّيّات والحقوق التي يستحقّها كلُّ مواطن، ويَعد بالخَلاص من براثن الاستبداد. ومن المفارقة أنّ الخطابَ الذي يستخدمه التجمّع من أجل التعبئة مستلٌّ إلى حدٍّ كبيرٍ من التراث القوميّ لـ«الأفنديّة» السودانيّين، القائمِ على أيديولوجيّة العمل لطبقةٍ ضيّقةٍ من السودانيّين المتعلّمين، ومعظمُهم من المسلمين الناطقين بالعربيّة ومن حوض النهر، الذين خَدموا ككتبةٍ وإداريّين صغارٍ تحت الحكم الاستعماريّ الأنغلو - مصريّ، ومن ثَمّ وَرثوا تلك الدولةَ الاستعماريّة (Sharkey ، ٢٠٠٧).

    يمكن تفسيرُ هذا الاستخدام المعاصر للُغة «مؤتمر الخرّيجين» القوميّة القديمة على أنّه مناورةٌ خطابيّة، تهدف إلى إحياء فكرة التماسك الوطنيّ من الماضي المتخيَّل. إلّا أنّ هذه القوميّةَ الشعريّة، لكن الضيّقة، لطبقة الأفنديّة هي بالضّبط التي فشلتْ في تخيُّل موئلٍ سياسيٍّ لكثيرٍ من شعوب السودان، وهي التي تتحمّل المسؤوليّةَ عن سقوط السودان المعجَّل في حروبٍ أهليّة مستعِرة في أعقاب الخَلاص من الاستعمار (حرير وآخرون، ١٩٩٤). وفي موقفٍ مناقضٍ لفكرة الوحدة الوطنيّة العضويّة، أسّسَ العديدُ من السودانيّين المحرومين من حقوقهم، كالطبقة العاملة (سيكينغا، ٢٠١٠) والحركة النسائيّة (إبراهيم، ٢٠١٠) والقوميّات المضطهَدة (قرنق، ١٩٨٧)، نزعاتٍ قوميّةً بديلة.

    المعارضة: تنظيماتها، خلافاتها، منافساتها

    بعيداً عن التعبئة، أي التعتيم على الصراع السياسيّ من خلال تمجيد الأمّة، وهي وظيفةٌ دقيقة، حيث مكّن قوى المعارضة المتنازِعة على الدوام من ركوب موجة المشاركة السياسيّة الجماهيريّة، التي ولّدها تجمّعُ المهنيّين السودانيّين، كشركاء في التحالف. وهكذا كان تحالفا المعارضة المتنافسان في السودان، وهما «نداء السودان» و«قوى الإجماع الوطنيّ»، إضافةً إلى فصيلٍ من «الحزب الاتحاديّ الديمقراطيّ» المعارض لتحالف الحزب مع حزب المؤتمر الوطنيّ الحاكم، وهي الأطراف الموقِّعة على «إعلان الحرّيّة والتغيير» الذي صدر عن تجمّع المهنيّين السودانيّين.

    تمّ إطلاقُ «تحالف نداء السودان» في عام ٢٠١٤ في أديس أبابا، كمنصّةِ معارَضةٍ جمعتْ حزب الأمّة، الذي ينتمي إليه صادق المهدي، وغيرِه من الفصائل السياسيّة غير المسلّحة مع الحركات المسلّحة لـ«الجبهة الثوريّة السودانيّة». كان الغرض الأساسيُّ من التحالف هو إظهار وحدة الهدف في عمليّة الوساطة التي تقودها «لجنة الاتّحاد الأفريقيّ التنفيذيّة رفيعة المستوى للسودان وجنوب السودان» (AUHIP) بين الحكومة السودانيّة والعديد من المعارضين. تأسّست «الجبهة الثوريّة السودانيّة» (SRF) في عام ٢٠١١ وانضمّتْ إلى الحركات المسلّحة الرئيسيّة في دارفور - «جيش حركة تحرير السودان» بقيادة عبد الواحد محمد نور، و«جيش حركة تحرير السودان» بقيادة ميني ميناوي، و«حركة العدل والمساواة» و«الجيش الشعبي لتحرير السودان» في شمال السودان.

    وبحلول عام ٢٠١٤، انقسمت الجبهة الثوريّة السودانيّةُ إلى قيادتَين تقاسمتا الولاءَ بين الحركات المسلّحة في دارفور من جهة، و«الجيش الشعبي لتحرير السودان» (حركة تحرير السودان) وحلفائه من جهة أخرى. وعاني الجيش الشعبيُّ لتحرير السودان نفسُه مِن التنازع على القيادة أدّى إلى انقسامه أخيراً في عام ٢٠١٧ بين أغلبيّةٍ في جبال النوبة جنوب كردفان بقيادة عبد العزيز الحلو تتبنّى هدفاً معلَناً هو حقُّ تقرير المصير للمنطقة، وأقلّيّةٍ في النيل الأزرق بقيادة مالك أجار تتبنّى أجندةً موحَّدةً على المستوى الوطنيّ.

    لكنّ الانقساماتِ حول الاستراتيجيّة والتنافس على القيادة أثارتا الفرقةَ بين أطراف المعارضة غير المسلّحة. فافترق الصادق المهدي، زعيم حزب الأمّة، عن تحالف «قوى الإجماع الوطنيّ»، وهو تحالفٌ معارِضٌ أُطلق في عام ٢٠١٠، ضمّ إلى جانب حزب الأمّة، الحزبَ الشيوعيَّ، وحزبَ المؤتمر الشعبيّ بقيادة حسن الترابي، وحزبَ المؤتمر السودانيّ المعارض، وعدداً من المجموعات البعثيّة والناصريّة الأصغر حجماً. إذ لم يكن صادقُ المهدي راضياً عن منصبٍ تابع في «قوى الإجماع الوطنيّ» تحت رئاسة فاروق أبو عيسى، وهو سياسيٌّ مخضرَمٌ ذو ميولٍ يساريّة، فبادَرَ إلى الخروج من التحالف. وكذلك سئم حسن الترابي من شراكته مع «قوى الإجماع الوطنيّ» فانضمّ إلى عمليّة «الحوار الوطنيّ» التي أعلن عنها الرئيس البشير في عام ٢٠١٤ ليصبح شريكاً في الحكومة في نهاية المطاف.

    وبتحالفه مع الحركات المسلّحة، أصبح الصادق المهدي أخيراً رئيساً لمظلّةٍ معارِضة، هي «تحالف نداء السودان»، في آذار / مارس ٢٠١٨. ومع أنّ «قوى الإجماع الوطنيّ» كانتْ من الموقِّعين على «نداء السودان»، إلّا أنّها اتّهمت حلفاءها فيه بالخضوع لأجندة المهادَنة المدعومة دوليّاً والتي تعمل من أجل المصالحة مع الحكومة وانتقالٍ تدريجيّ، ومن ثَمّ انفصلتْ عن النداء من جديد وأعلنتْ أنّ هدفها الوحيد هو «تغيير النظام». وفي هذه الأثناء، فضّل «حزب المؤتمر السودانيّ» المعارِض الشراكة مع «نداء السودان» على «قوى الإجماع الوطنيّ».

    وفي خضمّ أزمة القيادة منذ وفاة أمينه العامّ المخضرَم محمّد إبراهيم نُقُد في العام ٢٠١٢، قام الحزب الشيوعيّ بقيادة زعيمه الجديد محمّد مختار الخطيب بتطهير العناصر التي اتّهمها باللّعب بفكرة «المهادنة» قبيل مؤتمر الحزب السادس في العام ٢٠١٦، واختار العزلة النبيلةَ على رأس «قوى الإجماع الوطنيّ».

    كيف ولماذا نجح «تجمّع المهنيّين»؟

    لا عجب إذن من أنّ ظهور تجمّع المهنيّين السودانيّين، الغامض إلى حدٍّ ما، قد قوبل باستحسانٍ شعبيٍّ في مسرح سياسيٍّ مليءٍ بالمشاحنات المستمرّة. تَمّ تأسيس التجمّع في عام ٢٠١٦ كتحالفٍ من ثلاثة أجهزةٍ مهنيّة، هي: لجنة أطبّاء السودان المركزيّة، وشبكة الصحافيّين السودانيّين، والتحالف الديمقراطيّ للمحامين. تأسّستْ «لجنة أطبّاء السودان المركزيّة» كلجنة تنسيقٍ لإضراب الأطبّاء الناجح عام ٢٠١٦، وتمّ إنشاء «شبكة الصحافيّين السودانيّين» كجهازٍ تمثيليّ للصحافيّين السودانيّين المعارِضين لـ«اتّحاد الصحافيّين السودانيّين» المتحالف مع الحكومة. أمّا «التحالف الديمقراطيّ للمحامين»، فنشأ من قائمة انتخابيّة لمحامي المعارضة الذين ينافسون بشكل دائم على قيادة «نقابة المحامين السودانيّين» المتحالفة مع الحكومة.

    في آب / أغسطس ٢٠١٨، عَقَد تجمّع المهنيّين السودانيّين مؤتمراً صحافيّاً لم يحضرْه الكثير في الخرطوم، للكشف عن دراسة حول الحدّ الأدنى للأجور على خلفية انخفاض قيمة العملة الوطنيّة وارتفاع التضخّم. وكان من بين المتحدّثين في المؤتمر الصحافيّ محمّد يوسف أحمد المصطفى، أحد الأعضاء القلائل البارزين في الشمال، من أسلاف «الجيش الشعبيّ لتحرير السودان» الذين ظلّوا بعد استقلال جنوب السودان بعيدين عن «الحركة الشعبيّة / الجيش الشعبيّ لتحرير السودان»، لكنّهم اتّخذوا خطوةً غير متوقَّعة، وهي الوقوفُ إلى جانب عبد العزيز الحلو في انقسام الجيش الشعبيّ لتحرير السودان عام ٢٠١٧. كما تحدّث محمّد ناجي الأصمّ، وهو طبيبٌ شابٌّ لديه سجلٌّ في المشاركة في الإضرابات، وينتمي إلى ذلك الفصيل من الحزب الديمقراطيّ التقدميّ الذي يعارض تحالفَه مع حزب المؤتمر الوطنيّ الحاكم. ويبدو أنّ كلا الرجليْن، المصطفى والأصمّ، لا يزالان يتحدّثان باسم تجمّع المهنيّين السودانيّين (وتعرضا للاعتقال في الفترة الأخيرة قبل الافراج عنهما).

    تقدّمَ تجمّعُ المهنيّين السودانيّين بخطّة للإعلان عن مقترحهم حول الحدّ الأدنى للأجور إلى الجمعيّة الوطنيّة في موكب جماعيّ. في غضون ذلك، اندلعت الاحتجاجات في عطبرة والقضارف وغيرهما من بلدات المحافظات التي رفعتْ سقف العمل السياسيّ، وردّ تجمّعُ المهنيّين السودانيّين بإعلانه «إعلان الحريّة والتغيير» عشيّةَ ذكرى استقلال السودان في الأوّل من كانون الثاني / يناير ٢٠١٩، داعياً مباشرة إلى السقوط غير المشروط لنظام الرئيس البشير، وتشكيل حكومة انتقاليّة وطنيّة (تجمّع المهنيّين السودانيّين، ٢٠١٩).

    لقد أسرَ «التجمّعُ» مخيّلة السودانيّين السياسيّة على شبكات التواصل الاجتماعيّ، ولعلّ نجاحه بشكل خاصٍّ في أوساط الشتات السودانيّ خيرُ مثالٍ على ذلك، حيث كان التجمّعُ بمثابة الملاذ والوسيلة بالنسبة إلى شرائح واسعة من الشابّات والشبّان الراغبين في عيش هويّتهم السياسيّة التي يحلمون بها كمواطنين سودانيّين. وبناءً عليه، شكّلَ ناشطون من مختلف المهَن - أساتذة جامعيّون، أطبّاء بيطريّون، مهندسون، مفتّشون صحّيّون، فنّانون تشكيليّون وغيرهم - جمعيّاتهم الخاصّة على غرار نموذج تجمّع المهنيّين السودانيّين، للانضمام إلى «إعلان الحريّة والتغيير».

    كان لتجمّع المهنيّين السودانيّين ميزة مزدوجة: فكان من جانبٍ مظلّةً نقابيّةً طموحة، ومن جانبٍ آخر قوّة سياسيّة. وقد أثبتتْ هذه الخاصّيّة المزدوجة نجاحها. وهو في ذلك يشبه المنظّمات السودانيّة التي سبقتْه، وتحديداً «الجبهة الوطنيّة المتّحدة»، التي قادتْ ثورة تشرين الأوّل / أكتوبر ١٩٦٤ وأنهتْ حكم الحاكم العسكريّ السابق في السودان الجنرال عبّود، و«اتّحاد نقابات العمّال» التي لعبتْ دوراً محوريّاً في انتفاضة نيسان / أبريل ١٩٨٥ التي أطاحتْ بنظام الرئيس النميري. على أنّ ثمّة اختلافاتٍ حرجةً في المحتوى تتجاوز التشابه في الشكل. فقد عملت «الجبهة الوطنيّة المتّحدة» عام ١٩٦٤ و«اتّحادُ نقابات العمّال» عام ١٩٨٥ في مجالٍ اجتماعيٍّ اقتصاديٍّ كانتْ فيه الحكومةُ هي ربّ العمل الأكبر للمهنيّين المتعلّمين الذين سعَوا إلى تحدّيها من خلال الإضراب والتعبئة الشعبيّة. وكان بمقدور كلتا المنظّمتيْن الاعتمادُ على دعم المنظّمات العماليّة الثوريّة، وفي مقدّمتها «اتّحاد عمّال السكك الحديديّة السودانيّ» المتمركز في موقع استراتيجيٍّ قادرٍ على شَلّ الاقتصاد القائم على المحاصيل النقديّة. كما كان بمقدورهما إثباتُ مزاعمهما التمثيليّة من خلال الإجراءات الانتخابيّة في النقابات والجمعيّات المهنيّة.

    لم ينجح تجمّع المهنيّين السودانيّين، بحكْم تكوينه، في التعبير عن هموم ومصاعب مزارعي الكفاف في السودان وصغار الفلّاحين والعمّال الزراعيّين، والعديد من عاملي المناجم الذين ينقّبون عن الذهب في الصحاري والوديان البعيدة، والمنتجين الصغار والفقراء في المدن.بالمقابل، تستمدّ الجهاتُ الفاعلة في تجمّع المهنيّين السودانيّين نفوذها من المهنيّين. وكان الاختراق الرأسماليّ تحت رعاية الإسلاميّين السودانيّين قد أدّى إلى تحويل سوق العمل في السودان لصالح المشاريع التجاريّة. وكنتيجةٍ لتسليع قطاعَي الصحّة والتعليم وتزايد خصخصة المشاريع العامّة في هذه القطاعات، بدأت المصالح الخاصّةُ تصطدم بأعمال الإضرابات القطاعيّة. وهكذا صار يتعيّن على العاملين في جهاز الدولة البيروقراطيّ والقطاع المصرفيّ والقطاع الصناعيّ والاتّصالات السلكيّة واللاسلكيّة تطوير منصّاتهم النقابيّة حتى يستطيعوا الانضمامَ إلى نداءات «تجمّع المهنيّين السودانيّين» المتكرّرة للإضراب العامّ. كما لم ينجح تجمّع المهنيّين السودانيّين، بحكْم تكوينه، في التعبير عن هموم ومصاعب مزارعي الكفاف في السودان وصغار الفلّاحين والعمّال الزراعيّين، والعديد من عاملي المناجم الذين ينقّبون عن الذهب في الصحاري والوديان البعيدة، والمنتجين الصغار والفقراء في المدن.

    القوی المواجهة للتّغيير؟

    والآن، في هذه اللّحظة من الأزمة الثوريّة في السودان، يجدُرُ النظر في مجموعة القوى التي تقف في وجه التغيير في البلاد، وهي تضمّ الكثير من الشخصيّات المشبوهة، من بينها رجال الأمن والضبّاطُ العسكريّون، والمليشيّات التي تمّت خصخصتها، والشركات الكبرى ومستوردو الأغذية والمصرفيّون والمموّلون، وكبارُ ملّاك الأراضي والدعاة وكبارُ البيروقراطيّين. وهم يشتركون جميعاً في مصلحةٍ واحدة، وهي المحافظة على الوضع الحاليّ. وكان من المنطقيّ أن يردّ الرئيس البشير على أسابيع من الاحتجاجات بإعلان حالة الطوارئ في ٢٢ شباط / فبراير وحلّ مجلس الوزراء واستبدال حكّام الولايات بعسكريّين وأمنيّين، وتعيين أحد أشدّ الانضباطيّين كنائبٍ لرئيس الحزب الحاكم مع سلطات الضابط الأوّل. ترْقَى هذه الخطواتُ في جوهرها إلى ترجيح ميزان القوى في المؤسّسة الحاكِمة لصالح الجهاز العسكريّ - الأمنيّ، واستقطاب شركاء جددٍ من المهنيّين المتضرّرين لشغل مناصب في الحكومة «الانتقاليّة» الجديدة.

    أدّت الاحتجاجات في السودان إلى إحياء روح «الربيع العربي» بشكلٍ مشروع، ولكنّها دفعت القوى العاتية المعادية للثورة في المنطقة إلى التحرّك المضادّ. وليس عبثاً أن أعربَ البشير في خطبه العديدة بعد اندلاع الاحتجاجات عن شكره للرئيس المصريّ عبد الفتّاح السيسي وأمير قطر حمد بن خليفة على دعمهما، إلى جانب روسيا والصين. وقد يبدو هذا المزيجُ للوهلةِ الأولى غريباً، لكنّه يعبّر عن الطابع المركَّب للنّظام السودانيّ، وهو حكْم استبداديٌّ عسكريّ نشأ عن الاستيلاء على الدولة من قبل حركة إسلاميّة حديثة تطمح إلى أن تكون نيوليبراليّة، وتوظّف أيديولوجيّةً شوفينيّة تستند إلى تفوّقٍ مزعومٍ للمسلمين الناطقين بالعربيّة على شعوب السودان الأخرى. على أنّ أعظمَ مفاجأةٍ للبشير هي حقيقة أنّ مقاومةَ حكمه تنبع من أوساط المقرّبين الذين كان يزعم أنّه يحميهم من مؤامرات المتمرّدين والقوى الخارجيّة.
                  

12-24-2019, 04:57 PM

زهير عثمان حمد
<aزهير عثمان حمد
تاريخ التسجيل: 08-07-2006
مجموع المشاركات: 8273

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كتابات الثورة-خرائطيّو «حرب العصابات» ال� (Re: زهير عثمان حمد)

    كنداكات عين الشمس-حمّور زيادة
    «يا بنات ابقو الثبات... الثورة دي ثورة بنات»

    نحن في قوى المعارضة السودانية متّحدون على قلب

    امرأة واحدة»

    (الدكتور معاوية شداد - القيادي بقوى إعلان الحريّة والتغيير ١٦ شباط / فبراير٢٠١٩)

    كان لا بد من أن تمرّ شهور أربعة، منذ منتصف كانون الأوّل / ديسمبر٢٠١٨ حتى منتصف نيسان / أبريل ٢٠١٩، ليجد الإعلام العالميّ أيقونته البصريّة التي قفزتْ بالثورة السودانيّة من ثالث أخبار النشرات أو رابعها إلى الخبر الأول.

    بمصادفة، كلقاء قطرتَي مطر، التقطت المصوّرة لانا هارون صورةً للشابّة آلاء صلاح، يوم ٨ نيسان / أبريل ٢٠١٩، وهي ترتدي ثوباً سودانيّاً أبيض، في تناغمٍ مع فعاليّة ثوريّة عُرفتْ باسم «مارس الأبيض»، وتقف على سطح سيّارة بدا وسط الحشود المتحلّقة كمنبرعالٍ لملكةٍ تخاطب مستمعيها من الجنسين.

    لم تَعد الأمور بعدها كما كانتْ. قفزت الصورة بسرعة، بسبب مواقع التواصل الاجتماعيّ، لتصبحَ رمزاً بصريّاً شهيراً للثورة. وربّما تستمرّ لعقودٍ لتخْلد بجوار صورة نيك آوت التي التقطها لفتاة حرب فيتنام، أو صورة ألفريد أيزينشتيدت لقُبلة ميدان التايمز.

    مع طوفان الصورة التي أغرقت الإعلام الدوليّ، وتحوّلت إلى رسومات غرافيتي في دولٍ عدّة، بدأ لفْظ «كنداكة» ينتشر، بارتباكٍ أوّلَ الأمر إذ ظنّ كثيرون أنّه لقب الفتاة في الصورة. في ذلك اليوم، وحدَه، أجريتُ ثلاث مقابلاتٍ تلفزيونيّة أشرح فيها تفاصيل الصورة ودَور المرأة السودانيّة في الثورة، وساعدتُ قناةً أجنبيّةً لترجمة مقاطع من الأهزوجة التي كانتْ تُلقيها آلاء صلاح. لم يَعد أحدٌ يسأل عن الثورة ومآلاتها، أصبحتْ تلك أخباراً قديمة. الكلّ يبحث الآن، بجشعٍ، عن مشاركة المرأة السودانيّة في الثورة. أصبح الجميع يريدون أن يعرفوا المزيدَ عن «الكنداكة». كان لنا صوت. والآنَ أصبح لنا صورة.

    «حوالي الثانية والنصف فجراً أو الثالثة، بدأ أصحابُنا خارجً الاعتصام يتّصلون بنا ويقولون إنّ هناك أخباراً عن محاولة فضٍّ للاعتصام هذه الليلة، وطلبوا منّا الخروج. أكيدٌ لم نختر الخروج لأنّنا ما كنّا لنفرّط في الاعتصام».

    من أقوال شاهدة عيان لقناة الجزيرة مباشر - ١٤ حزيران / يونيو٢٠١٩

    منذ اندلعت الثورة السودانيّة في ١٣ كانون الأوّل / ديسمبر ٢٠١٩، وحتى لحظةِ كتابة هذا المقال لم تخفتْ مشاركة المرأة الفاعلة فيها في كلّ المواقع. فعلى الرغم من الشائع عن دَور النساء في الاشتباكات أنْ يكنّ عبئاً على الرجال، أو يكتفينَ بالوقوف في الصفوف الخلفيّة، إلّا أنّ المرأة السودانيّة، في الاشتباكات القليلة التي وقعتْ وجهاً لوجه مع العسكر، كانت تتقدّم إلى خطوط النار فتشعلُ ذهول رفاقها.

    كانت هناك طاقةٌ من الغضب تحفز الفتياتِ، كأنّها روحٌ مسّتْهنّ. هتافهنّ كان الأكثر احتشاداً بالسخط، والتحدّي. تراكمتْ عليهنّ ثلاثون سنةً من حكْم عمر البشير كنّ دائماً مستهدفاتٍ فيها، والآنَ حان أوانُ الثأر.

    امتلأت معتَقلات النظام بالنساء. ونشطتْ ربّاتُ المنازل، اللائي كان شغْلهنّ قديماً إعدادَ الطعام وتربيةَ الصغار، في لجانِ مقاومة الأحياء لتنسيق المظاهرات، ووضع خطَط مواجهة القوّات النظاميّة.

    كجنرالات قديماتٍ نفضْنَ عن أنفسهنّ رماد المطابخ وعناء تدريس الأبناء، وشرعْنَ في وضع خطط المقاومة. طُرق سَير المظاهرات، أماكن التراجع والاختباء، أسقف البيوت المناسبة لرجم العسكر من فوقها ثمّ القفز الى غيرها بعيداً. خرجْنَ من مطابخهنّ شامخاتٍ كأنّهنّ يخرجْنَ من أكاديميّة ساندهرستْ العسكريّة الملكيّة.

    أمّا طالباتُ الجامعات فكنّ يملأنَ الشوارع الرئيسيّة بالهتاف «يا بنات ابقو الثبات... الثورة دي ثورة بنات». لقد علمنَ من أوّل يومٍ أنّها ثورتُهنّ ومسروليّتهنّ. سيكون النصر لهنّ.

    في ٢٩ نيسان / أبريل، كنتُ داخلَ غرفة إذاعة اعتصام القيادة العامّة، حين ثار شَغَبٌ مفاجئٌ وحاولتْ مجموعاتٌ غاضبةٌ اقتحامَ الإذاعة. كنّا مجموعةُ من الشبّان والشابّات. تحصّنّا داخلَ الإذاعة وأحكمنا إغلاقَ الأبواب والنوافذ بينما حاوَلَ المقتحمون تحطيم الأبواب للدّخول. كنتُ أتصبّبُ عرقاً بشكلٍ ملحوظ، حين حاولتْ إحدى الفتياتِ أن تأخذَ مكانيَ في حماية الباب. لعلّها ظنّتْني أتعرّق خوفاً فأشفقتْ عليّ. أخبرتُها، وكانت لحسن حظّي طبيبةً، أنّي أعاني من فرْط التعرّق لأسبابٍ كثيرةٍ منها ارتفاعُ ضغط الدم وانخفاض السكّر. كرّرَتْ طلبَها بتصميم. لكنّني أكّدتُ لها أنّي قادرٌ على الدفاع عن مكاني حتى اللحظة الأخيرة. لحُسن حظّنا لم تأتِ تلك اللحظةُ الأخيرة. وخرجْنا كلّنا أحياء وبلا إصاباتٍ تلك الليلةَ.

    في الليلة التالية راجَت الشائعاتُ أنّ العسكرَ قادمونَ لإزاحة المتاريس التي يحيطُ بها الثوارُ مكان الاعتصام. وبأسرعَ ما كان الخبرُ يَعدو وسْط الاعتصام، كان الثوارُ قد اعتلوا المتاريسَ يهتفون في وجه العسكر بصدورٍ عاريةٍ مستعدّة لمعانقة الرصاص.

    لمّا تجاوزتُ الحشودَ بصعوبةٍ وجدتُ صديقتي التي كانت تمشي معي وقد اختفتْ فجأةً كدخانٍ تبخّر. كانت تقف على أعلى المتاريس وتضع يَديها على وسْطِها في تحدٍّ، وتنظرُ للعسكر بازدراءٍ أمضى من رصاص المدافع الآليّة. كان العسكرُ مدجَّجينَ بالأسلحة، وكانت المتاريسُ مكلَّلةً بالثوّار والثائرات. كتفاً بكتفٍ رفعوا رؤوسهم للسماء مستعدّين لتلقّي الرصاص على قمم المتاريس ولا تفضّ. على هذه المتاريس قُتل، بعد شهرٍ من تلك الليلة، أكثر من ١٠٠ ثائر رفَضَ أن يتركَ مكانَه.

    «ليت لنا جميعاً زوجاتٍ من هذا الطراز حتى تخرجَ النساءُ مع رجالهنّ إلى القتال»

    اينوباربوس - مسرحيّة «أنطونيو وكليوباترا» لوليام شكسبير.

    يَرجعُ لقب «كنداكة» الذي اشتهر منذ نيسان / أبريل ٢٠١٩ إلى عهد الدولة المرويّة في السودان (٨٠٠ ق.م - ٣٥٠ م). يطلَق اللقبُ على «الملكة الأمّ»، في نظامٍ كان يورِّث السلطةَ عن طريق الأمّ لا الأب. فكان المُلك يورَّث من الخال إلى ابن أخته، ممّا يُعطي الملكةَ الأمَّ سلطةً واسعة، خصوصاً إذا كان الوريثُ بعدُ طفلاً. ثمّ أصبح اللقبُ يطلَق على الملِكات عموماً، حتى في حياة أزواجهنّ الملوك.

    وأشهرُ ملِكتَين كنداكتَين في تاريخ مروي هما آمانيريناس وأمانيشاخيتي. وهما جزءٌ مفقودٌ من مسرحيّات شكبير عن يوليوس قَيصر وكليوبترا، وحروب أنطونيوس وأوكتافيوس المنتصر الذي أصبح أغسطس الإمبراطورَ وسمّى شهراً في السنة على اسمه.

    حاربَت الملِكتان، على التوالي، إمبراطورَ روما المنتصِر أغسطس. واستطاعت الكنداكة آمانيشاخيتي أن تنتزعَ منه حكْم أسوان الذي فازَ به حين هزَمَ كليوباترا البطلميّةَ. وأَجبرت الكنداكةُ قيصرَ روما الفخورَ على أن يلغيَ الضريبةَ التي كان فرَضَها سابقاً على مملكتها. لذلك وقفتْ آلاء صلاح تهزج فخورةً «أنا حبّوبتي كنداكة».

    بعضُ الناشطاتِ السودانيّات كانت لديهنّ اعتراضاتٌ موضوعيّة على اللقَب. ففي رأيهنّ انَّ اللقبَ يوحي أنّهنّ نزلْنَ بغتةً من عوالمَ تاريخيّةٍ قديمة، كمومياوات مروية تمّ اكتشافُها فجأة، ولم يكنّ جزءاً أصيلاً من حراكٍ مُعارضٍ متواصل تراكَمَ منذ حزيران / يونيو ١٩٨٩حتى سُقوط النظام في ٢٠١٩. كما أنّ اللقبَ اكتسبَ زخماً جماعيّاً يُلغي فرديّةَ المرأة ليحوّلَها إلى جزءٍ من كيانٍ متوهَّمٍ هو «الكنداكات». إضافةً إلى نقطةٍ ذكيّةٍ ترى أنّ «الكنداكة» لقَبٌ ملكيّ، بينما هنّ جزءٌ من ثورةٍ شعبيّةٍ لا طبَقات فيها موجّهة ضدّ السلطة. تبدو تلك نقاطاً جدليّةً عميقةً، لكنّها خسرتْ في مواجهةِ شعبويّة اللقب واحتفاء الإعلام العالميّ به. فأصبحت الثائرةُ السودانيّة، قبلتْ ذلك أو رفضتْه، كنداكةً.

    آذار / مارس٢٠١٩ كان شهرَ النساء الثائرات بلا نزاع. ففي ذلك الشهر، احتفالاً باليوم العالميّ للمرأة قرّرَت قوى الثورة السودانيّة أنْ تعلن «مارسَ الأبيض»، شهر تَزيّي السودانيّات بالثوب الأبيض التقليديّ، في اعتزازٍ بالجذور الأفريقيّة الخاصّة للثورة.

    لم ترُق الفكرةُ حين إعلانها لكثيرين. ورأى البعضُ أنّ «الثورةَ» تقتضي قَطعَ العلائق بالماضي لا تعزيز الارتباط به. واعتبروا تزيّي النساءِ بالأبيض ردّة لثيابِ الجدّات وحقبةٌ فارقتْها المرأةُ السودانيّةُ بالبنطال الأنيق والتنانير الجميلة. لكنّ كل الاعتراضات ماتتْ على الشفاه، وذبلتْ في مواقع التواصل الاجتماعيّ حين بدأتْ صورُ الزحف الأبيض تُلقي ببتلْات الغاردينيا إلى الناس.

    تنبّه كثيرون إلى أنّ الثورةَ السودانيّة،، هي ثورةٌ جماليّة بالمقام الأوّل. هي ثورةٌ ضدّ القبْح الذي كبّلْنا به نظامَ الحركة الإسلاميّة السودانيّة لثلاثة عقود. حتّى أشدُّ النسويّات تطرفاً احتفَين بذلك البهاء والجمال الأنثويّ الذي بدتْ به الفتياتُ السودانيّات في الثياب البيضاء.كان ما رأيناه جميلاً. بل كان أجملَ ما رأينا في حياتنا. عندها تنبّه كثيرون إلى أنّ الثورةَ السودانيّة، في شهرها الثالث، هي ثورةٌ جماليّة بالمقام الأوّل. هي ثورةٌ ضدّ القبْح الذي كبّلْنا به نظامَ الحركة الإسلاميّة السودانيّة لثلاثة عقود. حتّى أشدُّ النسويّات تطرفاً احتفَين بذلك البهاء والجمال الأنثويّ الذي بدتْ به الفتياتُ السودانيّات في الثياب البيضاء. كان الفعلُ الثوريّ الرمزيّ باعثاً جماليّاً لم نعتدْه. ورغمَ افتقاره لبهرجةِ الألوان التي يظنّ المرءُ أنّها مرادفٌ الجمال، إلّا أنّ الفتياتِ السودانيّات بدَون في الثياب البيض كزهراتِ غاردينيا لا تنمو إلّا في المناطق الدافئة مثل مناخ السودان الحار بشمسه وحكْم عسكره الإسلاميّين. في ذلك الحرّ تفتَّح الجَمالُ حتى أدهشَنا. لقد انتصرت المقاومةُ الجماليّة على قُبْح النظام، بحسن الإناث في الثياب البيض.

    «أمرونا بخلع ثيابنا إن أردْنا أن نبقى على قيد الحياة. كلّ ذلك كان تحت وابلٍ من الرصاص أُطلق في الهواء لبثّ الرعب في نفوسنا، ولإرغامنا على الاستجابة. كان الاعتداء الجنسيّ بالتناوب. أجبرونا أولاً على ممارسة الجنس الفموي، وهم يصفوننا بأقذع الألفاظ، ويرددون «أليس هذا ما تردنه؟ أليس هذا ما كنتن تفعلْنه هنا؟» ثمّ بدأت الممارسة الجنسيّة. اغتصبني أكثر من شخص. بعدها فقدتُ الوعيَ ولم أستيقظْ إلّا وأنا ملقاة على الطريق، أنزف».

    من شهادة إحدى الناجيات من مذبحة فضّ اعتصام القيادة العامّة.

    منذ مجيء الدبّابات الملتحية في ٣٠ حزيران / يونيو١٩٨٩ كانت المرأةُ السودانيّة من الأهداف الرئيسيّة لنظام البشير. القوانينُ التي وُضعتْ لتقييد حركة المرأة، وزيّها، وسلوكها، وسفَرها، كانت أكثرَ من أيّ قوانينَ وُضعتْ لحظر العمل السياسيّ أو انفاذ الاقتصاد الإسلاميّ وسياسة تعريب التعليم وعسكرة المجتمع. كان مشروعُ «الحكم بالشريعة» في جوهره منصبّاً على قمعِ النساء وقهرهنّ. فمظهرهنّ هو ما يحدّد «إسلاميّة» الدولة. كانتْ عقوباتُ الجَلد تطبَّق على النساء لارتداء البنطال أو تنّورةٍ ضيّقة أو قصيرة أو كَشْف الرأس أو الجلوس مع رجل في مكانٍ خاصٍّ أو عامّ. قد تستطيع فتاةٌ أنْ تمشيَ في الطريق كاشفةً رأسَها، لكنّها بالتأكيد لنْ تستطيعَ دخولَ مكانٍ حكوميٍّ، سواءٌ جامعة أو مصلحة حكوميّة لتخليص إجراءات.

    في العام ٢٠٠٠ فاجأ عددٌ من الفتيات حكومةَ ولاية الخرطوم بعملهنّ في محطّات وقود. لم يكن خيالُ المنع عند الحركة الإسلاميّة قد وصلَ إلى هذه النقطة. فلم يكن هناك قانونٌ يمنعُ ذلك. لكنَّ واليَ الخرطوم، وقْتَها الدكتور مجذوب الخليفة، أصدر فوراً قانوناً محلّيّاً يمنع عملَ النساء في مجالاتِ خدمة الجمهور، خصوصاً الكافتريات والفنادق ومحطّات الوقود. وتحدّى الوالي، الذي رحلَ بعد سبع سنوات في حادث سيّارة، قرارَ المحكمة الدستوريّة بتعليق القانون. وقال إنّه مرتبطٌ بالقيَم والأخلاق والمجتمع الرساليّ. إثرَ ذلك، سيّرَ عددٌ من النساء مظاهرةً رافضةً لقوانينِ الخليفة ومتضامنةً مع حقّ المرأة في العمل، وتعاملتْ معهنّ الشرطةُ، كعادتِها، بعنفٍ مفرطٍ وتمّ اعتقال ٢٦ ناشطة.

    ما تلى ذلك من السنوات كان بروز مبادرة «لا لقهر النساء» كحركة نسوية قوية ناضلت لفك القيود المكبلة للمرأة. ربما لم تنجح المبادرة في كسر القيود، لكنها خلخلت حلقاتها وأوهنتها وجعلتها هشة تنتظر هبة الثورة التي تتخلق لتسقط إلى الأبد.

    - لماذا لا يوجد تمثيلٌ كافٍ للمرأة في الحكومة والتفاوُض رغم أنّها شاركتْ في الثورة؟

    - لقد أطلقْنا على المرأة السودانيّة لقب «كنداكة»، وهذا أعظمُ اعترافٍ بها (!)

    مندوبةُ بعثة حكومةِ السودان في الأمم المتّحدة، رحمة صالح العبيد، ٩ تموز / يوليو٢٠١٩.

    في ٣٠ حزيران / يونيو ٢٠١٩ دعتْ قوى إعلان الحرّيّة والتغيير السودانيّة الجماهيرَ للخروج إلى الشارع للضّغط على المجلس العسكريّ الحاكمِ لتسليم السلطة. كانت هذه الدعوةُ بعد أقلّ من شهرٍ على مذبحة فضّ اعتصام القيادة العامّة في ٣ حزيران / يونيو، وبعد أكثرَ من ٧٠ حالة اغتصابٍ موثّقة.

    لم تكنْ تلك المرّةَ الأولى التي تَستخدمُ فيها سلطةُ الحركة الإسلاميّة الاغتصابَ كسلاحٍ ضدّ النساء في السودان. فحسب التقارير الدوليّة هناك آلافُ الحالات الموثّقة لجرائمِ اغتصابٍ ممنهَجةٍ ارتكبتْها المليشياتُ الحكوميّة في إقليم دارفور المضطرب. فبحسب تقريرٍ لمنظّمة العفْو الدوليّة اعترفَ أحدُ الجنود السابقين في مليشيا الجنجويد بأنّ «الاغتصابَ جزء اجباريّ من مهمّتنا. خصوصاً اغتصاب الفتيات صغيرات السنّ». لكنّ نّ الخروج العظيمَ في ٣٠ حزيران / يونيو أظهر للسلطة الحاكمةِ أنّ المرأةَ السودانيّة لن يكسرَها هذا السلاحُ. ورغم أنّ محاولاتِ المنظّمات المدنيّة المختصّة لم تكلَّل بنجاح كامل حتى الانَ في إقناع كثيرٍ من الناجيات بالخضوع للعلاج النفسيّ، إلّا أنّ الغضبَ النسويَّ كان أقوى من الخوف من سلاح الجنجويد المفضّل. خرجت المرأةُ السودانيّة في ٣٠ حزيران / يونيو في حشودٍ أضخمَ وأكبر من تلك التي خرجتْ ضدّ الرئيس المخلوع عمر البشير. وأظهرت الفيديوهات المنتشرةُ على مواقع التواصل الاجتماعيّ التزامَ النساء بالمقاومة والهتاف والمواجهة التي لا تتراجع.

    لم تواجه المرأةُ السودانيّة مليشياتِ النظام وحدَها، لكنّها واجهتْ حتى قوى التغيير السودانيّة. في آذار / مارس٢٠١٩ أعلن تجمّعُ المهنيّين السودانيّين عن حملةِ مقاومةٍ رمزيّة، قبلَ سقوط المخلوع البشير في ١١ نيسان / أبريل، أطلق عليها «حملة حنبنيهو» (الحبّوبة هي الجدّة في العامّيّة السودانية.) دعا فيها الشبابُ لتنظيف شوارع المدن التي تراكمتْ فيها القاذورات نتيجةً لتردّي الخدمات الحكوميّة. جملة شاردة في البيان طلبت من «الكنداكة» أن تحمل مقشّتها كانت كافيةً لاثارة غضب «الكنداكات». اعتُبرت الجملة تنميطاً لدور المرأة، ورغم أنّ دعوةَ حملة النظافة كانت موجّهةً للجنسَين إلّا أنّ البيانَ ربطَ المقشّة بالمرأة. تلقّى البيانُ رجماً لا هوادةَ فيه حتى اضطرَّ تجمّع المهنيّين السودانيّين إلى أن يُصدر بياناً آخرَ للاعتذار. ولم يمرَّ شهرٌ حتى اصطدمت النساء مرةً أخرى بقوى التغيير حين تكوّنَ وفدُ التفاوض الثوريّ من ١٠ رجال وامرأةٍ واحدة. انتقادات حادّة وجّهَتها الناشطاتُ النسويّات لقوى الحريّة والتغيير حتى تمّ إجبارُها على تنحية أحد المفاوضين واستبدال مفاوِضة شابّة به. وفي ٢٧ تموز / يوليو نظّمت ناشطاتٌ وقفةً أمام مقرّ تجمّع المهنيّين احتجاجاً على ضعف التمثيل النسويّ في العمليّة السياسيّة، وفي هياكل السلطة المقترحة، إذ التزمتْ قوى التغيير بنسبة ٤٠٪ للنساء في المجلس التشريعيّ فقط دون بقيّة هياكل السلطة. الوقفةُ التي حملتْ لافتاتٍ مندّدةً بمدح «الكنداكات» في المظاهرات وتجاهلهنّ في المفاوضات والسلطة طالبتْ برفع نسبة مشاركة النساء إلى ٥٠٪ في كلّ هياكل السلطة، تحت شعار «النُصّ بالنّصّ». وحتى لحظةِ كتابة هذا المقال يبدو حراكُ المرأة السودانيّة شديدَ الضراوة ضدّ كلِّ مَن يقف أمام مكتسبات النساء، سواءٌ أكان في جانب السلطة العسكرية، أم قوى التغيير. تَمضي الثورة السودانيّة في تعرّجات الطريق الذي يصنعه المشي، لا أحد يعرف أين تنتهي. لكنّ المرأةَ السودانيّة تمشي بهذا الطريق متقدّمةً على أقرانها الرجال، تخوض معركتين. معركةَ وطنٍ ديمقراطيّ حرّ، ومعركةَ تمكين المرأة وتعزيز مشاركتها.

    إن سألتني عن رأيي! فلن نُهزمَ في معركة تتقدّمها المرأةُ السودانيّة.





                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de