رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 06:04 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2019م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-30-2019, 12:39 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار

    12:39 PM August, 30 2019

    سودانيز اون لاين
    mustafa bashar-
    مكتبتى
    رابط مختصر






    رواية عُشّب لخيُولِ الجَنَجّويد
    مصطفى بشّار
    شعور ما كان يخالجني، ما استطعت تفسيره، أهو فرح غامر أم استياء عابر. هل كنت خالي الذهن تماماً عن ما حدث؟ لم أتوقعه أو أن أمعن فيه تفكيري، مثل عباءة كبيرة داكنة، غطت علينا، لم أستطع تبيان ما يجري هنا، أو هناك. كأن نبأ عظيماً غيض لنا هذه اللحظة، ورغم ذلك لم أكن قادراً على سبر غور نفسي، هل أنا غاضب أم منشرح الصدر. فكل موقف لم تعِشّه من قبلِ يصّعب عليك تفسيره، ولا تكتّمل لك صورته. عجِزّت حينها في التنبؤ بما سيؤول عليه الحال. ومن حسن نيتي، ظللتُ منتظراً مقبل الأيام، يوماً بعد يوم، ساعةً بعد ساعة، حتى نضِّج المشهد الذي كانوا يطبخونه على نار هادئة، لا أدري متى نضج، ومتى بانت حقيقته. هل كان هو اختياري. هل ستمضي الحياة راضية. خالية من الرعب، باعثة على الحب، منقوشة على فؤاد محب، يرى الزهر والخضرة، يرفض الموت غير الرحيم. كنت ساعتها خارج العاصمة، لكن الراديو أغنانا عن الحضور. الصحف تلقفت الخبر باكراً، وعندما وصلتنا في مكاننا، كان المغيب يوشك أن يحِلّ. زاد غرابة الوضع علينا. لا أدري هل ساورتني شكوك أو غير ذلك. لكني أذكر حينها كنت كمتفرج على شريطٍ سينمائي، لرُعاة بقرٍ، يُطوِقُون رِقاب الجوامُيسّ بالأنشوطة. لم تكن لي حيلة غير ذلك. دمي يغلي ويبرد، حفّزت دخيلتي بالغضب، ثم هدأت، وما دريت أني لأي فئة أنتمي. كانت الرؤية ضباباً، ومحطات الإذاعة العالمية تذكُّر أن تحّوُلاً سياسياً قد تمّ. وأقرب جيراننا من الدول، عمتهم ُسّنة من النوم، ما تبينوا الذي حدث، وأسرعوا بالتصريحات، قالوا إنهم أولادنا. ثم طوّقتنا الجيوش. فتشوا البيوت منزلاً تلو منزل. كان يسبق التفتيش شخصٌ ملثم، ثم يتبعه جنود وأشخاص بملابس مدنية، كانوا غرباء عن قريتنا، أتوا بهم من مدن أخرى لتسهيل مهمة البحث، عن أشخاص مطلوبين، أو معارضين، ولتعمية السكان عن حقيقة ما يدور. هجس بي هاجس، أوشكت أن أنطق بإسم هذا الملثم، الأمر بدا لي كأنه معروف جداً بالنسبة إلىّ، وكأني مُلِمّ بتفاصّيله. يد شديدة السُمرة ومُغضنة، أورِدة كبيرة تبين من تحتِ الجلد، يدٌ ضخمةٌ بصورةِ مُلفتةٍ. يحاول أن يغير في مِشيته، بعرجٍ خفيف. بدا كأنه ارتدى مزيداً من الملابس، بنطالان، وقميصان سميكان من أقمصة الجيش، وشالاً داكناً. وقلمي حبر جاف بجيبه الأمامي، قلم أزرق وآخر أحمر. الرعب الذي حل فجأة، لم يترك للناس فرصة للشك. لم يخطر ببالي قط أني سأراه يوماً في مهمة أخرى غير عمله بالتجارة، وكأني سمعت من قبل أن جدي فضل الأزرق قد حدثني بشيء من هذا القبيل، لأنه ذكر أن الانقلاب السابق للجيش قبل عقدٍ ونِصّف، كان نفس الرجل يخفي وجهه، ويضّع قلمي حِبر في جيبه الأمامي، ويتقدم جنوداً راجلين، يبحثون داخل البيوت ويفتشونها. كما أني لم أعهد أي بادرة على هذا الرجل طوال معرفتي به في القرية. كان تاجراً جوالاً، وبعد المشهد الأخير الذي رأيته فيه، انتتقل بعدها بقليل للعاصمة، واستقر بذلك الحي الطرفي. فجأة تبدل رأيي فيما شاهدت. لا، هذه اليد شبيهة أيضاً بيد شيخ عثمان، ونفس قوامه الضخم. حِيرة ضَربت أنحاء دُماغي. وكأن الشك بدأ يغزوني من اتجاهات شتى. هذه اليد المعروقة كأنها يد خالي حامد الدخري. كان جيب الرجل الملثّم، يحتوي على قلمي حبر جاف. ماهذا التيه؟ ففي اليوم الثاني، فتح الجنود المحّال التِجارية والدكاكين المغلقة، كسّروا الأطواق التي كانت تُغّلق بها مخازن الذرة والزيت والسكر، يبيعون للسكان الذين اندفعوا نحو السوق، بسعر منخفض. كان (فضلو باقي)، يتظاهر بتقطيب جبينه، ثم يفرده، يتملّمل كلما باعوا من بضاعته. يمد يده ويسحبها، ينظر ناحية السقف. يخفض رأسه. هدأت خواطر السكان قليلا. اعتقد حاج التوم أن الثورة التي حدثت ستنقذهم، ستوسّع لهم في معاشهم، وستزّيد رُقعة الرِضا داخل نفوسهم، وتجعل الأسّعار في مُتناول الفقراء، وتكون جنّة الأرض لهم. لم يدرِ حاج التوم، وسعيد المسّنوح وسالم المحولجي، أن ذلك كان سرقة لزمنهم، وإشغال الناس عن ما يفعلون. تحدثوا عن انخفاض قيمة السلع، بينما كانوا هم يفتشون عن معارضين لهم. أدركنا بعد ذلك. كنا نرى كفة الميزان تميل، فنميل عكسها لنرجح الكفة الأخرى. كأننا قد تم تنويمنا مغناطيسياً، في مركب عصف به موج، في عِز الدميرة. كأن قد أطبق علينا فك مسمُوم، فسرى في أجسادنا خدر غريب. أتنفّس وأخشى أن يقبِضوا عليّ. أنام مُرتدياً كامل ملابِسّي، لا أدري هل أنا خائف من فقدانها. هل أبترد مِنّ حمى استوائية. أستحم بملابِسي، أخشّى أن يروني عارياً داخل حمامي. أستّحم ولا أحس بالبلل. أغُطي رأسي بعمامة كبيرة. أتوهّم رصاصة تنطلق من مكان ما، فتُفجّر جُمّجُمتي. أضع يدي مكان القلب، كأني أغلق فتحة مُتوّهمة. كان الخوف أكبر من كل شيء. أكبر من الموت نفسه. كثيرون استوعبوا الوضع سريعاً، تماهوا معه. جدي فضل الأزرق لعنهم منذ البيان الأول، وقال من أين أتى هؤلاء. لعلهم رضعوا حليباً مغشوشا، مثل اللبن المجفف الذي تجلبه منظمات الإغاثة. فضلو باقي لم يأبه كثيرا، فاللبن المجفف الذي باعه الجنود من متجره، حين إجتاحوا السوق، كانت بضاعة قد انتهى زمنها، كان يقطب جبينه حين يناول الجندي أحد المشترين، صنفاً من البضاعة الجديدة، ويبسطه حين يبيع من الجزء الذي إحتفظ فيه بالبضاعة التالفة. كان شيطانأ مُصّرماً، يعرف كيف يأتي بالنقود. سعيد المسنوح وسالم المحولجي، ازِداد هَرشهما لجسديهما، يحُكان مكان الخِصر، ينشِبان أظافرهما في جلباباتهم البالية. وخزّ يزداد كلما اتجها شِمالاً، ناحية خمارة مستورة. وكلما هبت نسمة باردة في صباح أو في مساء، توقظ فيهما مارداً عارياً، حين تمتليء رؤوسهما بمشروب العرق. رعب ماثلٌ في كل شيء، في الحجر والشجر، ومحطات التلفزة، موجات الراديو، في رائحة القهوة، مع أقداح الشاي، بين محطات الطريق، في رائحة المطر. في تلك الأيام، كان الإيمان موجهاً في أناشيد ضد أمريكا وروسيا.








                  

08-30-2019, 12:54 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    2
    نشأتُ في قريةٍ على خط السّكة الحديد. صهد وصيف لا ينتهي. كنا نشرب من برك تمتليء في الخريف، بيوتنا كانت أكواخ متهالكة من القش، وأغنانا يمتلك كوخاً من الطين، محدودة العدد والعتاد. يربط بيننا صلة قرابة، موعد مع الفاقة لاينتهي. لكنهم لا يضجرون. ولا ينوون المغادرة إلى أقرب مدينة ليسكنوا على هامشها، على الأقل. ماذا تقول لأناس يعانون من العطش على مدار العام، ولا يودون الرحيل حيث يتوفر الماء. كان النيل على مسّافة سبعُون كيلومتراً فقط. إعُجوبة صنعها خيال الساكنين، ثم مضوا عليها، بأن قريتهم في يوم ما من التاريخ، كانت مركزاً تجاريا، إضافة لمحطة القطار. التي كانت تضج بمختلف المسافرين، من جهات عديدة. ومنها انِتقلتُ للعاصمة في حي عشوائي، خفتت الأصوات، وهجد كل كائن وأسترخى. قيلولة قائظة. أصوات عربات بعيدة تطوي الطريق المسفلت. الكهرباء لم تصّل إلى منازل الحي العشوائي، لا حلول تلوح في الأفق، ولا معجزة ستحل بهذا البوار. ورغمه ستمضى الليلة على أحسن تقويم، فالبلد على حالها. دوامات غبار لم تخف. حكومة رفعت الدعم عن السلع، تضاعف سعر الأدوية المنقذة للحياة. سُكان الحي، شيع من مناطق مختلفة، تاريخه قديم. عُدّة بيوت، نوافذ خليعة، أبواب من الصفيح، أو من خشب شجر الهجليج. مثل عِهّر قديم، يعتاشُ على النزوهِ. ومُكونات الحِساء، لا تُسمن رغبة الجائع. في البدء كان حياً عشوائيا، وامتد فبلغ ولاية الخرطوم. هكذا تمضي بنا حياتنا. تسكن أولاً، ثم تأتي جرافة تحّطِم ما بنيت، وتَهيل التُرّاب على حلمٍ شيدّتُه. لكن، ما يهم هو أني التزمت نقمتي على من جاءوها بليل. أسأل الليل. لعل الماء يختاط الجروح، ويكف نزفي. لحالمين أو حيارى يترقبون ما يخبئه الغد. أتقلب في سريري. شيء ما يغلق كل منافذ النفس والجسد، ويفتح طاقة العناء. لم يكن هناك سوى منزلاً واحداً، وكذلك على يساره، على بعد نصف كيلومتر من الطريق المسفلت. كنت أظن أن مشكلتي الوحيدة كيف أسكن، أو كيف أُأسس مكاناً لأعود إليه عند المغيب. فبعد أن شيّدت منزلاً في أرض عشواء، زادت المخاطر أكثر من ذي قبل، لأن التهديد بالإزالة ماثل أمام عينيّ، كان خوفنا أكبر، وقلقنا أشد، وخيبتنا بادية. كانوا يدهمون بيوتنا، صباح مساء، يأخذون منّا الجنود، ويبخِلون علينا بالخدماتِ.
    ومن هناك ألمّح الخُرُطوم على الضفة الشرقية، غاوية لا تلوي على شيء سوى ذكرى ماجنة، وبقايا دخان مجنزرات تجوب الأحياء. صبية يلعبون بكرة مصنوعة من قماش مهتريء وجوارب قديمة، بالقرب من مبنى مركز صحي متهالك. الصحراء والسراب البعيد. والبنايات تقوم على استحياء. أنقاض يتعثر بها العابرون للجهة الأخرى. بقالات بقدور من الألمون تغلي في شارع مُترّب، وتُغطي فوهاتها الطافحه بالبخار أكياس بلاستيكية سميكة، تُضاعِف لعنة التبخير في الإناء. يلمح معها آماله المتضائلة كلما توغّل الزمن. عاصمة تتلفع بالسّخط والازدراء. أجدني غير مرحب بي حتى في قنوات المجاري. مشردون يعيشون داخلها في نعيم. السعادة أن تقنع نفسك أنك تعيشها مختاراً، وبكامل إرادتك. أنا نهضت بحلمي ووعيي، لكن من يلفت الغوغاء، بأن الميعاد آت والأرض للأنقياء، ومزمني الجوع، حين تخطتهم رحمة أولى القربى. إضاءات بعيدة، تطلقها مصابيح صغيرة، أغرقوا سكون الليل، ناحوا على طلل الرغيف. في أحداقنا صدئت رعونة الأشياء، شاخت. لا اللون يفصح عن جسارة صمتنا، ولا أسارير الصباح الماجنة. وتصاوير الأغاني، تردد الصدى الملحاح، من لمع سراب.
    الكل يخرج صباحاً متوجهاً إلى الخرطوم، ضجيج. وازدحام، يبحث عن الرزق ويعود بعد المغيب، مكدوداً مثل طائر. إستراح من طرقات صاحبة المنزل السابق، في منتصف الشهر وفي آخره. تراخت الأعصاب تماماً، ما عاد يزعج الإ السكون نفسه! ليل عالق بأفخاذ طرية. همّه يتجاوز اهتِزازات الأسرّة التي لا يشّغلها شيء، سوى أن تفصح عن رعشةٍ كاذبةٍ، ونزوة منقوصة. ليل يمضي خلف أستاره الداكنه. شّرعية يضفيها من يمعِنون في محدودية الرؤية، ويخنِقون اللّيل من حلقومه.
    تبدّى في التلة. ارتفع صوته. يارب أني أسأل من المستفيد من عذابي في الدنيا؟ أهم الناس العاديون. الشياطين الآخرون. الجن. ملائكة ناشزون؟ بلغ بي الحال درجة من ال################. الأسى يُصاحب الإحباط. يتأبطان ذراعيّ بعضهما، يتجهان نحوي. وأنا، لا أنا. لا أملك إلا أن أصطحبهما في رحلتي العاطلة، وكسادي اللعين. حاولت محاولات البشر العاديين. جنون الأبالسة. سكينة الملائكة. لكن ما عادني من المحاولات سوى مزيد من التآكل، النخر في العزيمة. استمر الطالع وسوءه. وأنا كما أنا. لم يزد عندي الأمل خطوة. ولا خطت عبراتي نحو الجنون أي مسرى. تافهون جداً بعض أولئك الناس. لا يفقهون شيئاً، يتمشدقون بحرية الكلام. إيماءات بدعوى الفهم. المعرفة راكدة في كتب، مستندة على الأرفف. الربيع يأتي ويرحل. الألم يغطي البدن ويسكن. الدماء تمددت في الشوارع. الأغطية لا تكفي لبرد هذا الشتاء. كان رخيصاً لو يلقوا بك إلى الشارع. بارك الرب في أجهزة الإعلام، وحدها هى التي تدافع دون إراقة دماء! بينك وبين نفسك. وبين نفسك ونفسك. نفسك وروحك. بين جسمك وعقلك. فراغات كبيرة تبدو، بطول فترة العذاب.
    يصيخ بسمعه لشقشقة عصافير، وصغار جاره يلعبون، وصوت وابور بعيد يتكتك. وريح تعصف بأغطية النوافذ من قماش (التيل). غمامتان ظللتا وجهه. يرتد طرفه بذكرى والديه اللذين رحلا دونما استئذان. ماذا لو كانا معنا الآن في هذا المنزل الذي بلا هوية؟ حتماً سيتربصان باليقين الذي يعفيهما من تنبيهي، عن قرب موعد دفع الإيجار! تجاوز عمره منتصف الثلاثين. إخوته تمردوا عليه بحجة إن هذا الحي لا يناسبهم. يبدأ الحلم سراباً، ثم يكبّر. أشباحاً متماوجة، مثل نُسّوة عجزى من وراء زجاج مبّتل، يَجررنّ أرجُلهنّ ناحية سوق شعبي. يا سَاري الليل. هذا الشيء ليس بجديد. لم يمر بعندي صدفة، لكن يبدو أن ظروفاً مختلفة تضافرت، لتجعل الأمور بهذا السوء.
    يأتي لمكتبه مبكراً. شركة غريبة الأطوار، لا يبدأ موظفوها في التجمع إلاّ بعد الساعة العاشرة صباحاً، المدير ومناديب الإعلان كلهم مناديب. مدير يلغي خلفه كل مسمى وظيفي، ويبحث مع عماله عن زيادة رزق. قرار المدير ليس بيده. شركاء أنيقون. يتوقف المدير دوماً. ينتظر مكالمة من الخارج. أناس مختلفون وعُملة مختلفة. وقارة مختلفة. يمر يوم، ويوم آخر. أسبوع يمضي، ترتفع الأسعار. تهبط. تحدث وفرة في العرض، يقل الطلب، ثم يردون على هاتفه الأسود، الجاثم كالغراب على منضدة رمادية: يمكنك أن تشتري الآن، ماذا سيشتري بعد ذلك؟ تختلف التواقيت، تتثاقل الرؤيا. فجأة يقفز إلى ذهنه سؤال، يدلّف لمكتب المُدّير، يرد بحضور كامل: "مرتبك ميتين وخمسين ألف جنيه". وكأنه يدري ذلك الرد سلفاً: (طبعا يا ريس، أنت قلت ستزيد لي راتبي الشهري).
    - (الرأي عند أهل الشركة. عندما يرضون عنكم، سيزداد الراتب).
    - (يا سيدي، أنت تعلم تماماً أننا نعمل بكل جهدنا. ذلك النعيم الذي تعيشه الشركة كله من إنتاجنا، وفوق أكتافنا).
    يبدأ دولاب العمل. يسرع المناديب في تحصيل أموال الشركة من العملاء. تتقاطر النقود، ويزيد الرصيد. يبعث المدير المال إلى الشركاء في الخارج.
    -(ياريس هناك راتب أربعة أشهر لم أستلمه).
    -(انتظر قليلاً).
    - لن أستطيع الانتظار أكثر، ها أنذا أعمل كما يعمل الجن، وتقولون ليس هناك نقود، أين المشكلة ؟
    - (ننتظر أصحاب الشركة ليرسلوا لكم المرتب من الخارج).
    يبدأ النهار بالمغادرة. يمضي المدير وصديقه الضابط المُتقاعِد. يبقى المناديب. مندوبة تتعّلل بالمرض. أغلق عليّ مكتبي، أخلّع قميصي. يتجهم حولي المكان. ينغلق من حولي كل شي، كأنه لم يبق في الدنيا إلاَّ أسفي. ينادي على البقال، المجاور للمكتب. (يا سيف الدين، بالله أجلب لي قنينة بيبسي كبيرة. هل عندك حلاوة طحنية)؟ يأتي بها في يديه المتسختان، من آثار جوال الفحم النباتي، الذي أفرغه أمام قدر الفول المصري الضخم. يزدردها على مضض.
    في منتصف الظهيره، يقل المشّترون من البقاله. يقوم بالشُّربِ من الحليبِ الذي تمت تعبئته في الزجاجات، يوازن بين كل قنينة وأخري، حتى يتساوى إرتفاع السائل فيها. انتهّرته فلم يلق بالاً عليّ، كانت هي عادته إذا أراد أن ينقص الحليب من القناني، فأنه يشربه من فوهتها مباشرة، وبعد ذلك يضعها في رف الثلاجه، ويبيعها كأن شيئا لم يكن. أقسّمت مرة بأن أستدعِ ضابط الصحة، وأحيطه بالأمر، لكني لم أر مسؤولاً يمر من هذا الشارع، رغم إنه جوار المطار الدولي. بعد فترة من الزمن فترت همتي، وعدت أشتري منه الحليب .
    جاءت منسحبة: تعالي يا هذه. ليس هناك وعود، وهدف أو قضية. من ناحية رجليّ أو على امتدادِ قامتي. يضغط عليّ إبهام قدمي اليسرى. لم أعد أفزع. ساري الليل* زميلي ورفيقي، وكاتم سِري، ومُعترض طريق قوافلِي، وكاشّف سِر حكُومتي، وقابضٌ على طرف حكاياتي وساكن غُرفتي، وقاضِي محكمتِي. تعال إلى الفلّات. القمّر في منزلةِ المحّاق. حالتك لا أمل فيها، إن نّمت أو صحوت. ريثما تأتيك الحِكمة بغتة، وأنت لا تشّعُر. حقيقة صرت لا أشّعُر يا ساري الليل. قادوُني إلى المشّرب. فتيات يرقصن بكامل عريهنّ، صدورهنّ كانت تهتز اهتزازاً مريعاً. جمال يتماهى مع سُحب دخان. لم أعد أحِنّ إلى شيء. ولاعاد هناك ما يُؤرقني. ليس هناك ما أخَافه. ليس معِي نقود. ليس أمامِي قوافِل محمّلة بالثيابِ والرياشِ أو التمر أو التوابل. شّيطِن لحظتي ثم أغُرب عن وجهي! عاد بِي لمكتبِي الكائن قُبالة شَارع مُطّل على المطار الدولي. أغلقت بابي الخارجيّ. فُتحَتُ نافذةً على جسدٍ أسمرٍ وأبنوسي. يداي كانتا تزحفان ببطء وترتجفان من المفاجأة. مثل جُندي حاصرته القذائف داخل خندق وحيد. وبدّفء الجِرّاح التي كانت تنزف. استّغواني الدمُ. غطَّى على النافذة التي فَتحّتُها. جسدٌ مثل لغة مُعاصرة وراسخة. كان الحوار صريحاً، لغة ليس فيها مترادفات للكلمة الواحدةُ. سُمرة حافظت على نفس لون السّتارة قُبالتي. ضغّطتها على الحائط. ضغّطتني على الباب. لا يهُّم. ريح عابرة شهدت دونما إستئذان.
    وأنا بحالتي الراهنة خال من أي عطر أو رائحة. أسناني باقية باكتمال فرص الشواء، التي يدعونني لها. شعري لم يتبق منه إلاّ القليل. يعاف الدهن، غزاه الشيب. تجاعيد سكنت وجهي وجبيني وخديّ. حالي انعكاس لحالتك يا ساري الليل. شيّطان يدعوني في آخر لحظة للنعاس. يدعوني للالتفاف. فاق من إطراقته التي امتدت زمناً. أسعفني هبوب نسيم مار. أفلت من قيلولة قائظة. قلت: مرّ وقت طويل لم نرتشف فيه شيئاً. متوقدة، من آخر مرة اختلينا فيها معا. تغنج : (والله لا أفهم هذا الكلام الذي تقوله، سريع وخلصنا).
    فجأة... استيقّظت كالغافل. شيئان يتناغمان، يتداخلان كعقارب سّاعة في المنتصف. صوت يأتي خافتاً ومسّتسلماً ومُتوسلاً. بكل ما أستطعت. المزيد عِندي ولك الرغبة الأولى. المزّيج عِندي. القافلة تتقدم وتتاخر. أنا لا أملك إلا ما وعدتك به. وأظنني أحتّاج أن أعرف ما أحببته فيّ. تبرُق برسائلٍ شافهةٍ. أسرار جسّد وقُبلّة. سّر اشّتهاء. سأضُمك عندي. متوحدان في صالة رقص. سرّت بجسّدي قشعريرة واجفة. تُخاتلني بنافذتِي. لا يقّدر الوقت أن يسّد فجوة ماثلة في الفراغ أمامي. شبحي أم أشباح غيري عبرت النافذة، ومدت ألسنتها. هجست في المدى. أي حلم كان قبل هذا الوقت، يوده النسيم، ويلقيه في أحضان كدرة غشيت ليل واجف.
    جذبتني إليها. حاصرتني. جردتني دون غطاء. مسحتني من خجلي. أقف بطول قامتي، وبعدها تحررني من خاتمي. هذه وصية أمي. دعك من الوصايا، فالتي حدثونا عنها كانت عشرة وصايا. ما زاد على ذلك فهو من فِقّه التَخّدير.
    صحت فيها. أفعلي فعلتك. فأنا لم أبلغ الحلم، الذي يجعلني أصد الريح، وألعن الحظوظ العاثرة. كانت خطوط الطول والعرض تلتقي في ثنيات عميقة. أشهق بحدةٍ، لا صوت لي، لا أحد يعيد لي نزوة سابقة. لا أحد يجمع عطري المبعثر في الأنحاء. لكن هذه المرة عِشّت الأدوار كلها . بطولة سَمّراء عضّت على الأنامل! الله ،الله. أنِطّقها. مُمّتلئة كأصابع الموز. الذاكرة لم تسعفنِ في أن أتامّلها أو أنَطقها. هكذا ثم أستلقت على قفاها. مكتبي كان يجاور شارعاً عريضاً، وضجيجاً قاتلاً. قهقّهت في وجهي. جرحتني دون شَفّرة. مشّت عليها أرتال من النمل، وجيوشاً من النزوة المُستكِّنة. كان على الجانب الآخر من النزوة تعاريجَ وثنيات، وكتلاً متوائمة مع لون الإسكيرت الرمادي. مدت يدها ولامست رجلى. في تلك الأثناء كانت هناك طائرة تحّومّ فوق المبنى، بضجيجها العالي، تُحاول الهُبوط على المدرّج. ضاعت علينا شهقاتٌ، مع أزيز الهُبوط.
    تتوقف حياة المرء على الأمل، هو الوحيد الذي يملك الوسّيلة التي تجعلنا ننتظر إلى الغد. لا تملك غيره. مُرتّب شّهري لا يكفي احتياجك، دعّك عن إخوتك. نحن هُنا نعيش كأسرة مُمتدة بها عمّ وخال وإخوة وأخوات. نلتّفُ حول مائدة طعام. لا يهم هل هذا الطعام وافر البروتين أو الفيتامين. نُدُّخِل أيادينا مجتمعة، ونرفعها لأفواهنا، دفعة واحدة، وعندما تفرغ الصُحون، نغسل أيادينا، ثم نُلحِق هذا الدقيق المبّتل بكوب ماء، ونقول الحمد لله، ثم يقوم كل منا إلى حاله.
    لا أدري ما الذي يجعلني حريصاً على القدوم يومياً إلى هذا المكان الكئيب. يمكن أن يوفر لي وجبة من مداعبة. ولكن من أين ستمتليء البُطون التي تتحرك بها الرّغبة؟ هذا المكان صار مملاً عندي. عندما يخرج الموظفون. أغلق الباب خلفي وأخلع قميصي، وأندب حظي. يترقرق الدمع في عينيّ. أنا الذي جاء إلى هنا ولم يُسّم الراتب الذي يعمل به. عرفت أنه عمل، وانشغلت به عن طنين كان يصك أذني. الحاجة إلى العمل! صحيح كنت ناقماً على نفسي وروحي، وتراكم رهق السنين فجأة في ملامحي، وأضاف إلى ملامح وجهي المغصن أصلاً، مزيداً من التجاعيد. في منتصف الثلاثينيات من العمر، لكن بهموم رجل ستيني خطى إلى المعاش بمشيئة، لا يعرف كيف قادته إلى النهاية سريعاً. ودون أن يحّسب لها. ومطبات الحياة تعترض طريقه كل يوم عشرات المرات.
                  

08-30-2019, 12:59 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    راتبي لم يكن يفي بأي شيء، لا الفول ولا الخبز. أصحاب الشركة يعودون في نهاية العام، في إجازاتهم. يسحبون ما بها من أموال. يسألوني لماذا أسرع بك المشيب؟ وأنت ما تزال شاباً صغيراً، لماذا لا توفّر من الراتب الذي نمنحه لك؟ عندما أسّمع هذا الكلام، أسرع ناحية الحمام لأفرغ معِدتي، بطنِي لا تستجيب للإلحاح المفاجيء. يغلبني الإستفراغ. تأملت طويلاً أنّ فاقة مثل هذه لا بد أنها جائحة مُلتبسة، تصيب فرداً واحداً في كل هذا العالم. جرثومةٌ وحيدةٌ ناقمة، تصيب فرداً واحداً من بين كل سكان العالم. ليس سوء الطالع وحده هو الذي رمي بي هنا.
    كنت أتسكع داخل السوق العربي، ازدحام. ومداهمات شرطة النظام العام. رجال مسلحون ببنادقٍ قصيرةٍ وعصيّ مكهربة تحنق عليك بلمسة، وسرعان ما تكون وجوه كثيرة منكفئة عليك. أخذوني لخيمة النظام العام. كانت ملابسي رثة و لغتي مهذبة، وأختار ألفاظي بعناية، وأعتقد أنني أملك قليلاً من الوعي، لمعرفة حقوقي. اتهموني. كان هناك مذهب واحدٌ للإدانة، كنت أحضر لصديقي (فريد) في منتصف السوق. يضع لي مقعداً، أجلس عليه طوال اليوم، أُفكر في القدر الذي مضى، والقدر الذي سيجيء. وفي آخر اليوم ينفحني مئتي جنيه، أذهب للمبيت عند أقاربي في حي السامراب بأقاصي الخرطوم بحري . مرت شهور سِتّ وأنا على هذا الحال. خريج على أعتاب المعاش. أحضر إلى السوق صباحاً. أجّد الكُرسي الذي أجلس عليه يومياً خالياً. يدعوني لتناول الإفطار، فول بالزيت وآخر النهار مئتا جنيه، للعودة بها في صباح اليوم التالي. مائة وثمانون يوماً، أتذكرها يوماً يوما. الوقت ضحى، استسغت حالة المعاش الإجباري التي أنا عليها. اتصلت على وليد المهندس صديق أخي الكبير، في أمر ما. رد لي: تعال الآن، لا تتأخر هناك فرصة عمل في شركة، ووالدي أحد المساهمين فيها. عملت بها. تخلى والد صديقي عن الشركة بعد مدة. وهكذا بقيت معهم حتى مرّت خمّسُ سّنوات. لم يتحقّق لي فيها شيء. كيّف مرّت كل تلك السنوات؟ لست أدري. لم أعد أشعر بشيء، غريب هذا الكائن الذي إسمه أنا!
    أتضجّر، وأفكر أن أدع هذا العمل المرهق الذي ليس من ورائه طائل. كل يوم أقرر أن لا أعود إلى تلك الشركة، وفي صباح اليوم التالى أجِدنِي محشّوراً بين ركاب داخل حافلة عملاقة. روائح الركاب عند الصبح مُقيتة جداً. جُنود عائِدون من نوبةِ حراسه، أفواههم تَورّدت من سُخونة مشّروب العرّق، وبائعات فول وحب البطيخ، وبائعات كِسّرة. وطلاب مدارس ركبوا السيارة، دون أن يغسلوا أعينهم. رمد على وجه أحدهم. هل يسعفه الزمن ليعيش ثلاثين عاماً وسط هذه الفاقة والعوز؟ أعود محملاً بكمية من صبر خرافي. لا أحد يدعو لي بالتوفيق!








                  

08-30-2019, 12:55 PM

خضر الطيب
<aخضر الطيب
تاريخ التسجيل: 06-24-2004
مجموع المشاركات: 10251

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    كتابة رائعة استاذ مصطفى
    محبتي
                  

08-30-2019, 01:02 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: خضر الطيب)

    شكرا استاذ خضر الطيب على كرم المرور
    تحيات ومحبات
                  

08-30-2019, 01:07 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)



    كساد غريب. بيوت ملأي بالبنات العازبات. أطفال هجروا الدراسة ليعملوا بالأسواق. سائق الوزير يبحث عن مُعطر يناسب عربة سعادته. تمتليء دار الرعاية بأطفال لقطاء، مسؤولو دائرة الفتوى، يقولون إن الحمل يحدث في أول يناير من كل عام. سجون تعج بالغارمين. مسجد محاط بمجزومين. مباني تزداد ارتفاعا، وسيارات فارهة تزداد وتنفّث. أولاد ناعمون يتسكعون في الكافتيريات، يحملون دفاتر وكتباً. يتشاغبون مع بعضهم، يركضون هنا وهناك، قسموا بينهم حبيبات، بل هنّ أرحنهم من مشقة المقدمات الطويلة. أخرج إلى الشارع الواسع ناحية شارع 41 المطل على المطار، أزيز لطائرات ضخمة تحط وأخرى ترّحل. أسّال نفسي متى تحين فُرصّتي للمغادرة. ينزل منها مغتربون، يحملون حقائب منتفخة. شرطي مرور يقف بلا إرادة. رخص القيادة استلمها أولاد الذوات، يتناطحون بسياراتهم أو سيارات آبائهم الفارهة. وفي نهاية الأمر يصبح المرحوم هو المخطيء. لماذا يمر بهذا الشارع راجلاً؟ حي سكني كامل شبة خالٍ. أتذّكر حارتنا. جاري وحده له سبع بنات، وجاري الآخر له تِسعة أولاد. وكلهم يدرسون بالمرحلةِ المتوسطةِ والإبتدائية. يشتغل بالأعمال الحُّرة، يعود آخر الليل مُتعباً وبعيونٍ ضائعةٍ. خالي حامد الدخري يقول: (ربنا لم يخلق فماً، إلا خلقه برزقه. من له ظهّر يجّد وظيفة، وتلزَّمه تزّكية من مسئول حكومي رفيع. قديماً كان الواحد يتخرج من أي كلية يمكنه أن يتقدم للتدريس. والآن لا يعمل بالتعليم إلاّ خريج التربية. ولا بد من واسطة). إسماعيل مهندس المساحة طلبوا منه شهادة مواظبة في المسجد، وهو في حاجة ماسّة لعملٍ، ولأنه كان أكبر إخوته، ويسّكن بولاية النيل الأبيض. ترّدد على مسّجد النيلين. واختار أن يكون في الصف الإمامي حتى يراه الإمام. قضى أسبوعاً على هذا النحو، رغم إنه يسكن حي الفتيحاب جنوب أم درمان. الوصول لمسجد النيلين الذي يقع ناحية حي الموردة في اتجاه الشرق بأم درمان، يبعد كيلومترات كثيرة، ومبان كثيرة تعتّرض الطريق المسفلت، فيتعرج في اتجاهات مختلفة. رغم أن جلّ ارتباطاته بوسط الخرطوم، ولا حاجة له البتة للمرور بهذه الجهة، فشهادة هذا المسجد معتمدة أكثر من غيرها من المساجد. وأخيرا، تضافرت ظروف شتى أهمها والدّان حيّان يدعُوان دونَما انقطاع، وشهادة مختُومة من المسجد المذكور، جعلّت إسماعيل المسّاح، مساعد تدريس بالجامعة ! محمود دفعتي في الجامعة، يوقظه والدة صباحاً، يدفعه إلى الشارع دفعاً، ليبحث عن عمل. والده من الرعيل الأول من جيل الاستقلال، ما زال يظن أن الأزهري والمحجوب حيّان، وكأنهما في سدة الحكم بعد أن رفعا علم الاستقلال. (كيف يعني ما في شغل؟ لماذا تعارض ضد الحكومة؟ هذه الحكومه أصّلت الدّين، ونقّته من الشّوائب. وأغلقت البارات والمواخير، والبيوت المشبوهة، لماذا تعارض هذا النظام)؟ شخصان من زمنين مختلفين، أب وإبنه. عَبَرت كثيرٌ من الإشاراتِ بينهما، وجعلت كل منهما يتّخِذُ زمنه الخاص. يطول الشرح، يفضّل محمود الخروج من المنزل على رغبة والده، يتجول بين شارع المك نمر، والسيد عبد الرحمن وشارع الحرية، وشارع الخليفة عبد الله، وشارع الأمير يونس الدكيم. عندما يصّلني في المكتب، يكون لسّانَه في طُول يدّه، أُحضِر له ماءً بارداً. ونبدأ نَتَحدّث عن الحصاد اليومي. وعن عدد الشحاذين الذين قابلهم. وعن عدد بائعات الشاي اللاتي تخرجنَ من الجامعة، طوينّ الشهادات، أو تركنها معلقة على حوائطٍ طينيةٍ، تُوشِك أنّ تسّقُط قبل الخريف. يعود محمود عند العاشرة مساء، وبعد أن ينام والده، يفتح الباب ببطء، يجد والدته قد وضعت له صحن فول جوار سريره. ينام بملابسه مسّتعداً لأن يطرده والده صباحاً. (يا أخي، هل تتذكر أحمد شيخنا؟ ذلك المتطرف الذي كان يحمل سيفاً، داخل الجامعة، أتذّكُر عندما حاصرناه قُرّب شجرة النشاط)؟ أرد باستغراب وفاه فاغر ينتظر كلمة لم تخرج بعد: (نعم، نعم، ماله؟)، تَوقّعت أن يقول لي أنه لقى حتفّه في الحرب. كان يحمل ستة مواد جامعية بدائل في السنة الرابعة! تخرّج بإمتياز وعينوه في شركة بترول. قيل إن جارهم وزير النفط.
                  

08-30-2019, 01:11 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)



    4
    يزدحم رأسي، يتشبث دماغي بأغشية حوله. يعلق بها، يوخِزني بصداعٍ نصّفي، أهرول سريعاً إلى القرية، وبمجرد نزولي من الحافلة، يتغيّر كل شي، يُعاودني ما كان غائباً. اشِتّدت الريِح، ودارت الأعاصير، وغام الجو فجأةً وثار. ساري الليل يبدو يميناً تارةً، وشمالاً تارةً أخرى. من على البعد تُرّى مصابيح سيارة كبيرة غارسة في الرمل، أوجاع مُحرّكها يَدمِي سكون الليل. تبدد كل أمل في تحّريكها. التّل كان عالياً بما فيه الكفاية، ومتساهلاً من ناحية تماسُّك حبيبات الرمل فيه. متاهةٌ ليليةٌ على مدارِ الصيفِ. عُواء ذئِب يأتي به الريح من ناحية التّلة الأخرى. مُعِدات خاوية، تسّترشد بالرائحة واستدارة القمر. السّادة السّمانية ذِكرّهم لا يخبُ، صوت دفوفهم عالق بشجن الليل. دسّت بأذنيه خلايا، كي يسّتزيد من النغم، فما لقديس تجلّى بكرامةِ النّور المديد، وصلّى بعظمةِ الأصوات تغشاه السكينة، وإحترار الطار يُلهبه شِجونا، ما أسّتكانا. من يهّز جِذوع نخلاتِ عجافٍ، قّد يسّتبين له مسيح، ويزيد هواه بطراً. وإشّتعال فؤديه بنغم، قد يجيُء له بِلال. ومن حفز مركّز الأكوان حُوتاً، فما ليُونس إذ يؤانس وحشة الجوف الأسيف. وإذا كلم الله له خليلاً، فيا لموسى مَبغّى تكلِيم النُبوة. أوقِدني بالشعرِ يا ساري الليل، أشعِلني بالكلّمِ المبّرحِ. ترّكَنِي فجأة أمام حشّد مُتزاحم أمام مَدرسّة القرية. (يا حضرة المدير، إذا لم تحل هذا اللغز، لا أحد غيرك سيقدر على حله). أجاب مدير المدرسة، بهدوء شديد، وتواضُع أشدّ:( والله، أنا مثلكم، أتت بي وزارة التربية، وحديثكم يخص وزارة الزراعة). دار بروؤسهم خاطِر، استصعّب عليهم ما يقوله المدير. نحن ورثنا زراعتنا وأرضنا من جدودنا، هم كانوا أنُاساً مبروكين يزرعون بالمطر، وعندما يتأخر يصلون صلاة الإستسقاء. أذكر وأنا إبن سّبع سِنين، أخذني جَدي فضُل الأزرق إلى ساحة القرية، تجمع الناس للصّلاة. في ذلك العام ماتت الأغنام والمواشي، وجفت القنوات، حتى ماء الشرب صار عزيزاً جداً. جدي كان يخزن البطيخ، تحت أسِّرة النوم، فبعد أن نأكل اللّب، نشرب ماؤه ونبقى عليه حتى عصر اليوم. تجمع الناس في الساحة كأنهم في صلاة عيد الفطر، أو عيدالأضحى. تقاطرت النِسّوة بثيابهِنّ المزركشة، والأطفال مع آبائهم وأجدادهم، وفي مقدمة الحشد، وقف رجل مُهيب الطلّعة، لفّ عُمامة حوّل رأسّه، ما ظهر من وجهه إلا جانباً، جلباب أبيض، وجيب أمامي به قلمي حبر جاف. وأمر الناس بالإصطفاف للصلاة. (أن ساووا صفوفكم يرحمكم الله)، وأقام الصلاة، وحين كبّر، فتحت السماءُ أبوابها، بمطرٍ مدرارٍ وماءٍ كثيرٍ. أصابني البلل، رفعّت جُلباب جَدي ودخلّت تحته. ابتسّم جَدي وتحوقّل. أومأ لي بما في يده، جَفلت للوراء. كانت مسّبحتُه الكهّرمان تتأرجح بين أنامله. امتلأت الحفائر والقنوات. وكذلك الترعة التي لم يغشاها الماء لسنواتِ عِدة. وإخِضرّت الأرضُ، وامتلأ الضرّع، وتقافزت الحُملان. كانوا رجِالاً لا ينقطع مشّيهم للمسجد، يزورون بعضهم ولا يلدّون في الخصام، وإذا جاءهم زائرٌ، تنادوا بقصعات الطعام والشراب، وبسطوا له الفراش كي ينام. ومن تلك الساحة لم يرجع الناس إلى بيوتهم، يمموا شطر زراعتهم. مشى جدي فضُّل الأزرق نحو المدرسّة، أخذ منها التقاوي، وأنا خلفه على ظهر حصانه الأشهب. ذهبنا إلى الحقل، غرس جَدي مِعوّله عميقاً، وحصانه يحمحم. مرّ على كل الأرض بهمة غريبة. ذلك كان زمناً يختلف عن هذا الزمن. كان الزراع ينحنون قرابة الساعة، ثم يرفعون هاماتهم بين الزروع. صارت الحكومة تأخذ المحاصيل، وتوعدهم بدفع مستحقاتهم، ثم تنكث ما وعدت. تحّسس جدي بُندقيته العتيقِة، ووالى أجزاءها الدقيقة بالتزييت. قلت له وهو منهمك في مسّحها: (يا جدي، هل ترى شيئاً؟ أجاب دونما اكتراث، وهو يُدير وجهه عني: (يا بنىّ، أبتعد عن أمامِي، إذا وقع الصّقر أسيراً، فلا داعٍ لرفرفة الأجنِحة). كيف ذلك يا ساري الليل؟ بلدكم أعياها الحرب. النساء ترمَلنّ . وأطفال تيتموا جراء نزوة عابرة. جلسات أنس ليلية. يأتي الصبح، ويتفرّق الصّوت في كل اتجاه. أن أقبِضوا على الجوعى والمجزومين، يشوهون منظر العاصمة، ثم بعد ذلك إنهم يحّرِجوننا مع الخواجات، ومع منظمات حقوق الإنسّان. أقبضوا عليهم ليلاً. فغداً عند الصبح يأتي مبعوث الدولة العظمى. لا نريد أحدا منهم يبحث في مكّب القُمامة، عن قوت سقط سهواً من أقوات قوم آخرين. أحملوهم لمعسكرات الجيش، ثم أدفعوا بهم في اتجاه الجنوب. - ساري الليل أنت ترى كل ذلك ولا تتدخّل. -هذا حالكم منذ عرفت أرضّكم قبل قُرون، لا تنفكُون ترمُون إحباطاتِكم في الضعفاءِ من أمثالي. الذين يظهرون في الليل فقط. تركنا لكم النهار الذي تعلفون فيه المساكين والمارة بالمواعظ. وأن الجنة بباب أحدكم، وأقرب اليكم. أنتم الطاهرون إذا اقتربتم من بوابات المعابد. ستخطئكم اللعنة التي تُصيب الشبعّى من القوم. الذين يعبُدون النُقود دون الرب. يشّوون اللحم على المواقدِ الغازيةِ. ويضعون الدجاج المدخّن في الأسلاك، المتراصة على جانب الموقد. يملأون منكم المعابد، ثم يوصدون أبوابها عليكم. حيث خرجتُم لوحوا لكم بسياط غضب الآلهة، وذهبوا هم ناحية السوق. حصدوا الدراهم والدنانير والثيّاب والسجّاد، والمشرُوب المسّتورد، والنِسّوة الحَسّناوات اللائي سأحدثكم عنهنّ، والدواب المُمكننة التي لا يصيبها إعياء في الدنيا، وفي حواف الآخرة. -هل تدري يا رفيق كم من الليلات بت جائعاً، ومسهداً وما وجدت قافلة أضللها؟ أي أن أمارس عملي اليومي باقتدار. يبدو أن قوافلهم قد ثبّتوا عليها، جهاز تحديد المواقع. لم تعد تتوه. لم يبق لي دور هنا. حتى أن حياتي أضحّت على المحّك. أنا الذي كُنت بعيداً عن حياتكم الفانية، وألاعيبكم التي تمارسُونها مع بعضكم البعض. كنت حينها أحِس بدنُوء أجلّي. أتغمّص روُحاً جديدةً، وأبدأ فيها من الصِفّر. وأعيش حياةً بخبرتي، بتذكار روحي التي سبقتها. بتراكم السنين. لكن جماعتكم الجُدد الذين حلوا بالحياة. ضيقوا علينا الزمن واللحظات. فلذلك لم يعد وجودنا مثلما كان في السابق. أغرب مافي المسألة، أن تترصد شيئاً لم تره حقيقة أمامك. لا تعرف عِنوانه. ولا تدرى كُنهه. الشيطان نفسّه أضّحى في ورطة من الأمر! اختفى ساري اللّيل. ركب جدي حصانه الأشهّب، وكان رديفه صدِيقه محجوب الكفيف، وتبدد في الأفق، أيها الناس، أيها الناس، لقد صار جدي "جنجويداً!. تناقل الناس أن (محجوب) قد زّلت قدمه عندما كان يقوم بعمله في النظافة. وقبل أن يغدو كفيفاً كان مبصراً، وعينه حارة، كان ينقّل بصره على مزارع الفول والسمسم واللوبيا الخضراء فيحيلها لهشيم في ثوانٍ. النِسّوة كُنّ يتحاشينّ المرور أمام منزله، وحتى زوجتُه لم تسلم من عينه، فقبل أن يدخل عليها تسبب في فقء عينها اليمنى، فألزمه أولياء أمرها بتزويجه منها، وبقُدرة قادِر تحوّلت إلى مُنتصف وجهها،عيناً مستديرةً، مثل مِصباح قِطار الديزل. قبل أن يبدأ الليل متأملاً فيها، ويعوم فيها بذاكرته الخبيثة. أهل القرية يزرعون مع بداية المطر، ولا يجيدون في الحساب إلا الحّد الذي يجعل أمِورهم سالكة مع مُفتش الغيط، يبصُمون ويقبضُون ما تبقى لهم من نقود تجهيز الأرض، وإيجار الجرار، وعمال جز العشب الذي ينمو بين أعواد الذرة. المدرسة يلتقي فيها الطلاب نهاراً، وعصراً يتجمع الأهالي ليتسقطوا أخبار العاصمة. كان الليل مكاناً لسكان آخرين، يعرفهم محجوب خفير المدرسه وحده. أن زوجاً من الجن أمضى شهر عسل في حمام المدرسة. وكان شهراً صاخباً استعانوا في قضائه بموسيقى تنبّث من الشقوق، وألواح الزنك تبدو منطبقة جانبياً مثل (الأكورديون)، وسقف الحجرة يمضي ويجيء. على أية حال قبل مغادرتهم أبدلوا حذاء محجوب القديم بآخر جديد من مخازن الشمباتي بالقرية، فبدا متواضعاً جداً جوار النعل الجديد، يمشي وهو ينظر إلى الأرض تارة، وتارة أخرى يحول نظره إلى السماء، متوجساً من أن أحداً ما سيتهمة بحيازة حذاء جديد. بينما يرتدي جلباباً متسخاً وقديماً، وتحته سروالاً بالياً غير معروف اللون، ومقرفصاً بطيات متتابعة بعضها فوق بعض. توقّف تحت الرُّكبة بقليل. ليس هناك ميعاد تأتي فيه الملابس ولا الأحذية. وغير معروفة الطريقة التي تُقسّم بها الأرزاق على محجوب وأهل قريته. لكن يبدو أن كل جديد عند محجوب يأتي صدفة، وغير متناسق. حياته هي التي تجعل الأشياء متناسقة، فهو قادر على أن يستولد إذا ما زوجوه مرة أخرى. تعوزه ظروف حياة، لو تّسرب شك إلى عطب آلته. لأن (محجوب) الكفيف قُبِض عليه مُتلبساً في حوش العمدة ذات ليلة، بدعوى أن حمام العمدة يعد الحمام الأول في القرية، منبع البعوض وبعض الحشرات الحمراء، التي تزاحم قاضيو الحاجة دائماً، وتتسلق أجسادهم خصوصاً في الظلام، وهو المعني بطردها، ولأنه جار ملاصق يمكنه أن يقوم ببعض أعباء العمدة الشخصية، وغير الشخصية، وقد يكون مُمّثِله هذا إذا تراءت للعمدة مأمورية مفاجئة، أو جولة بحثية وتَسّلم ضريبة القيمة المُضافة، وشرحها للباعة الذين لم يمّن الله عليهم بمتّسع، لفهم الإجراءات المكتبية والديوانية الرتيبة والمتّجددة عاماً بعد عام. سقط محجوب في المرحاض، فاقداً الوعي، ولما أفاق وجد أمامه مجموعة من كائنات غريبة لم يرَ مثلها، تجتمع على مائدة خاوية، أمامهم كؤوس من قرون الأيائل، وكراسي من أظلاف النِعّام، يراهُم بشعورٍ طويلةٍ وتارةً أخرى يراهم بلا رؤوس. جنّ جنونه، لم يسألوه عن كيفية وصوله إليهم، لكنهم طمأنوه في أنه سيتلقّى أقل عِقاباً مُمكناً، ولكن عليه أن يتجّمل بالانِتظار، لحين انفِضاض الجلّسة، وما يتمخّض عنه اجتماعهم. (أخبر العمدة حاج الخير، في أننا لا نريد مُشكلات معه، ولا مع أولاده، يجب أن يرحّل من الطاحونة، لأن أولادنا ينامون فيها. وأنت ستكون عِبرة لهم، وليفهم العُمدة جِديّة مطلبنا). أحس أنهم أسقطوه من مكان عالٍ، فارتطّم بوسادةٍ باليةٍ. شيء ناعم وبملمسٍ لدِن، كان سقوطه داخل ديوان العمدة الفسيح، وسادات قطنية كبيرة، خففت الإرتجاج. أفاق وهو كفيف، قال لهم أن الجّان الذي رماه قد أسقطه بطريقة فنية، لأنه لو كان بشرياً لتسبب له بشللٍ كاملٍ. يعرف أن يسلك طرقات القرية بخبرته السابقة، ويذهب إلى ديوان العمدة منعقداً أو غير منعقدٍ بخبرتهٍ السابقةٍ، ويميز بين الألوان بخبرته السابقة، ويضل بخبرته السابقة! عاش هائماً في القرية، لا تربطه صلة إلا بالعمدة وجدي فضل الأزرق. صار عبئاً على العمدة، تخلى عنه الرفاق القدامى، والمكان لم يزل واحداً. قالوا إن محجوب في الأساس لم تكن أفعاله طيبة. لم يتفق شخصان إنهما قد رأياه، وهو ذاهب الي المسجد، أو عائداً منه.
                  

08-30-2019, 01:25 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)





    5

    أتوقع أن أقابلك هذا المساء، يجب أن تُحضر معك زيتاً وبَصلاً وتَوابِلاً، لأن سالم وعد بأن يُحضر معه بعض السمك، على أن تكون الجلّسة في منزلهم، لأن والدته وزوجته سافرتا إلى الشمالية، ولا يوجد في المنزل سوى والده محجوب الكفيف، وستكون جلستنا أجمّل. (هأنذا قد وصلت الآن). يرد سعيد المسنوح، بعد أن عدّل في وضع طاقية حمراء يضعها على رأسه: أنت تعرف أن هذه الجلسة لن تكتمل من دونك، حاول أن تأتي بعد مغيب الشمس مباشرة. طلّب مِني أن أضع القنينة عند سالم عامل المحطة. نسيم عبر أمام أنفي. نشوة قفزت لأعلى رأسي، وكأني حاضرُ سراً، وقد حبِلت بِي أمُي، وأرضّعنِي توجُّع المِيلاد غابة الحلوى، فامتزجت مع النبيذ. فأي هذا العِطر الذي سّماه ربّك أنني..! مع بزوغ الشمس تبدأ أفواج الزّراع في مغادرة القرية. يقابلهم صباح ثقيل مع هبوب رياح يونيو. جلبابات من الدمور مبعثرة هنا وهناك، على مد البصر. يصبغها عرق الظهيرة. خيوطه غليطة، يصعب على الترزي أن يطول الجلباب بماكينته العتيقة، التي يقال إن العمدة اشتراها لأبنته الرضية بعد زواجها من سالم المحولجي، الذي كان ممثل هيئة السكك الحديدية في القرية. لم يجد العمدة بداً من تزويجها له. كانت الرضية قد زُوِجّت لسالم، استنفذت علب دهانات كثيرة، صار وجهها بلون أقرب إلى أصفر داكن، أكثّرت من التركيبة التي وصفها لها بائع الأعشاب بوسط سوق الخرطوم. كركم وزيت زيتون. مسّحت وجهها ليكون قريباً من لون أصّفر أهُرة. سالم المحولجي لم يكن يشتاق إليها، بل كان يدعوه واجب للقيام بالأعباء الزوجية. على أية حال كان متوافقاً مع نشاطه، وأنها كانت ثمرة علاقة طفيلية. فحولة زائدة تعمي صاحبها عن اختيار موفق في لحظة طيش. إلتقاها وكانت تسافر بلا أنيس، سوى عمتها البدينة، لا تكف عن التهام حشوات طحينية، حتى تقبل على الآخر. لا يهم من الذي أتى بها، وماذا يجري بين بنت أخيها والغريب. تلبى نداء معدتها التي لا تكف عن الصفير كما تزعم. يعلو شخيرها قبل أن تغّسل يدها من بقايا الطعام. اتفقا إذا ما وصلا إلى القرية، سيتقدم لأبوها العمدة. ولأن الفتاة ليس هناك ابن عم ينتظرها، كل أبناء عمومتها، قد انتقلوا إلى الدار الآخرة، بعد أن حاولوا تسميم (فضلوباقي) التاجر المعروف بالمنطقة. رجل كانت تخطئه كل اللعنات. حينما بدأ تجارته متجولاً على ظهر حمار بريراوي. يرتاد المنطقة شهرياً محملاً بالبضائع والعطور والكُحل وعُلّب الصلّصة والأواني، يخّلط زيت بذرة القطن مع زيت الفول، وزيت الفول مع زيت الإغاثة، ويقوم بتعبئتها في عبوات بلاستيكية صغيرة. بعد أن دبروا له مكيدة، واقتادوه إلى وليمةٍ مسّمومةٍ على أن يسّتفردوا ببضاعته إلاّ أنه أحسّ بشيء ما في ذلك اليوم، فقام بإحِضّار آنية لبن رغم إنهم حلفوا عليه بالطلاق. قال لهم: (طلاقكم لن يقع. ده طلاق لغو. وبعدين نسوانكن ديل أين هنّ؟ نحن ما شفناهم)؟ يندب حظه لأن الزيجة التي هو بصددها، كانت نتيجة لصفقة خاسرة لم يكن له يد فيها. والده محجوب الكفيف ذو السبعين ربيعاً كان صديقاً للعمدة، بيد أن الصداقة التي بينهما لم تكن حميمة بمقياس زعماء العشائر في تلك القرية، كان يكتنفها غموض واضح، كأنه يعرف عن العمدة أمراً مشيناً ، ويصر الأخير أن يبقيه تحت بصره دائماً. ولم يكتف بذلك، بل صاهّرهُ بزواجِ ابنته من سالم ابن محجوب الكفيف. أحس العمدة بفطرته العمودية، والتي لقنتها له الحكومة إبان الحكم الشعبي المحلي، والتنظيمات الفئوية، وغيرها وغيرها، فقد آل على نفسه أن لا يكون محجوب الكفيف قد حاز على أي وظيفة في مجلس العمدة، فتم تعيينه ملاحظاً صحياً لشؤون البيئة، فقال في نفسه لابد أن تطبيق اللوائح من حيث وقف حمار العمدة واصطبلاته، وبدأ بحمام العمدة، وكان ما كان. 6 القمر تلبد طويلاً ثم بزغ، إلاّ أنه بدا باهراً. ثلاثة أشباح بهاماتٍ بيضاويةٍ وأقدام طويلة كما تُبّين ظلالهم، يغزون الخطى. يتوارى أمامهم ظل ملابس بدت ثقيلة في احتِّجاب القمر المفاجيء، أحدهم يحمل جوالاً تكدّست في نهايته كتل لينة. نقاط من سائل رقراق يسيل، تملأ قعر الكيس، وتُظّهِره بوزن ثقيل، لأن حامله يسحبه أثناء مِشّيَتِه المتعرجة على جنبه، بينما الآخران يحملان قنينة بلاستيكية، بدت بلون أبيض. فالأشياء التي يحملونها ثقيلة إلاّ أن الذي بداخلها يبدو ذُو قيمةٍ لحامليه. انبروا في تسارع نحو الحوش الوسيع، وعبروا في خفة الساحة الأمامية، وتخطوا الميدان الخلفي المُسيّج بإطارات سيارات قديمة جوار المسجد. صوت سيارة تقترب، يقفز منها شرطيان مسلحان، لم يتركا لهم فرصة للهرب. يفتشان محتويات الجوال، يصعب على الشرطيان أن يستخرجا الأشياء المتراكمة من جوال الخيش، بسبب علوق بعض حراشف ببنية الجوال ونسيجه. يفرغه على الأرض، كمية من سمك البلطي. قنينة ملأى بالعرق. يأمرهم الشرطيان بركوب العربة، يقتاداهما إلى المخفر. كٌتّب في الحيثيات، شروع في السُّكر. سيقضيان الليلة في الحبس ريثما يسفر الصبح. القاضي مسافر، ولن يعود إلى القرية إلاّ بعد يومين. قدري هو الذي قادني لأكون حبيسا. - (يا جنابو نحنا ذنبنا شنو هسه؟ إنتو قبضتونا ساكت نحنا ما شاربين. وبعدين إنتو خليتونا شربنا؟ وبعدين الجركانة بتاعتنا دي وديتوها وين)؟ - يرد الشرطي بصلف: (أمنع الكلام يا زول، دي معروضات نقدمها للمحكمة). - (يا جنابو الله يرضى عليك، وضّح لينا الحاصل. نحنا ما سكرانين. ووكيل عريف ده جابنا المرّكز. وبعدين نحن نعمل شنو؟ والله يا جنابو عندنا مشاكل والأولاد في المدارس، والمدام على وشك الوضع. وعايزة تختن البنات، والله مشاكل تشيب شعر الرأس، عشان كده قلنا نجقم لينا حاجة كده سريع، ننسي بيها الهموم، قبل ما يحصل شي، تصادروا حاجاتنا، عرفنا الجركانه دي معروضات، السّمك ده ح تختوهو في فترينه لمن القاضي يجيي)؟ أجدها سانحة مناسبة لشغل الشرطي، بحديثٍ كثيرٍ ومتداخل: (يا جنابو أنا جيت من الخرطوم عصر اليوم، قلنا نهرب من هناك، ونعيش الجو مع الشباب هنا، وقبل ما نعيش الجو تجو تقبضونا)؟ - ( أمنع الكلام يا زول، عامل فيها مناضل كمان. إنت من هنا حتزور الجماعة القريبين مننا هنا وهم طالبوا بيك، لأنك توزع منشورات ضد الحكومة). كانوا يقولون إن عرقي مستورة كان كافراً، بحق وحقيقة، ويُلّحِق بعقل من يشربه، أو من يجالسهم. عندما يشّح الوقودـ كانوا يديرون به السيارات. الجو خريفي، والطريق غير معبد. عربات تغوص في دوامة الوحل. القاضي لن يتسنى له الوصول إلاّ على ظهر جرار زراعي. يتذكّر سعيد المسنوح أن المناسبات السعيدة تقترنُ عِنّدهم بالمطر، إلاّ حين يفكر فى الشّراب، انتعاش يسري في أوردته، وهو يرقد داخل غرفة، سقفها من سعف النخيل. فانوس يُوقّد بالجازُولين. فناء الدار يستوعِب مرور نسيم خفيف. رائحة أشجار الليمُون عندما تَتَساقط عليها حبات المطر. عبق لا متناه. تمدد في أفق القرية الوسيعة، تنتابه أحوال مريبة. غير قادر على التخلص منها، مثل الذي أصابته لعنة. لوثة مؤكدة. مصيبة في آن. الجو ينذر بشيءْ غير محتمل. كارثة وشيكة. لا أحد يمكن أن يتصور ما سيؤول إليه الحال. أسراب هائلة من النمل ذي الريش انبثقت فجأة من كل مكان. حكيك متواصل، تشوبه ندرة المشروب. غطى النمل على منزلي سالم وسعيد المسنوح. تسلقا المئذنة. أظنه وباء. شيخ عثمان، يبدأ تجاربه مساءً. طالت غيبته. نمل نمل. أغشية وريش شفاف. عضةٌ مسمومةٌ. إن صُنع الله ذات، تأكيد سطوات الإله. فيا مُعذّب لو تغنى ساحرٌ فينا، طربنا، وأنتفضنا، ثم ثُرنا، ثم غضّننا السراب، ولأننا ولهى ومَشّعوِذون، بالجسد الذي ينسّى الحساب، ثم علّقنا الأماني العطرات، وأغلقنا حساب النقد. لا يعرف الإفلاس معنى أو طريقاً، وأقصرنا صكوك العشق للباعة، والغفران والسلوى. ولأننا، والله صدقنا، وفي التصديق أسرفنا، لأنك أفضل الجمل المفيدة، لا يغيب فاعلها ولا ينأى، والموصول في دمها سُلاف إستثناء، ولا يدري حرف العلة أين يقيم! يا ساري الليل، يا ساري الليل، أنت مثل نشيد قديم. أرجوزة من سديم. مثل حظوة نالها المرء دون جهد. تنشِدني نشيدك، وتحمِلني على كفك. لكن رغم ذلك، سينزل وباء عظيم بكل ثقله. جيوش نمل وبعوض. (فضلو باقي) سيجني أرباحاً كثيرة. تتصارع أفيال ثم تخسر حشائش. أرض خصبة لنمو طفيليات من نوع جديد. قبل فترة من الزمن استلم من قريب له يعمل في إحدى منظمات الإغاثة، كمية من دواء (الكلوركين)، ومحاليل وريدية، وطعانات، وزيت (أولين). أخفاها في مخزن الشمباتي. سيزدهر سُوقه لا محالة. ستنشط تجارة الدواء. سوق جديد نبت فجأة. هجسٌ أكبر من المشكلة نفسها. الناس بدأوا يتناقلون أن العمدة أزمّع السّفر إلى العاصمة، ليوضح للمسؤولين مشكلة النمل أبو ريش. والبعوض الذي أتى في غير موسمه، وقد يوضح لأمباشى الشرطة الصراع الخفي، والذي صار معلناً بين فضلو باقي وشيخ عثمان. كان العمدة يحب نمط إدارة يجعل المواطنين كثيرو التردد عليه، يلم بأخبارهم، وبتعدد مصادرها. من جلسات سعيد المسنوح وصاحبه سالم المحولجي، من داخل خمارة مستورة. عسس يجوبون الأزقة، يحكون للعمدة بإسهاب عن مشاكلهم الاجتماعية والعاطفية، وعن بناتهم اللائي وصلنّ سن الزواج، ولا أحد يتقدم لهنّ، أمهاتهن ّ يضعن شروطاً صعبة للأزواج المتقدمين، وهنّ(شينات ومفلهمات). وعن كمية الذرة التي بحوزتهم، وعن ابنهم المغترب الذي أرسل لهم مبالغَ مالية، وابنتهم المطلقة التي عادت من المدينة، بعطورها المبهجة. ترمي بيدها بعيداً، فتصلصل غوايشها في إصرار. ساعدٌ بضٌ ورغبة أقوى. يخافون على بنات القرية أن يحذيّن حذوها. الرهان للعمدة وحدة، (يا بت اللذين، عندنا مشّورة ). ترد بغنج: (أجي شورة شنو يا عمدة؟ خلي الليل ينزل). 7 حين يبرد لفح الهجير، ننتظم، أعمانا يحمل المعاق، وكل بعصاه يهش على غنمه، أو يحك بها ظهره في المواضع التي لا يمكن أن تصلها يده. فرصة نتداول فيها الحكاوي. وننتظر حديثاً مسهباً من المدير، كتنوير عن الموسم الزراعي. ففي المساء يتحلّق بعض السكان داخل فناء المدرسة يرجون من المدير، بأن يلقي عليهم درساً. حاج التوم يبتدر الكلام، موجهاً حديثه للمدير، الذي جلس على كرسي، بينما، جلس الباقون على الرمل:( نريدك أن تفهمنا دروس الفقه. وبعدها تلك البذور التي جلبتموها من الحكومة، لا بركة فيها. الواحد منا يتقلب بالليل، ذات اليمين وذات الشمال، أسلمنا ظهورنا لنسائنا. أقسم بالله، كانت البذور مخلوطة بالمبيد). يرّده المدير بصوتٍ حاسمٍ :( يا حاج التوم، لا داع الفضائح، الحمد لله هنّ مستورات الحال، ويعرفنّ ذلك من أثر البذور الجديدة، ذلك الشيء لم يكن منا). ضّج الجميع بضحك مكتوم، تحسسوا أشياءهم بخفه، وأبعدوا أياديهم بسرعة. أهل القرية يقبلون على زراعة الفول والبامية والعدس، وزراعتهم في طرف القرية تتخللها جداول الري مثل الشلوخ التي تنتظم على وجوه بعض نسائها. جدتي، وصديقتها زهرة برهوم. ككل بقاع البلد. الحكومة استغفلتهم بأن اشترت منهم المحصول مقدماً ولم تنقدهم مليماً، فكروا أن يتمردوا عليها بأن يزرعوا خضروات بدلاً عن القطن طويل التيلة. غير ذلك فهم بعيدون جداً من العاصمة. حيث تحّط الطائرة، وينام الرئيس. النظام في العاصمة وحدها. لن يلحقهم غضب الحكومة المركزية، وأما المجلس البلدي فهم أهلهم، ومن الصعب تمرير قرار على رؤوسهم، فسرعان ما يتناولونه بالتقريظ، بعد أن يلتقوا في ساحة المدرسة. طريق صحراوي مقيت، وممل وطبيعة بكر. رمال وأودية بعيدة الغور. تشكّل رسوماً على رمل الطريق. أُديرت موجة راديو بلونٍ أحمرٍ فاقع، فيستمع لإذاعة (لندن) وصوت (أمريكا) و(مونت كارلو). الناس ينصتون في تؤدة إلى صوت يأتي من بعيد، بتشويش، وحشرجات كأنه طنين ذبابة، تطِّن وتزِّن، تقول (هُنا أم درمان). الوافد إلى الحياة في سيرتها الحسنة. يحظى بالهامش، ويبني بيتاً عشوائياً وينتظر. حتى يلتقي الوعد بالأمل. يتلاشى الخوف. لا يبقى إلاّ الحب. تراب بلد مختلط بأيديولوجيا هشّة. وتهافت من لا يرتاح إلاّ على تعب الجوعى والمعوزين. يبني حلمه على أضغاث أحلام أُناس بسطاء. فالذي حدث، كانت الحكومة قادرة على أن تدِس أنفها في كل شيء. فالعمدة، وفضلو باقي، ومدير المدرسة، وشيخ عُثمان، ومستورة، وسيده بنت مغبون كانوا هم لجنة الأمن في القرية.
                  

08-30-2019, 01:53 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    -8- تتوغل الأزمة داخل جيوبي. تنتفض قرابيب سُود. ينفش الأسى ريشه. من محطات سبقت يأسه وضجره. في وجه من لا يعرف القرف. هكذا. وهو خارج للتو من المنزل. لا يعرف بأي طريقة سيصل إلى قلب العاصمة، ماضياً اليها من أطرافها البعيدة. لا بأس من أن يقترض بعض الجنيهات من (فضلو باقي). مشى ناحيته وهو غير متأكد هل سيقرضه الجنيهات التي يحتاجها. ستسعفه للوصول إلى ميدان (أبو جنزير) في وسط العاصمة. كما عليه أن يرد دينه في المساء. جمع من النسوة. يتزاحمنّ أمام دكانه الممتليء بأشياء غريبة. (فضلو باقي) رجل غريب الأطوار مثل الأشياء التى جمع بينها في دكانه المتسع. يبدو بسبعة أرواح. ومثل اسمه الذي تم تركيبه قسراً. صفات يصعب الجمع بينها. يقابلك هاشاً باشاً، هو في الحقيقة يتفحص جيوبك وطريقة مشيتك، فإذا كانت واثقة فستشتري منه نقداً، أما إذا رمقك تؤخر رجلاً وتقدم أخرى، فالطريقة التي يرسم بها تعابيره جاهزة في وجهه. عند شد تجاعيد وجنتيه، وتحت جفنيه، يظهر إنه كان رجلاً شديد سواد البشرة. وبعيون ضيقتها صروف الدهر ونوائبه. فارتكّن إلى لون رمادي باهت، يزم شفتيه كلما كان الأمر قاسياً، أو كان هذا الأمر يمر من خلال درج خزانته، وهو أمر لا يقبل القسمة على إثنين. فهو بقدر ما حاول أن يداري ما يبدو من أشيائه، وإصلاح عطب الأيام التي تآذت من سيرة فحولته في القرية. يميل دون وعي منه إلى أمنية خصوبة جائحة. تغطي على مسامات النساء عندنا. (شبقات ومستورات الحال. وإذا وجدنا ما يُريح. نَهلنّ منه وتمسحنّ بباقيه لأنه يفتح مسامات بشرة الوجوه. وطعم الطحنية جاذب لهنّ، وهو ما يجعل جسومهن ممتلئة وناعمة). يقول بعد أن يعقب حديثه بضحكة خبيثة مجلجلة، وهو متكيء على سرير قصير الأرجل، وضحك معه حاج التوم، الذي كان منبطحاً على كومة الرمل، فجلس، كأنه يمدد ضحكته مجاملة لفضلو باقي، أما حاج البُشرى فقد كان ساهماً، وغشيته الضحكة في نهايتها، فابتسم مجاملاً لهما. وضع يده على باب المتجر. ينجرد البخور من كل عافية، يعطيه إحساسا مشوباً براحة خفية. يتفسخ حساب الدكان من دفاتره المتسخة، وأطرافها المطوية بباقي الزيت في أنامله. عجين الطحنية المعسولة المتلككة، يمسحها على جُلبابه المتسّخ أصلاً، يمررها على القماش، كأنها مسحة بفرشاة عريضة للون زيتي، على إطار مستطيل من قماش (الكنفاس). (فضلو باقي) جاوز منتصف الستين بمهارة، ويبدو أقل من ذلك بكثير. كأنه من بقايا الحرب الباردة. ثم تم تفكيكه مثل صواريخ ذات رؤوس نووية. بذات الرأس المدبب، له غزوات لها أسماء كبرى. يعرفها حاج البشرى وود طه، فقد كانا يمثلان أبناء دفعة واحدة، ولهم مكاشفات فيما بينهم. بعد أن مضى به العمر، فأنه قلل من تحركاته خارج متجره. وجعل معتركه في المخزن المجاور لدكانه، الذي يخزن فيه جوالات فحم، وصناديق مياه غازية. متجر يحتوي على مجاميع غريبة ومتنوعة من أصناف، تبدأ من إبرة الخياطة وشاش المسّرجه، والأقفال، إلى معلبات البازلاء الخضراء. علب الساردين الذي تبرّعت به المنظمات للمدارس الداخلية، ولبن البدرة الذي تجلبه منظمات الإغاثة. عندما تقف أمام متجره، تصفع وجهك روائحَ متداخلة، يصعب عليك تمييزها من حيث النوعية، والصنف، وصيغة المزج التي تمت بها. لكن أقرب رائحة يمكن إستساغتها هي رائحة جبن مُتَعفِّن. وربما رائحة فأر ميت منذ مدة ما، بين الزكائب، والأغراض المتراصة في الأرجاء. الطاولة التي عند المدخل. بها طبقة من طلاء غير متماسك بني اللون، وغير جاف ومتكلس الحواف، عند الجهة التي يتكيء عليها الزبائن بأكواعهم وسواعدهم. فدكانه هو المتجر الوحيد الذي يعلن عن استعداده لتقديم الخدمة في كل الأوقات، فكثيراً ما تم إيقاظه منتصف الليل لأن هناك ضيوفاً قدموا لأحد جيرانه، أو استدعوه لأن شخصا ما توفى، يستعجلونه ليقطع لهم أمتاراً من قماش الدبلان أو الدمور لخياطة كفن. 9 صارت تفصله خطوات قلائل عن واجهة الدكان، فكّر في أن ينتظّر حتى تقّل حركة النِساء، فلا يَحرجَه أمامهنّ إذا رفض أن يسلفه المبلغ. بقيت حاجة (السارة)، وهي كاسمها. لا بأس من أن يتقدم. قريب جداً. يجرجر خطواته بين تقدم ونكوص. لا يخجل من أن يرجوه كي يقرضه مالاً. وهو على هذه الحالة. وفجأة.. غمر المكان عطرُ غنجٍ صريحٍ. وانقلّب الماء على الغُرّبالِ. تزّجج الأفُق دونما قَوس قُزّح. وكأن المكان قد حدث فيه تفريغ هائل للمجال، مثلما يحدث قبل انفجار عظيم. عِطر يبحث عن أنفي. تفتّحت خياشِيمي إلى سِعة لم تعّهدها رئتيّ من قبل، واستدارت رقبتي دون وعيٍ مني. إنها هي، الفاتنة اللعوب. سينشغل عني فضلو باقي. لن يدع لي مجالاً، ستأخذ هذه الحسناء كل شيء. ميعادي جوار حديقة أبو جنزير يبدو أني سألغيه. وكأن كل شيء كان معقوداً على رائحة فاحت فجأة، فاختل نظام كامل، وعاد الزمن إلى نقطة الصفر. وجعل العيون تتجه لجهة واحدة. وتلغي مواعيدَ سابقة. ينقبض حجابي الحاجز. يتملص القلب بسبب موعد تبدد. فجأة تحرك جلبابه. أتت نهلة. الزمن يتوقف مبتسماً بين رجلي (فضلو باقي). تدلت أشياؤه إلى أسفل. مالت عليه. فستانها تفتق عن حيل تنطلي على مخيلة جسد هرم ظاهريا. فوضى تم التأسيس لها بمهارة. تخاتل رفيقاتها. أن ثمري قد نضج. أمي ترفع سعري. قالتها وهي ترفع نهديها محركة خصرها اليمين إلى أعلى. (سأكون منتظرة لك، ولكن هل ستنتظر أشيائي الناضجة )؟ دائما ما تفضحني تأوهاتي، وأنا أجيل مؤخرتي يمنة ويسرة أمام أولاد الحاج، القابعون غير بعيد عن دكان جدهم. سأهاجر من أجلك، من أجل ذاك الجسد الرهيب. سأتفشي كالوباء في بلاد الصقيع. لكي أعود محمّلاً بكل (الدولارات). لكي يحتفل بنا المكان، أعرف أنكِ شريفة رغم علاقاتك مع فضلو باقي. لم تعد له قوى كافية لكي يصهر بها جسد متوفز. وبعدها، لا مشكلة كل البنات صِرنّ على نفس الشاكلة. ألهي لهوك. سيحزن كثيراً حين أعود محملاً بأنواع العطر. تشتاقين لي كثيرا. أعرف ذلك. أوعزت لي نفسي الأمارة بالسوء، تقهرنا النقود التي تكدست عند بعض من لا يملكون لها فهماً. قضيت عُمري أقرأ من أجلك. من أجل أن أحُيطك بيدي. على ثيابٍ بيضٍ من الروعةِ. خيولٌ تسابقُ الشوق وتأتي جامحة. سأراقبك وأنت تأتين. تسعد الحياة حين تراك. يتحدث:(ابتعد يا أيها الذي لا يملك شيئاً. المال ليس وحده هو الذي يصنع الحياة). يتداخل مع الصوت الآخر: ( قل لي منّ مّنا هنا سيصّنع الحياة؟ المال هو سّيد المجال. مسّعورة. كلبةٌ حائلة ٌتخشى أن يفوتها موسم اللقاح. فبعد أن تخرجت من الجامعة، كانت تظن أن الحياة ستكون وردية مثلما، كان يلونها لها خطيبها السابق سعيد المسنوح. عاد بعد سنوات اغتراب طويلة في العراق، تقاسمت معه أشياؤه، ظن من بعدها أن العطاء بهذه الوفرة يمكن أن يُمّهد لرجل آخر، موطيء قدم. هجّس دونما يُمعن فكره، ففسخ خطوبته منها. نداء لجسد. كأنه يعوي. يصيح بها. يتفرّع في الأماكن. يعدو مُتخللاً الفراغ. أزِقة أم دُرمان ضيِقة. بيوت طين لازب. تختلس من نظراتهم زاداً لرحلة جديدة، يتدحرّج فوقها أحدهم:(يا إخوة، خذوا حذركم من هذه المتلازمة). كان والدها يعمل بناءً، سقط قبل أعوام من بناية حديثة المنشأ، توقف مصدر دخلهم. أخيها الذي يكبرها بعامين إثنين. هاجر إلى مصر، قدم طلباً للجوء. بعض العائدين قالوا إنهم شاهدوه مع أحد سماسرة الموج، الذين يبحثون عن زبائن ليعبروا بهم البحر المتوسط، فلم ُيُعّرف عنه شيئاً، هل وصّل لأوروبا أم استقّر في بطنِ حوت من الحيتانِ. ومنذ ذلك الوقت انقطعت أخباره. باعوا بيتاً يخصهم في مدينة الدويم، على أساس أنهم في نهاية الأمر سيرحلون إلى الخرطوم العاصمة، التي تتراكم فيها الجامعات، وتُقضّى فيها الحاجات. وتتناوب فيها الانقلابات، وتُنال بها الرغائب، لدى المتنفذين من أذرُع النظام. ويسّتسقى الغمُام بعماراتها الشاحبة، التي كانت دوامات المداخِن تزيد لونها رماداً في رماد. أخيها الغائب. تَخَرّج في الجامعة، اشتّغل كعامل بناء. الفلسفة! تجعلك تأخُذ دُروسا عملية ومجانية من الحياة مباشرة. صاحب المنزل يحاول أن يساوي مديونيته بلقاءات متعددة. ابن عاق سافر في متاهات الدنيا، لا أحد يدري متى سيعود؟ وأب مقعد، توسد الشلل أعصابه فصارت باردة، وزاد عليها تعاطيه لل(تمباك)، يسّتمد كيّف يومه. في الجامعة، قضت سنوات طويلة أكثر من سنوات الكلية التي قبلتها طالبة. قالوا إن أحّد الأسّاتِذه كان يؤجِل تخرُجها عاماً بعد عام. رصيفاتها تخرّجن قبل سنوات، (أصلو مافي شغل، الواحدة تتخرج ليه من الجامعة؟ كانت خاتمة لكل صاحبة حاجة. في شارع عريض معنى آخر. ممّشى تمُّر عليه كل السّحنات. هيئات منسحقة على الجهات التي قدِمّت منها. 10 تأخرت عن موعدي في ميدان (أبو جنزير). مازلت واقفاً بباب المتجر، النسوة مضينّ، وأتت أخرى، أخذت حاجياتها، وبعدها جاء طفلان، يتنازعان فيما بينهما، أٌيهما سيقدم تلك الورقة السماوية اللون إلى البقال. جاء أخي الأصغر عثمان، بلثغة في لسانه: (هدي دالت (قالت) ليت (لك) تعال سريع)، في شنو؟ خالي حامد دا (جاء) من السفل (السفر). تداخلت معه بعد أن تمالكت نفسي قليلاً:( وخالي حامد جاء معاهو منو؟) معاه ولدو. لا حول ولا قوة الإ بالله العلي العظيم. رجعت للبيت، وفي أنفي عطر خيبة كبيرة. خالي حامد الدخري لا ينقطع عن الحضور إلى الخرطوم. فكثيراً ما لفّق له سبباً للمجيء، فهو محب للراحة ويسعى إليها. همس يدور هنا وهناك، أنه يَكّن وداً لأرملة ضابط توفى في الحرب. بينهم شغفٌ و مراسلات. وأظن أن أمي تقف وراء هذه المكيدة، فكثيرا ما اشتكت من زوجة خالي في أنها كثيرة النوم، وغير مهتمة بالضيوف، وأطفالها متسخون دائما، وهي لا تألوا جهداً في الذهاب إلى شيخ عثمان الذي ليس ببعيد عنهم. طبع خالي لم يتغير، يمارس برنامجه اليومي بانتظام في الزراعة. يختفي عدة أيام ثم يظهر رائق المزاج، ونظيف الملابس ويضع في جيبه الأمامي قلمي حبر جاف، أحدهما بحبر أحمر، والثاني بحبر أزرق. وهو لا يعرف من حروف اللغة العربية إلاّ حرف الواو! ويعود ملتمعاً. يعمل طوال الأسبوع بهمة ونشاط غريبين، حتى نظن أنه لن يعود إلى الخرطوم قريبا، وفجأة يختفي بمثلما ظهر. صحيح أنه من أسرة متدينة وكبيرة ومعروفة، ولهم شيوخ يربِطون الليل بالنهار في صحيانهم. ولكنه لا يملك تلك المهارة التي تبقيه صاحياً، ولا يظهر لك أنه قد أدرك سهرة التلفزيون في العاشرة مساء. تواصل حليمة منقاش زوجة خالي زياراتها لشيخ عثمان، فيزودها بالجديد من الماء المقدس والقراطيس، لتسكبه في مستودع الماء، أو لتدفنها في الغرفة وفي فناء الدار. محاولاتها لم تجدِ فتيلاً. حامد الدخري ذلك النوع من الرجال الذين يعملون بجد، ولكن أيضاً لهم أشياؤهم التي لا يعلم أحد عنها شيئا. فهو مصفح كدبابة، لا يسري في بدنه ما يمكن أن يمنعه من أن يحقق مايريد، له من الأولاد ثمانية وخمس من البنات. وفي بحث دائم عن جديد. تقول زوجه خالي (والله يا أولادي أبوكم أبى الوساع، وخلانا داير الضيق، الله يوسعها عليه دنيا وأخرى!) في إحدى المرات، صحا مبكراً. بحث عن مسبحته، رفع وسادته فوجد تحتها ورقة مطوية بشكل مثلث. وضعها في جيبه، ولم يحدث زوجته بما وجد، واصل يومه كأن شيئا لم يكن. ظهرت زوجته خجّلة، لم تستطع أن تسأل، من أخذ تلك الوريقة؟ بقي السؤال محبوساً في داخلها. في طرف الحلة الجنوبي جوار حي فلاته، ازدحام كثيف وأطفال يلعبون، ونسوة يأتينّ مُنقبات بالثياب. ومغطيات الوجوه لا يظهر منهنّ إلاّ الأعين، يدخلنّ أحد الأزقة. يظهر من حركتهنّ الوجلة أنهن غريبات عن الحي، يتلفتنّ يميناً حيناً، ويساراً حيناً آخر، وتدخل إحداهنّ مهرولة في نهاية الزقاق المسقوف، والذي يظهر مظلماً جزئياً، يفتح على باب صغير بلون أسود، يؤدي إلى فناء غير متسع كثيراً، ملتصق بغرفة مقسمة إلى جزئين. بداخل الغرفة يقبع شيخ ملثم، يقال له (شيخ عثمان). يُزعُم أنه لم يرَ الشمس منذ عدة سنوات. قدِّم من النيجر، كان في طريقه إلى الحج، وعندما وصل إلى القرية وضع عصا الترحال، ولم يفكر في مواصلة رحلته المقدسة أو العودة إلى بلده. لم يعرف له زوجة ولا ولد، ويُقال إنه متزوّج من جِنية، يدخل إليه الناس، في أشّد الحاجة، ويخرجون منه وأشياؤهم ومشاكلهم قد حُلّت. يدخلون إليه فرادى ويخرجون جماعات، تذهب إليه المرأة عاقراً فتخرج مُغتّبِطة بالمولود، يدخُلون غرفته تعساء، ويخرجُون سُعداء، يمشُون إليه حَزانَى ويعودون منه فرِحِين. كأن مفاتيح القبول كانت تربض بداخل جلبابه الوسيع، وجيبه الذي يحوي قلمي حبر جاف، بلونين مختلفين، ووجه ملثم. زوجة خالي بثوبها الليموني الفاقع، ثوب وحيد في القرية. تتسلّل عبر الزقاق وتعود إلى المنزل، تحمل بين يديها شيئاً ملفوفاً، أسّدلت عليه ثوبها من فوق، تنظُر يميناً و يساراً، ثم تُهرول إلى وسّط الشارع الكبير، كأنها كانت تمشي فيه من بدايته. قال شيخ عثمان : (من القزازة دي. نسها (نصفها) في الزير، والباقي، أأمالي(أعملي) منو شاي الصباح. وأسقيهو مع الأولاد، إن شاء الله تعالى يسرف (يصّرف) نظر عن المره دي)، قالها بلكنة هوساوية، وبإيحاء شديد. 11 لم تتخلَّ حليمة منقاش عن زيارة فكي عثمان، تعود مُحمّلة منه بأشياء ملفوفة تُخفيها تحت ثوبها الكبير. خالي يشرب من الزير، ويرتشف كوبين من الشاي، ومن أكواب كبيرة، ويركب حماره، ويعود إلى منزله مساء. لا أثّر ولا تأثير، ينتهرها إذا تأخرت عن إعداد العشاء. يبدو مصفحاً. لا تؤثر فيه أي سوائل يشربها، أو جوامد يتغذى بها. ينام ملء جفنيه، يهب صباحاً كالحصان، يمضي النهار بأكمله في جهة غير معلومة، ويعود في الليل. وحليمة منقاش تزداد استغراباً. كل من يدخل على شيخ عثمان أمُوره مقضيةٌ، وأحواله سالكة إلاّ هي، جارتها (سيدة بت مغبون)، نصحتها أن (شيخ عثمان) له من خّدام الجن ما يفوق المليون، ويمكن أن يصيب أبناؤها شر، إذا ما هي تحولت إلى فقير غيره. الفقير ند للفقير الآخر. قنعت زوجة خالي بالمشاوير الأسبوعية. تحمل أشياءَ تخفيها تحت ثوبها. وتصُب نِصّفها في الزير، ويشرب خالي حتى الثمالة ولا يثمل. رجعت به ذاكرته إلى الوراء، أحواله المالية مضطربة من زمن طويل، يعمل بمهن مختلفة كماً ونوعاً، يعمل صحافياً وأحيانا موظفاً في شركةٍ. شظف عيش اسّتمر طويلاً. صارت العاصمة جافة ولافتاتها مهترئة. كل شيء يحتج حسب الطريقة التي أوتيت له أو لها. مبانٍ تقف صارمة ومتورمة من سهادها الطويل، والشوارع أقمشة باهتة تسير بلا هوادة. خوف ومُطاردة وتوقيف بدون سبة. تُدندن بلحن عاطفي، جوار بسط الأمن الشامل أو في شارع حكومي يتم توقيفك، خريجون قدامى عالقون داخل سور جامعة. كان يجب أن يبتسم الحظ. موفور العافية وأخضر الساعد، وقادر على أن ينتج. اليوم ينتظر دوره مع الجند المرحلين إلى الحرب. بلا عودة. الذين يموتون يدفنون في أرض المعركة. يسري خبر وفاتهم لأهليهم عبر إشارة الراديو والتلغراف، أما الذين تبقّى لهم أجل، يعودون فاقدي الأهلية، وبأطراف ناقصة. وأذرع مشوهة، ووجوه محترقة. لا توابيت تعود فيها الرفات. الناس مقتنعون جداً، بأن الحاكم لا يموت. وروحه تُورّث للذي بعده. مسؤول يستمر إلى الأبد في منصبه. يموت الناس ويحيون. ويستعد للحياة لعشرين عام أخرى. يفنّى نصف الشعب ويبقى الرئيس. العدو كان هو النظام نفسه. منسوبو النظام في الجامعة، يمتطون دراجات نارية سوداء من نوع (سوزوكي 125) بأرقام بائنة ومميزة، ينمون لِحِي قصيرة. بلا اجتهاد ظاهر في رعايتها! مُلتمِعي الخُدود. يلتقط لنفسه صُوره فوتوغرافية، (سيلفي). وإصبعه على الخد. حسان يجتهدنّ للوصول إلى هذه الدرجة من النعومة الفائقة، ويفشلنّ. يذهبنّ إلى عطارة (التيمان) يجلبنّ أعشاب تبييض الوجه، وزيادة الوزن. يحبونها بدينة. يقابلنّ أجهزة التكييف. يقضين ساعات في الظل. يهمزنّ ويلمزنّ. يتناولنّ (البيرغر). يأكلنّ كل شيء. ويفشلنّ في الحصول على هذه الدرجة من النعومة. لكن قدرة الله جعلت منتسبي التنظيم يتشابهون بطريقة عجيبة، كأن من جَندّهم فحص جيناتهم مسبّقاً، أو أضاف إليهم سِمة، تُسّهل تمييزهم من النظرة الأولى. كانت الخرطوم مثل روما القديمة، سُوقاً للآلهة المستعارة. لم أكن أسبق أولئك الباعة الإ بالصبر الذي علمتني له الحياة، وأن ظروفي ساعدتني في أن أدرس حتى الجامعة. انتشلت نفسي من وهدة ضياع. تحصلت على درجة البكالاريوس. فالجامعة نفسها لم تكن تختلف كثيراً عن الشارع، يتحرش الأساتذة بالطالبات، ويترصدون الطلاب. رجال الشرطة والأمن. يتحرشون ببائعات الشاي والقهوة. ما تعلمه الصبية في الشارع كان أكثر مما تعلّمته في الجامعة. لم أكن أتفوّق عليهم في أي شيء إلاّ مقدرتهم وجلدهم في تحمّل التشرد والهوان. وتكيفهم مع الحياة بظروفها السيئة جداً. الكل منشغل بما آلت إليه حالته. مغريات تطلقها قنوات فضائية. أثرياء يمارسون مناهجَ تجريبية لما يشاهدونه في القنوات. مع طالبات واقفات في إشارة المرور. توصيلة لتعبر الجسر. يلتحم ذو المال مع الحسناء الفقيرة. لا بأس التبضع من هؤلاء الاثرياء. يجب أن لا يستأثروا بالمال وحدهم. نفتت الثروة بخدودنا الناعمة. وأجسادهم الباردة! 12 العيون مبثوثة في كل مكان. في قاعات الدرس وقاعات الطعام. يتم تصيُّد الطالبات الجديدات، وخصوصا الوافدات من الأقليم. البعيد دائما متهم بالتأخر والسذاجة بسبب بُعده الجُغرافي! ومُحاولة تنظيمهنّ في الحزب الحاكم. حفلات استقبال تضج بأطعِمةٍ فاخرةٍ. طالبات حديثات عهد بالجامعة يتحركنّ في شكل قطيع. يتفحصنّ أركان الجامعة التي طالما حلمنّ بها. واجتهد الآباء في اقتطاع الرسوم الدراسية من لحمهم. وباعوا زروعهم لتقرأ البنت الجامعة، ويتعلم الولد. صرت واحداً لا أكثر. لم يعد لي فؤاد أشفِق به على نفسي، أو على غيري كما كنت في السابق. قلب مختوم بشمع أحمر، مثل صندوق إنتخابات مغشوشة. اغتّم وجداني. فقدت شفافيتي تجاه الحب. والحياة والحراك اليومي. الأول يتعاطاه الناس في خجل. كأنه ليس لهم! وكأنه لم يخلق فيهم! من له امرأة يتفقد عندها آخر اليوم ما تبقى له من مكابرة. حليمة منقاش أيضا مثل خالي، تطلعاتها لثوب أنيق. لبيت مؤثث بالجديد. لليد الملأى بالحلي والأسورة الذهبية. تمدها أمامها. تسحبها على الجنب. ترفعها وتنزلها. ( ما جبت لي أسّاوِر آكل بيهن لحم الخراف مع النسوان). حليمة، ذهن مرّتب جداً للإثارة، وإثارة الغيرة. لا بد لها من حلي كثيرة. حناء مرسومة باستمرار. تتصيد مناسبات الحي. وفي مشية مميزة. بثوبها الليموني. تنسى أن خالي مطلوب منه سداد سلفية البنك الزراعي. عليه دفع رسوم متنوعة. دمغة الجريح بألف جنيه. خالي يرد مستنكراً: (يا أخوانا معقول لكين، الجريح ده لسه ما برى الجرح بتاعو؟ وبعدين الجريح ده اسمو منو عشان نتعرف عليه؟ والله غلبتونا). وأخيراً يدفع للحكومة، لمجلس محلية القرية. وعندما نهرول ناحية القرية، لننسى قليلاً، وهرباً من عسف الشرطة، نستأنس ونتسامر مع الأخوان، وقبل أن نشّرب وننتعش يقبضوا علينا، يأتي رجال الشرطة قافزين من فوق السور، وننام في السجن. حبس إداري لأيام دون محاكمة. عندما يحكم القاضي، تكون سكرة قد انتهى زمنها، ونشوة ضاعت بين الأضابير والورق الكثير. حين دخلنا معسكر الخدمة كنا نكرر أناشيد ومقولات: (أمريكيا روسيا قد دنا عذابها). في داخله أكلنا خبزاً معمولاً من قمحٍ أمريكي، وزيت إغاثة دفعت به أمريكا إلى مخيمات النازحين. حلقنا رؤوساً كثيرة بشفرات مستوردة. صدئة ومستعملة. نتناول بقوليات مخلوطة بكربونات الصوديوم. قادرة على إذابة جبل من اللحم. لقتل الرغبة لدى المجندين. حكومة تخشي الرغبة. وتقتلها بالكربونات. تبيحها لمنسوبيها. فضل ظهر في عربات مظللة. تقابل بعدها اللجنة الطبية التي تجعل غير اللائق طبيا، لائقاً بسبب (الواسطة). طالب مسحوق تسكُن الملاريا خلايا كبده بالشهور. أبناء الحي الذي نقطن به شديدو السمرة، كلهم كانوا لائقين، مجرد أن ينظر إليهم طبيب المعسكر، فيدفع بهم للميدان، ثم نسمع إنهم رحلوا، محبة للوطن. خيام وتهريج، ويبرز ملتحٍ بدين ما غادر العاصمة للحظة، ِشاهدناهـ تحمله الملائكة، ورائحة المسك ما تزال في أنوفنا. ثم ينبري الحزن سواداً في ثياب الأمهات. تجري الأحوال بمشيئة غامضة. أحذّر زميلي الذي يدرس معي بالصف. أخشى شقيقي الذي ولدته أمي. وبين السادة إياهم صراع دائم. البيان تلو البيان. كتيبة الشهيد عصام المتجهة إلى مناطق العمليات. لافتات من قماش أصفر تعتّرضني داخل الجامعة. التقطت عابراً اسم زميل كان يدرس معنا، قُتل في الحرب. حمدت الله إنه أراح ضميره من الكذب على نفسه. شُهداء الجامعة موعُودون بالحور العين. يهاتفني هاتف:(بالله عليك من أين يتوافر حور لهذا الفيلق الذي ضم متأخرين عن الدراسة؟ هل ترضى الحوريات بالفاشلين في الدراسة؟ طلبة قدموا إلى الجامعة بدرجات أضيفت لهم، لأنهم مضوا إلى الحرب. كلما اقتربت الامتحانات، وفرت الجامعة واستنفرت أرجاؤها بكتيبة جديدة إلى مناطق العمليات، لتعطي فرصة لمنسوبيها الذين يعملون بمهن أخرى، ومكلفون بمهام غير دراسية لكي يمتحنوا. امتحان رئيسي للمادة، وآخر بديل. وثالث اسمه امتحان مجاهدين. أٌلغيت المناهج والكتب. صار التعليم شفاهيا. خطب النظام تلاحقنا في الراديو والتلفزيون. أوشك الناس أن يصدقوا ما تقوله الحكومة، لولا المساحة التي يتحرك فيها لإعمال العقل والفكر. أتونا بطلاب وافدين. سودانيو الخارج. والأخيرون لا يفهمون ماذا تقول الحكومة. مدفوعين برغبة والديهم في أن يدرسوا في الوطن. يحضرون إلى الخرطوم. يتضجرون، كيف لا يتوافر الآيسكريم. ويستغربون منّا نحن الذين نتناول الوجبات من صحن واحد. أيادٍ تدخل إناء وسيع، وتخرج متجهة إلى الأفواه! ألاّ توجد أطباق كافية ؟ وهل الأكل بهذه الطريقة صحياً؟ ولماذا أولئك الطلاب ترهقهم قتره؟ ولماذا هم نحاف وقبيحون. ليسوا مثل الذين درسنا معهم بالخارج في السعودية وفي الإمارات وفي الكويت؟ لا يعرفون متى استقل السودان. (يا(سلمى عودة) إنتِ شايفة حال الجامعة دي كيف)؟ ترتدي ملابسَ جديدة وتحمل حقيبة فخمة، ويفوح منها عطر باريسي. قوام ممشوق وعافية. في أيامها الأولى بالجامعة، يقابلها الشحاذ فتعطيه ألفان من الجنيهات (ده مسكين أوي). كان يساوي مصروف يومين إثنين عند فتحي شريف. سننسخ الدرس بعد المحاضرة، ونمضي سوياً لحفلة الفنان محمد الأمين. امتلآ طربا وقفلا عائدين بذلك الشارع الضيق. جسداهما متلاصقان. جرت أمامه ( ما قيلاك كده يا فتحي). (طيب كنت قايلاني شنو)؟ فتحي شريف من الفئة التي أرهقتها القترة، لم يستلم مصروفه منذ مدة، والده يرجو رحمة المشروع، عندما تلتفت إليه الحكومة. استهوى تلك الفتاه بغبشه وسمرته، فجعلته دليلها في عاصمة يشبه وجهها قفاها. قال في سِرّه أول ما رآها: ( مالو نحن نستفيد من الجماعة ديل وكت ما لاقين من جماعة الأخوان حاجة. والبنات ديل بدل ما يشيلوهم الشيوعيين، مالو نشيلهم نحن، ونعمل فيهم العايزنو). يسيران على الأقدام في السوق العربي حتى مواصلات حي المنشية الراقي. يعود بعد ذلك إلى داخلية الجامعة.
                  

08-30-2019, 02:07 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    13 عند العاشرة مساء، تنام الخرطوم مثل شمطاء، هدها تعب مزمن، وغشاها وهن مرير. مجزومون وشذاذ آفاق ومعتوهون منبطحون علي الأرض، وعلى حجارة متشظية جوار الجامع الكبير. هجد الجميع، بعد أن حل بهم التعب، من كرّ وفرّ بينهم وبين شرطة المحلية. باعة يفرشون على الأرض مقررات مدرسية، روايات مُستنسخة لغارسيا ماركيز، وخورخي لوي بورخيس، وجورج أمادو، إيزابيل اللندي. كتب مسروقة من مكتبات جامعات تم إخفاء ختم الجامعة أو تمزيق الصفحة الأولى. كتاب رأس المال، لكارل ماركس. كتاب (ما فوق مبدأ اللذة) لجون ديوي، عناوين كثيرة. أقلام حبر صينية عتيقة، ومعجون قليل الكلوروفيل وجوارب وقلادات وأمشاط شعر، ومرايات مختلفة الأحجام. خلفهم تماماً يمر مجرى مائي يحمل مياه آسنة، تعاود الأنوف كل هنيهة، كلما أضيفت لها مياه أخرى. بائع الكتب يعرض بضاعته: -(يا أخي،عندنا كتاب المنجد لفهم أشعار العرب، جيب أي حاجة عندك). -(ياخ أنا ما عندي، أنا زول تركت القراية، وعايز أوصل بيتي وبس). - (ياخي سعره معقول والثقافة الأيام دي، بقت مطلوبة). -يرد عليه، وكأن غُصّة توقّفت بحلقه: (والله زول عايز يبقي مثقف مافي. نحن ناس عندنا أولاد نربي فيهم، وإذا توقفنا عن العمل يوماً واحداً، ستتدهور أحوالنا). - (يا أخي ده ما كتاب سياسي، دي مطبوعة ثقافية ساكت وما بتعمل حاجة). ناديت على بائع الماء. صبي في عمر الدراسة. تركني أشرب ماءً بارداً، وهو يلتفت يمنة ويسرة. ( يا ولد مالك بتتلفت؟ بتفتش في زول)؟ أجابني وما زال يبحث عن شيء ما: لا ياعم. استطرد وهو يحدق ناحية مبنى البلدية: (والله ياعم أراقب شرطة النظام العام). (بتاعين البلدية. ديل بعد ما يدفعونا قروش، يجو نص النهار يعملوا لينا حملة. يعني ندفع لمحلية الخرطوم، وتجي شرطة النظام تقبض علينا، ويرفعونا في العربية بتاعت الحملة، مش كده وبس الحكاية يضربونا بالخرطوش بتاع الموية. وكمان رفس بالبوت، تقول الواحد كتل ليهو زول، ويودونا القسم ويصادروا حاجاتنا). ينطق القاضي بشيء، ويحدث شيء آخر، من جمهرة أفراد الشرطة الشرهين، بشهية مفتوحة للانتقام. حملت بهم أمهاتهم أول العام. رُعبه زعزع خاطري، شرد بي إلى عوالم أخرى. صدفة خلقت فيّ هذا الألم. وكأنني غطيت في سنّة نوم، وأنا واقفاً. كأن هناك من دفن ذرات ملح في فناء بيتنا. يفعل اللصوص ذلك حين ينوون سرقة منزل ما، كما يقول جدي فضل الأزرق. انبلج الصبح عن شمس ليست كشمس الأمس، سوداء وفي منتصفها بقع داكنة. تشاءم جدي من مرآها، حدثه عنها أبوه عليه الرحمة، عن آخر الزمان. رفع يديه طويلاً، طلب المغفرة من العليّ القدير، ألح في الدعاء. لكن القدر كان قد بدأ في تنفيذ مخططاته. 14 بائعة الشاي في كامل أناقتها، تلبس ثوب (شيفون) راقٍ. تربطه في منتصفها. هزهزت خصرها كلما قامت تناول الشاي لشارب (مقريّف) ومصدع. تُزغلل عيونه الهزهزه. نسيّ شاربون باقي نقودهم، أحياناً يتعمدون النسيان. كبار السن يتركون عمائمهم ومسابحهم عنوة حتى يعودون لها مرة أخرى. ومثلهم يتناسى الشباب هواتف نقالة، وكتب مدرسية. ملابس فتاه تقف بجواري تجعل جسدها واضح التفاصيل. وجه كما يظهر جسد. كتاب يتكيء على صدر مكتنز شبيه بوسادة حديثة التنجيد. تغطي كوم اللحم بعباءة سوداء. ترسم ابتهاجا وامتعاضاً في وجه كثير الندوب. قطبت وجهها بحواجب كثة، أفلحت شفرة مسننة في أن تسيطر على شعر حاجبين، نميا بغير نظام. وجه بلون يبدو أفتح من لون عنقها. مساحيق عطّارة (التيمان) أدت غرضها تماماً. رن جرس هاتفها النقال :( هاي، إنتو وين؟). ترقق صوتها بزقزقة عصفورية. تعلم بوجود ديكة منتظرين في المحطة ّ :(إنتو وين)؟ ردت متراخية مثل عباءتها التي تدلت عن كتفها، بعدما ظهر أن المتصل هو صديقها فتحي شريف. يأكل سراً ويمسّح فمه. فهو لم يستلم مصروفه الشهري منذ مدة، وأظن انه لا يملك ذلك، لكنه صادق طالبات كُثر في الجامعة، وأصدقاء بلا عدد، وبما أن الجامعة لم يكن بها مرافق للنشاط، فإنهم يزدحمون في الكافتيريا. تغشاه دعوات الإفطار من هنا وهناك. كان قانعاً بما يجود به الزملاء. لم يكن الجوع صديقاً في ذلك الوقت. ففتحي شريف يتميز بذكاء حاد، كان يلتقط المحاضرة من فم المحاضر من لحظتها الأولى. كان آلة تسجيل بشرية. عندما يقترب موعد الامتحانات، يُشاهد في وسط حلقات المراجعة، يشرح لهذا، ويصّف لذاك، يشرح مسائلَ معقدة في الفيزياء، ينبري لدروس في الكيمياء، ويحاضر في النشاط عن النظام الذي أهلك البلد والولد، والحرث. يتصدى لمعادلات صعبة بالنهار، ويعلق منشورات الحزب في المساء. تعقبه الأخوان خلال فرز نتائج انتخابات الجامعة، لم يظفروا به. كان يقعر الكلمات حين ينطقها، مالئاً فمه، بقصائد ثورية، بلغة دارجة. تعلمّ فتحي من زمن بعيد، أن يحيل ذكاؤه، لنصل حاد، يغزو به قلوب الطالبات، لم يكن يُعّرف هل هذا رأيه أم رأي الحزب الذي ينتمي له. يضمن مصروفاً، ويندغم وسط الطلاب، وفي نفس الوقت يقوم بتجنيد أعضاء جدد. كان يشرح الدروس لهذا، ويقف مع ذاك. دفعت له سلمى رسوم الجامعة، تناوبوا دعوته للطعام. كان يظهر بقميصٍ واحدٍ بلونٍ مخططٍ، وبنطال ضيق من قماش جينز أزرق اللون، يبرُم شّعره أمام جبهته. ويُكوّر (تمباكاً) داخل شفته السفلى بداعي الاسّتغراق في التفكير، وعلى شاكلة صُوّر لمحررين يضعون أياديهم في منتصف خدودهم، يبدأون بها عمودهم الصحفي. مثاقفة. تتحرك اليد لا شعورياً، فتلامس شعره أمام جبهته، فتبرُمه. يردد قصيدة دارجة، بتقّعرٍ واضحٍ. (ما لقيتك طِفلة ياعِطر المطر، غيمة جِنحاتها الرزاز، حاصرت فيني التسّول، وصّادرت مِني الجواز). الظهيرة تلتهب أكثر فأكثر. قليلون من تحركوا ناحية المسجد. هي جزمة وحيدة للصيف والخريف! تفتق رأسي عن حيلة، اشتريت كيس بلاستيك خفيف. وضعت حذائي داخله، وجعلته أمامي ساعة الصلاة. حكي لي خالي حامد الدخري إنه كان يصلّي في أحد مساجد الخرطوم، في بحثه عن نسوه ينتظرنّ الضائعين! كان قد سمع كثيراً، أن نسوة مقتدرات، ذهبنَ للمسجد الكبير، وأعلنّ عن رغبتهنّ للزواج، وكانت الواحدة منهنّ تمتلك عمارة، وسيارة (لاندكروزر)، ورصيداً في المصرف. كانت تبحث عن الستر فقط. كبرّ الإمام للصلاة، دخل رجل وقال بصوت جهور: (يا جماعة الحقوا نعلاتكم). خرج الناس ولم يجدوا غير مكانها، التفت الإمام خلفه لم يجد أحد، ورفع أياديه بالدعاء. اللهم أغفر لهم، إنهم عبادك. ثم خرج الإمام من المسجد منزعجاً. ضحكت في سري. مرت أمام عينّي حروف متشابكة خلتها غمامة. كانت لافته قرأتها في أحد مساجد أم درمان (أحذروا لصوص الأحذية). تختفي الأحذية من أمام الجامع الكبير، وتظهر في سوق الأخوان الطرفي. تسترد حذائك بعد أن تدفّع ما يُقارب قِيمته التي أتى بها من إيطاليا! نشب خلاف بين راكب ومساعد حافلة كانت في طريقها لأم درمان، أوقف السائق العربة واستدار. توعّد الراكب. عاد يحمل قضيب معدني لا يقل سمكه عن خمس سنتمترات بطول متر، وتصادف أن العراك نشب في مكان مواجه لمقر الحزب الحاكم بولاية الخرطوم، في بداية حي المقرن، وخلف قاعة الصداقة. ظّهر أحد منسوبي الأمن، الذين كانوا يحرسون سيارات مُتوقِفه، وانبرى من بين الحشد شخص ملتحٍ وبدين. أمسك المساعد بيد والسائق باليد الأخرى. وطلب من معاونيه فتح بلاغ عاجل في القسم المجاور لدار الحزب. كانت لحظة فاصلة من مُتهور، كان سيهدِر حياة راكب بدمٍ باردٍ، ومغلوب على أمره. شخص لا يطلب سوى أن يصل إلى صغاره حاملاً لهم حلوى وبعض الخبز، ولينام هادئا بدفء زوجته. بسبب إنه لم يدفع قيمة التذكرة كاملة، وذلك لأنه لا يملك نقوداً. كانت لحظة فاصلة. دخلنا وساطة بين المُتنفّذ الذي رفض في البدء، أن تُحلّ المسألة بالطرق الودية، بدلاً عن فتح بلاغ ورفع دعوى. رسمت حبكة في دماغي، دفعت في نسيجها بعداً ثالثاً. أضفت لها ألوان حارة. صارت ثلاثية الأبعاد. مزاجي كان جيداً على غير العادة، إحساس بتوازن مُلوكي. كنت أعرف تأثير تلك الحكايات على من له ذقن مثله:(يا جنابو أستحلفك بوالدك، وبالمؤتمر الوطني، كان ما خليت الراجل ده، الراجل ده متعكنن لانو عندو ظروف، المرة وأهلها في البيت، ونسابته مالين البيت وما قادر يرتاح، والله يجنابو الزول ده حكى لي قال، هو ما لاقي طريقة في المرة إلاّ قبل أسبوع، دفع لشقيق المره خمسه ألف، قال ليهو ياخ أطلع من البيت ده، رفه عن نفسك شوية، وكان هو الوحيد المتواجد داخل المنزل، لأنو أمها وخالاتها عزموهم الجيران، وانتهز الفرصة دي وقال أمشي أقّيل، وترك العربية لصديقه، ولمن خلاص جهز كده وعاني المرة، دق باب الشارع، طبعا بعد داك أي حاجة طارت. مشى فتح الباب لِقى عمتها جات من السفر، وزميله سائق العربية جابها راجعة، وقال ليهو العربية دي فوتت طارة كلتش، ومن اليوم داك الراجل ده متجنن، يا جنابو المُسامح كريم). أرخى المُلتحي قبضته. نفخ أوداجه قليلاً. حقّق ذاته في نزاع لا يحتاج كل تلك الجلبة: (خلاص تاني ما تكررها). قاد سائقنا سيارته، واتخذ مساره في الطريق. خلع وجهه الكرتوني الآثم، واستبدله بوجه آخر أكثر طيبة! تشمم دخان جازولين نيئا. فحرك معدته لقيء شديد. 15 مرّت شهور أربعة ولم أسّتلم راتبي. فاتورة مِياه وكهرباء، وفاتُورة البقّال غير محددة. تزيد متى جاءنا زوّار من البلد، طلباً العلاج أو السفر إلى الخارج أو من ينوي أداء منسكي الحج والعمرة. فأهلنا يهتمون كثيراً بضُرس العقّل، لأن ذلك تترتب عليه مسؤوليات جمة. لمن يريد أن يكون خليفة أو عمدة مثلاً، أو خلافة. حامد الدخري أوعّز لهُم، هناك بالعاصمة، نسوة ينتظِرنّ الضائعين، عزباوات مليِحات، ومُوظفات بثيابٍ بيضٍ، كنّ زوجات لضباط وضباط صف، قضوا نحبهم في الحرب. مخمليات اللون. أصواتهنّ تنشنِجُ عذوبةً. يمتلِكنّ عمائر وشُقق سكنية، ولهنّ أرصدة في البنوك. حامد الدخري يقول ذلك، وفي مخيلته تلهّج صُورة سامية حافِظ. جاءها النبأ ولم تكُن تدري أنّ القدّر، لصيق بالكائن مهما طالت سلامته. كانت تشتري حاجِياتها من بِقالة مجاورة لحي الشجرة حينها. ينسى الإنسّان، ويتناسى ليخفف غلواء الألم. أغمى عليها. تساءل حامد، هل هو قدره الذي ساقه أم قدرها؟ فعندما فتحت عيناها، أبصّرت رجلاً أربعينياً، يرتدّي جُلباباً، وعُمامة ناصِعة، في جيبه الأمامِي قلمي حبر جاف بلونين مُختلفين. خشّن اليدين، وبعِروقٍ نافرةٍ تكادُ تطفُر من ظاهر كفِه. جسّد في مخيلتها حلمها الخاص، جراء فقد عاجل. سألته عن اسمه. تملّت في وجهه طويلاً، غمزت له بعينها اليمنى، ثم عادت لغيبوبتها من جديد. ومن يومها لم يعُد خالي حامد الدُخري، كما كان عهدنا به. كان يتورّط عميقاً، ويتحدث بصوتٍ عالٍ، ليُوقِع آخرين، مع جارات سامية حافظ العزباوات، اللائي يسكنّ نفس القشلاق. يبحثنّ عن رجل يقال إن عروق كفه ظاهرة، وعُيونه صارِمّة، وأنفُه صادِم، وشِفاهه مطبّقة على نحو غريب. نِسوة بِيِض من الراحة والدِعّة. كانت تلك عادتهم. يقولون إنّ الثلج والسمك يتوفّر في المدينةِ. راحةُ تُغنِيكم عن الضنّك الذي تعيشُونه هنا. أحلم مثل حامد. أوّد لو أقترب مِن إحداهنّ. ولا أمتلك شجاعته في الإقتحام. أتخيّل أن على المرء أن يكون حسن الثياب أولاً، ثم يُقدّم نفسه بلا خجل، وينتظر امرأة كي تفيق من غيبوبتها، وتغمز لي بعينها. لم أجدد ملابِسي، ما زلت أرتدّيها منذ أعوام، كنت أظُن أنّ المظهّر أولاً. هاهو حامد الدخري يقتّحم، بجُلبابٍ وعُمامةٍ، وقلمي حبر جاف. وغير قادرٍ على فكِ الحروفِ. وراتب لا يكفي لدفع إيجار شهر واحد، لغرفتين متواضعتين في حي الفتيحاب الشعبي. تأثثت إحداهما بكراسٍ قديمةٍ ومهترئة. وحافظة ماء بلونٍ أحمرٍ باهتٍ، ودولاب خشبيّ عتيق بثلاث أدراج. أشيائي تجري بلا استحياء، تتمنى فاكهة وطعام جيد. لا أستطيع أن أمارس عاداتي الجيد منها والسييء. لا يمكنه أن يجذب ذات الأنثى التي تقطع الشارع بتؤدة. الأغنياء والنساء الجميلات أصدقاء. هم يعلفونهنّ، وهن بمال الخيرين نجود! ( لو عايزني أعمل ليك عربية مع الرجال). قالتها ولم تلتفت. قابلتها كثيراً في موقف حافلات (الثورات)، ترحل ذات الخلف وذات الأمام. مُسّتودع لطاقةٍ أنثويةٍ غريبةٍ. إغراء مفتضّح. جراءة أملتها اسّتدامة الوفّرة. ومرة أخرى كانت تتأرجح جوار شارع الزبير باشا. شارع ضيق، والمارة فيه قليلون. يمُر به العائدون من المركز الثقافي الفرنسي، والمركز الثقافي الألماني. أظٌن أنها قدِمت من اتجاه المجلس البريطاني. مرت جوار مستوصّف المدينة. جاء حاج الماحي وود التوم، وود طه مرافقين لمريض، يضطّجعون على الأرض. ينتظرون مريضهم للخروج من غرفة الإنعاش. بعضهم يمتليء بيأس من أن تلك الغيبوبة لن يعود منها، وآخرون متعادلون في ما يمكن أن يحدث له. تأتي (نهلة) أمامهم. قاطرة بشرية تسّحب مقطورات من الاكتناز. هزّت فاصِلة من فواصِلها. رجلاً قصيراً حكّ شيئه، وآخر عدّل من وضع عمامته. قابل مؤخرتها، وهي تمر أمامهم (وجع، حول أم ضرع. علي اليمين الخرتوم دي فيها جنس شي.. الجاموووووس ال....)! أغرّت صاحب بقالة مجاور للمستوصف. تشهّود وتحوقّل من الشيء الذي مرّ من هنا. صفارات تتقاطع عند حلمات نهديها النافِرين تحت قميص شفاف. مالت عليّ. احتضنتني في شارع الزبير باشا. اقتلعت جسدي منها اقتلاعا. أنا مسافرة (دبي) ياعبده، وقاعدة أعمل دليل الثقافة في السودان. قلت في سري: (ثقافة، بالله شوفي ليك حظيرة أرعي فيها). لقد عودتنا الأنظمة الشمولية أن لا نستغرِب مِن الذي يحدُث أمامنا. أنا من ضيّع في الماضي أوهام عُمّره.
                  

08-30-2019, 02:49 PM

جمال ود القوز
<aجمال ود القوز
تاريخ التسجيل: 01-25-2013
مجموع المشاركات: 5925

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    مررت يامصطفى على هذه الكتابة الباذخة ..
    كم نالت إعجابي لكني لم استطيع أن أكمل ..
    قاتل الله العجلة وضيق الوقت وهموم الحياة ..
    التي سلبتنا خاصية التوق إلى ارتشاف الحروف اليانعة ..
    نشتاق إلى زمن مضى مضت معه تلك الروح التوّاقة ..
    التي لاتشبع من التهام موائد الكتب بنهم يعوزه الشبع ..

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    إن الله أراد حتما أعود يامصطفى يا بشّار ..
                  

08-30-2019, 03:12 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: جمال ود القوز)

    شكرا اخي جمال
    التحيات لك
    الياسمبن لك
                  

08-30-2019, 03:14 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    16 الخرطوم يسكن في أطرافها، من يضُخون الحياة في أوردتها وشرايينها المتجلّطة. يأتون إليها بوجوه سمر وعرق متصبب، وتقاطيع بشوشة. يعيشون حياتهم بصدق، صكهم فضيلة ورزق حلال. يبيتون جوعى. ويفقرون بنبل، يأكلون القليل. ويقومون بالخدمة الشاقة. معلقون بأعلى المباني. كأني أعدت لأناس ممن أعرفهم أشيائهم المسروقة. بدأت أنفاسي تنطلق وتعود إليّ حيويتي. وقفّت خلفِي تماماً وبمحاذاة ظهري. مدّت يداها الإثنتان معا، وأغمضت عيناي. يدان دافئتان ومعطرتان، مررتهما بجانب أذني وخدي. (أنت وين يا طويل؟ قالوا قطعت بحر المالح). ضحكت بوجنتين متوردتين. ألم تفكر في أن تتصل عليّ. هكذا هنأني ربي بأني حصلت على عمل جيد، وبلا تعب. ترى كم من الرصيد تراه قد تراكم علي جسدي. عاينت في الجانب الآخر منها. بنظرات شرهة. أها، لم تتركوا لنا شيئا. (ياغبي كان عندك فرصة زمان، هسا مافي طريقة، المسألة مقامات وكده)، قلت: ( مقام الراي والفاء. حروفك بقت موسيقي؟ ردت: (زمان مكتبكم والجماعة ديل ما مقصرين ). عابثتني في خلوتها. لم يكن لي يد في ذلك. زمانُ يُنسي ما تعاظم من ألم. أعيش حياتي كأنها ليست لي، كأني أحيا بديلاً لشخص آخر. لا أكترث لما حولي. مُغلق على ذاكِرة غيبية. شفرة باطنة معقدة. أبدو لا مبال، ومرات أخرى بصحو كامل. لا أستطيع تمييز موقف مبكِ من آخر مضحك. أهو عدم توافق؟ أبكي حين يكون الضحك، وأفعل عكس ذلك حين يتمكن الألم! أحس كأني عصارة لمادة ما. سائلٌ ينجّذب للزيت ولا يتماسك معه، يبقى على هويته الأولى. هل المواقف التي نعيشها، تصقلنا على وجه واحد، واجهة صلدة وجافة، وتترك وجهاً آخر للصدفة؟ أراك أحيانا وأنت بقربي، لم تكن تراني. أدير وجهي للناحية الأخرى. ليس بيننا خصام، لا ضغينة . فعندما تبتعد أحاسب نفسي على ما فعلت. ذلك الشيء لم يكن مكلفاً على أية حال. مصافحة بالأيدي، وأسئلة عن الحال، وإجابات مُعلّبة، وبعدها يسير كل في طريقه. فقدت كل ذلك. زمن يأتي بتهيؤات مختلفة. يصّنع الإنسان قدر أن يعيش بنفسه. بحثاً عن راحته كلها (وأنت لسه مالقيت ليك حاجة)؟ ( وين الجماعة ديل كبسوا علينا من كل مكان). بلوزة ملتصقة عليها. رسمتها رسماً. التصقت عليها من قبل التاريخ! إسكيرت بلون سماوي أغلِّق على خطوط كنتور بشري ! (تعال بعد الساعة عشرة. عازماك عشاء. نمشي كافتيريا جديدة في الخرطوم 2). نحن واقفان. تبدد حلم الانتظار. زال عني تعبي. كأن نفسي وجّدت راحتها أخيراً. وتَفتّق زهّر روحي من أكمامه. حرّكت يدها اليُمنى. مسّت كتفي. عاينت طلاء أظافرها. استغرقني خاطر ما سحب نظرتي الممتدة، وأشعلني من أخمّص قدمي. يدٌ خشِنةُ وضعت بثقلها على كتفي الشمال. رفعت عيوني متثاقلاً. ملابس غريبة وداكنة، بلون باهت ومشّوش! من أين أتى هذا الوغد؟ -( لو سمحت تمشي معانا القسم). -وأنا غير مصدّق. (في شنو يا جنابو؟) -(ولا كلمة تعال معانا القسم ). وجدت نفسي أجلس القرفصاء قبالة قمرة عربة زرقاء. بقيةٌ من سلطة وطماطم وقريب فروت. وجوه لم أعرف بينها أحد. ما يربط بين تلك الوجوه سُمرةٌ شديدةٌ وغبرةٌ. أجساد نحيلة. وعروق متطايرة على الأعناقِ. لم تجدِ بطاقة اتحاد الصحفيين من أن تُقلل من وتيرة الحدث. -( شوف يا زول نحنا علي كيفنا، نشج الزول ونداويهو)!! عدت كاشاً طاشاً. مغبوناً وبلا ذاكرة. تظل الأنثى سراً أبدياً. تغض مضجع السلطة من الرجال والكهنة. ضائعاً بين إصبعين وسطى وسبابة. تصدر أصلب المواقف وأقواها من على سريرها. أن يُعصي أوامرها. أن يخنقها بصدوده، أن يجرح بكبريائه الزائد أنوثتها. أن لا يتوسد معها أي رأي، قبل أن تفتضِح السّر الذي ما بين نهديها إختبأ! ليل يرتخي بلا عصّب. أفراد شرطة يبدأون نوبة ليلية. زمهرير يهفهف على شُرفة نفسي. يمكنني في أحيان كثيرة أن أطل منها على قلبي. أحدق في الحطام. لم يكتمل النبض. أعيد قراءة الماضي. نسوة بوجوه يفتضحها سهر طويل. وليل لا ينجلي. ولا الإصباح عنك بأمثل. هل يأبق الإنسان من ظروفه واحتمال حياته. زحمتني فكرة عند الصبح أن أذهب إلى حي (الثورة). إلى بقايا حبيبة قديمة. نحو هيكل فضي بارد. ناحية قديسة قديمة. كانت تجيد فهم الرياضيات والهندسة الإقليدية. كانت بلا عاطفة، مثل قوانين الجبر. الحب عندها مثل قانون نيوتن الأول ( لكل فعل رد فعل). ( يا عبده العلاقة دي إنتهت). قلب بلا كره، حتماَ، سيسقط في منازلات الدهاء والخبث. نزل حديثها عليّ كعصف الرعود. تبعثرّتُ دون إرادة مِني. ما دريت هل أنا في الأرض أم في السّماء. ما عرفت حينها هل أنا راضٍ عن ما قدمت يداي. هل كانت تطمع في مزيد لم تجده عندي؟ أعلّنت نهاية علاقتها معي بدم بارد. كان في عيونها تشّف عظيم، لم أدرك سببه. جثوت أُنقّب بين خرائب نفسي، عن جُرم ارتكبتُه. عن لحظةٍ عبرت دون أن أفصّح فيها عن رغبة. كان مِزاجاً فقط، بعض مِزاج. قاسيتُ ما لم أفعلّه. كان ألماً ممضٍ ومدمراً. كان ذلك ذات قيلولة. أسّندُت ظهري على حائط، تركت لها أن تقول ما جاءت من أجله. ملامحها عازِمُة على حريقٍ، وكأن اللحظة قد عَبأتها بشجاعةٍ مفاجئةٍ. وكُنت بين نَارين، ولم أكُن مُتأكِداً هل هُو اخِتياري أم أن القّدر رمانِي أمام طريقها الشائك. حَذّروني مِنها كثيراً، ولكنني لم أرعوِ. كنت قلباً معطوباً منذ الميلاد، كل شبر فيه مُخترّق بالتبريحِ. فُؤادٌ مفطورٌ على حبٍ، لم يجده. لا يكره أبداً. نافذة عبّرت من خِلالها سّحائُبَ راعدة. وارتخى الوعّد برحيلها مِن أمامِي. أخفّت وجهها بمِسحةٍ من التشفي. أسّتدرك، فبعض الجرح يمكن أن يطّيب بخاطرِ سمّح:( نقعد مع بعض، ونشوف المشكلة شنو ونقرر يا أستاذة ). (يا أستاذ، أنا قررت إنو العلاقة دي تنتهي الليلة). ما زلت متوفراً بحسن ظني عندما قلت:(الحاصل شنو في زول اتقدم ليك؟). طيبةٌ رافقتني من القرية، ولم تدعنِ حتى حللت بالمدينةِ. كان ذلك هو الحب في منتصف التسعينات. خطاب الفلسفة يعطي للفتاة قيمة مضاعفة، ونوعاً من حراك عاطفي. لترى نفسها خارج الجسد. تتوق الأنثى إلى ديك باستمرار ليبلغها أن الزمن قد انتهى. في داخل الجامعة، نمشي كافتيريا عمال أم إلى كافتريا (كرور)؟ فستانك جميل. أناملك مدهشة. (ما اشتغلت لي أعمال السنة؟ أستاذ سيد قال لو أنا جيت عنده بعد الساعة أربعه ظهراً، بيديني سبعين درجة. كان مشيت ليهو تاني بيديني تمانين درجة. وأكون اتحصلت على أعلى درجة، وأكون سبقت فتحي شريف العامل فيها ربها)، ( لو إنت مرتاحة، والكلام ده عاجبك، خلاص تنتهي العلاقة. ( أنا ما حا ألقى راجل زيك يا عبده، لكين ظروف). ظروف بلد تخلع عن حبيب محبوبته. عاشق يرتدي غير قميصه. يمشِط ما تبقى له من شعرِ بغير مِشطه. يبكي بغير دموعه. تنام التي اسمها الحبيبة مبكرا. دون أن تحصي نجمة، تخفف عنها ملابسها. وترقد وادعة (خليته ليك قلبه واقف، كان عامل فيها أبو الهول). تراقص قلبهُ بوله. تلك الخائنة. خرجت بباب الدخول. نداءات ترتد إلى أذني، رجاءات سابقة. أصدقائي حدثوني عن علاقتها المريبة مع أستاذ سيد. أدبرت تقلب مؤخرتها. حققت نصراً غالياً. من لا تستطيع أن تنالك أول مرة، تعقد عزمها على أن تُخضِّعك. كتجربة في مختبر. لتجري خلفها. تستعين عليك بكل ما تملك. ترميك على الطريق بعد أن تجاهد وتُدخلها قلبك . جاثية على الرمل، خافضة جناح البوح مدة من يجيي. سّر أخفته الحجارة في بطونها، في قماتها، تحت سراديبها. أنثى تحبل بالمفاجآت ولا تحصيها. تعدها نزوة ثم تستحيل إلى بروق. عاصفة بنفسِ اتجاه التوق والاشتهاء. سماء مفتوحة. لكن لماذا على الرمل بالتحديد، وفي هذا الاتجاه؟ ربيعي أن نأتي معاً، وندخل بذلك الباب الخشبي الذي أغلقته الحجارة منذ فجر التاريخ، ثم نسّتحِم على الغيب. بشهادة من يرى عُرينا، ثم يلوذ بالصمت والانصراف المديد! نادت عليّ: تعال، إنها الزرقة التي تشتهيها. المكان الذي يعتليك درجة فدرجة، يعلو بك موجة فموجة. يرتفع بك نزوة فنزوة. حتى تستبين شهقة الفجر. حينها يخمد التوق لحين بزوغ فجر جديد. أجبت، أن كل كوامن الأنس. ترياق يفّض بكارة الليلة. رمل الرمل. نواء الريح عاجل الليلات والخلوة. يمرّ الليل. عِطّر مار. فوح البادية الأصلي. على جلبابات من رقدوا على الرملِ. في ليلة شتوية الأطوار. في أحضانهم عطن مدينة تهزي، فحولة ليلها الداجن. أتسّلل رويداً رويداً. ظلام كثيف. بوابة وحيدة. لا داخلين إليها. أعواد رفيعة. حزم من القش تسّقف الصالة المتسّعة، بابان خشبيان، أحدهما شبيه بباب مشرب. يذهب ويجيء. على الجدران الشرقية خطوط كاملة كأنها على رمل، واهية الجرم، كسيرة الامتداد والنهّاية. تعاريج كهموم ليلية. أشباح شاردة نحو عزلة أبدية. ناحية تاريخ لم يكتب بعد.
                  

08-30-2019, 04:01 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    17 في مُنتصف تلك الليلة، والوقت ما بين مغربٍ وعشاء، أخذّت صورتها على راحتي. عندك المسرى وصوت الليل. وجعِي كان أكبر من أي لحظة عبرت بها إلى شرفة حياتي، لكني لم أرضخ، لم أغضب، لم أحزن على فراقها أبداً. أتاني يقين جسّد لي حلماً أجمل منها. فجأة ارتحلت في مدائن شتى، بطول البلاد وعرضها. موانٍ ومدن عصّية على الريّح. نوافِذ وأبواب لم تُغلّق مُنذ زمن. نِسوة في أثواب بائسة. سُفن قديمة، وأشّرِعة مُمزقة. وبحارة تعِبون من طولِ إبحار. ضنك مِلح، وحبيبات مُخادعات. (تباكو) رديء الطعم وأمواج عاتية حين تغسّل ظهر سفنهم. بِضاعة من فحمٍ وزيت، وأبقار، وكحول وذرة شامية، وأقمشة ملونة، ذخيرة وبارود، وخام عطر. وفي الرمق الأخير ترسو في مينائي. سقاني رشفة من نبيذ قديم، تعتق في قبو مظلم. اختمّر في برميل خشبي، تحطمت سفينته قبل ألف عام في الكاريبي. انتحر قُبطانها لما رأى سفينته تغرّق، لم ينتظر حتى يبتلِعها اليّم. نبيذ اختلّط بلعنةٍ كاريبيةٍ. وقف على الحافة مثل نورس، أدخل مسدسه في فمِه، دمّه لم يبلغ الماء، كان نبيلاً مثل سفينته. مثلك يجب أن يتزوّج الملح والعناء، ويكد لغيرها، أن تكتب قصيدة ينثال منها الرضا، وأن تعانق آخر خيوط القمر. ضوء ينعكس على صورة تّم وأدها كصبية جاهلية. قسّمتُ صُورتها على الاتجاهاتِ الأربعِ، لم أشعر حيالها بأسفٍ. قهقهتُ دوُنما أشّعر. هل عدت من ميتة مؤجلة؟ هل كنت أنوي أن أريق دمي على صحيفة ممزقة؟ ماذا كان ذلك الشيء؟ كنت مثل مدية في يد قصّاب، أو قاطعاً في يد عامل يبيع قماشٌ ملونٌ. حاداً وعاصفاً. زوبعة في فضاء شقوتي وانسجامي. كنت في ذلك المساء عند أقاربي في حي (السامراب)، في الخرطوم بحري، وبعد ذلك اليوم. لن تبقي عندي يا شريرة، لا تحتفظي بي في الأضابير، مثلك يجب أن يكون في خاطر شخص غيري، لا تعبثي معي. أنا لست مساعد تدريس يُحاضر عن علم النفس في الجامعة. ليفهم أطوارك، ليسدي إليك وصفة شفاهية. ليس أنا. وانهال عبقٌ عظيمٌ. عِطّر مرّ في ذاكرتي، تخللني، وأخلّدني إلى سّنة من النوم. أعرف أنها مراوغة ولكن لنّ ينطلي علىَّ عطر قديم، لن يسّكنني إلاّ الذي أريد أن أفسّح له سَكنا. إلاّ الذي شيدته في الضُلوع! أعرف بالبداهة أنهم أكثر من ثلاثة. عشاقك أكثر من الرقم الذي نطقت به. فقط معادلة للزمن. قمتِ بتوزيعهم في المدن الثلاث (أنت وين؟ في الجسر القديم جوار المستشفى العسكري، بأم درمان. ازدحام يشغل فراغات الأذُن). (قولي الحقيقة، أنتِ في السوق العربي، في الخرطوم). (سجمي، عرفت كيف)؟ (سمعت مساعد إحدى الحافلات ينادي ثورة بالنص ثورة بالنص، خليفة نفر والسفر). - ردت بخجل مصطنع ( تعبانة شديد ما بقدر أقابلك الليلة). - ( لكن أنا عارف من الصباح أنت في الكوفير، ماشة عرس لبني). - ( بعدين رسّل لي رصيد في الموبايل، إنت جعان كده مالك ؟). ما لهذا القدر الذي يوظف لحظاته ليسرق من الفقراء، باقي نقودهم! كأنه يجيب عليها، أول أمس منحتك خمسين ألف جنيه، ورجعت إلى المنزل خالي الوفاض. حدّجني البقّال بنظرتِه الازدرائية. أوشّك أن يبصّق عليّ. بائع اللبن توقّف قبل أشّهر، عن طرّق باب بيتي عند أصّيل كل يوم: (إنت يا أستاذ صحفي ساكت، ما عندك قروش؟ قالوا في الجرائد يدوكم وجبة فطور وتخرجون بعدها تجيبو الأخبار، وآخر اليوم يناولوكم حق المواصلات). بنات فارهات لا ينقطعن عن استقبال الجريدة -(أستاذ عبده في؟). -(الأستاذ ده مع رئيس التحرير، وخاصمين منو خمسين ألف جنيه). -(أوب علي سجمي خالص. كر علي جداً، أوعي يديهم القروش الأديتها ليهو في الصباح ). نحبهنّ بنقودهن! تهنئة لخطبة صاحبتها. وتحوم الجريدة بين الأيدي. (والله صاحب سلمى بتي هو العمل لينا التهنئة). تبدأ الجريده مبعثرة بين صياح رئيس التحرير في وجه أول من يقابله من الصحافيين، ومدير التحرير، وسكرتير التحرير الذي يتحصل على المادة الرئيسية للصحيفة من الإنترنت. صّحافي مُبتديء بماكينة رئيس تحرير مباشرة، يمشّي في الشارع باسطاً ذراعيه. ودافعا عجيزته إلى جانب الطريق، مثل جرافة تهدم في سكن عشواء. على عينيه نظارة. ولا بأس من تقطيبة تزم معها شفتين، تبدوان وكأنهما مدخل عبّارة في ميناء سواكن! (كبّر الصورة دي، أسحب لي الخبر ده لأنو نزل في عدد أمس). وبيده الأخرى يرفع بنطلونه المتناصل إلى خصره. والهاتف السيار باليد الأخرى. - (والله يا سعاده اللواء، التهنئة الخاصة بالترقية بتاعتك جاهزة، وبتنزل في عدد يوم الجمعة). - (ماممكن تنزل ترقية لسعادة اللواء يوم جمعة، الحيقرأ الجريدة منو؟ أحسن حاجة يوم الأحد لأنو ده بداية أسبوع وكده.) -(حاضر سعادتك إن شاء الله عقبال مشير وبروفيسور). -( في حياتك). يدلف إلى صالة الأخبار (لو سمحت خليك بره عندنا حوار بنفرغ فيهو من كاسيت)، (إنت تفرغ من شريط كاسيت أم من سفينة؟!). لا يتهيأ لمعرفتك أبداً إن ذلك ال############ الرابض خلف الحاسوب، يمكن أن يكون صحافياً بأية حال، إلاّ أن سخرية الأقدار تفعل أكثر من ذلك بكثير. لعنة من نوع خاص .مكياج مُتقن لحياة أكبر من قيمتها الفعلية التي يتم تداولها! من أين هبت هذه الريح التي أنجبت تلك الأفكار الرائدة ؟ جميل من يحارب بالفرشاة، دون البندقية. البندقية تصدأ في يد الجندي الذي لا يعرف من يحارب؟ أخيه في الجانب الآخر من الوطن. رغبات السادة العسكر والمهووسين. (هي ده مالو؟ والله الراجل ده من جا رئيس التحرير الجديد كان مراسلة ساكت، يجيب الفطور والبارد، المدير لقى ليهو فرصة تدريب وقال كلو في البلاد! ومن يومها، نلنا الويل وسهر الليل). تابعتها مرت من أمامي، بصري كان مركّزاً على خاصّرتها. تتلّوى كأفعى جبلية (باي، أشوفك بكرة الصباح). توقفت أمامها عُربة مُظللة، فتحّت بابها الخلفيّ وانطلقت بها في سدفات الظلمة. رن مرتجعاً حديثها الفاجر( سوي ليك عربية زي الرجال). يبقي المرء تائها بين حاجياته اليومية. أيها يكون الأول. أقصر الطرق. مقاصير تعج بالأغراب. متنزهون وطلاب حاجات. نوافذ مظللة، تنقسم إلى طابقين، بصندقة خشبية عازلة للصوت. تواعدنا في المقهى الشامي. حشوات دجاج مفروم، (سجق) و(شاورمه)، دجاج (كنتاكي):( كان ما عندك مائة الف جنيه، ولا أشوف وجهك. أجرة التاكسي والكولا). ينقضي الليل. يتزاحمان في طاولة تتلاقى أرجلهما تحت المنضدة، حكيك متباعد. يبدأ يتقارب. يصير مستديماً. يتزايد الإيقاع. إضاءة خافتة. نادل يلبي الطلبات مسرعا، ويفسح المجال لليد التي تعبث بالأسفل. عيونه منصرفة إلى ماذا، لا تعرف! ترابيز. كراس نحيلة، وأخرى ممتلئة. بالكاد تلمح أن بكل طاولة شبحان ملتصقان بوجهيهما. تتعطل اللغات. والهمس يغدو لمساً، شهيق وزفير. تأوهات وموسيقى تنبعث من جهاز تسجيل ضخم، بسماعات مفخمة للصوت. موسيقى ترتاح على هدّب ما يعلو من دخان سّجاير ُينفث من هنا وهناك. يغذي سماء المكان بضباب كثيف يفتعل تلكؤاً، فوق رؤوس لأشباح متلاصقة في الطاولات ويزيدها طولاً. ويلصقها على سقف مبنى. مزخرف بأشكال جبصية. ضوء قاتم ومترنّح كجّو معبدٍ قديمٍ. سُعالٌ خفيفٌ وتضاحُك. يغذي بهجة اختلاء بين محبين. عِطّر طاف في فراغات مُمتلئة أصلاً بدخان سجائر. زفير لأنفاس لاهِثة كأنها في مارثون، لم تُحدّد له نِهاية. (ياخ المكان ده كاتم جداً، وأنا عندي أزمه). ردت بجلافة: (إنت دائما عيان متين بقيت كويس). تعود لذاكرة مشحونة بالمطالبات. أخي عثمان لم تُدفّع رِسومه المدرسّية. (هُدى) شقيقتي أعطتنِي وصّفة علاج ضغط الدم من الأسبوع الماضي، وعدتها بأني سأستلم حافزاً ومنه يمكن أن أشتري لها علاجاً. تناولي فصوص الثّوم حتى أجلّب لك الدواء. لم تسّألني بعدها. تبخّر الحافز كأنفاس سّيجارة. البقّال كالعادة متى ما انتصّف الأسّبوع، هاج وماج مثل بحر المالح: -( يا أخي المرتبات معروف بصرفوها آخر الشهر، من وين أجيب ليك قروش في الأيام دي)؟ -(اتصرّف يا أستاذ، إنتو الجرايد دي مليانه كلام بالمجان، ما بيدوكم قروش، شغالين ليه؟ ما تطلعوا مظاهرة. عاملين فيها مثقفين ساكت). ففي الأسبوع الماضي مررت بالبقالة، وجدت (فضلو باقي)، ينزّع صّفحات من كِتاب، ويُحيلها قراطيساً لحَمل سُكّر وشّاي وتوابل أخرى، في أعلى الهامش كِتاب رأس المال، (لكارل ماركس). استوقفّني الكتاب، البقال صار مشحوناً بطاقة غريبة، توقّفت عينيّ في سطر من السّطور: ( يا عمال العالم وشعوبه المضطهدة، اتحِدوا ). تبدأ شرارة عند البقال لمجرد إنه جعلها قراطيساً. فكك جزئياته. سرى ببدنه تيار غريب، موجّة لم يعهدها من قبل. تمّر أمامه عربة الدورية بلونها الأزرق. ثلة من الجند يتمنطقون ببنادق، وخوذات ودروع شفافة، وألفاظ نابية. لمح بينهم وجه يعرفه. أدار وجهه سريعاً لكي لا يراه (عادل صغير القوم) إبن الحارة التي تليهم. كان معي بالمدرسة الابتدائية. يرابط له أقرانه في الشارع المؤدي إلى منزلهم، يبكي، يلتفون حوله، ولد مائع. يقرصونه، يفتشون جيوبه، يصفعونه لأنه وشى بفتحي شريف زميله في الصف. عندما رمى المعلم بطبشورة على قفاه وهو متجهاً ناحية السبورة ( يا أستاذ، أستاذ، فتحي هو الضربك بالطبشيرة). يوسعه المعلم ركلاً. يأخذه إلى مكتب المدير، يجلد بالكرباج. بعد ذلك ظل عادل صغير القوم حبيس منزلهم، إذا خرج من المنزل قابله أقرانه، يخيفونه، فيهرول أمامهم إلى المنزل. أهل بيته لم يكن لهم اهتمام بالتعليم. قالوا يكفي أن يعرف قليلاً من الحساب، وسورة الفاتحة وسورة الإخلاص، يدخل السوق ليصير تاجراً. السوق قدح النبي، كما تقول والدته. ترك المدرسة، بدأ يدخن، يجلس أمام عمود الكهرباء، أطال أظافره، ووضع أسورة معدنية على يده وسلسلاً على صدره، يعاكس طالبات الثانوي اللائي يمرنّ أمام منزلهم. اكتشف عادل في نفسه خصلة جديدة قد تخفف من غلوائه، اخِتفى بعد ذلك، وعاد بعد شّهور يرتدي ملابساً بلون خاكي. صار يرتدي زي عسكري طوال النهار، وكلما وجد شخصان يتحدثان، توقّف بجانبهما، ينتهِرهُما. لماذا أنتما واقفان؟ تتفرّق الجمهّرة. ومن ذلك اليوم، صار إسمه على لسان كل الحارة. يقولون الرائد عادل. وعلى ساعده الأيمن شاره بشريط واحد. ومرت أيام، وعلمنا أنه قد تّم نقّله لمناطقِ العمليات في إقليم دارفور.
                  

08-30-2019, 05:02 PM

نعمات عماد
<aنعمات عماد
تاريخ التسجيل: 03-08-2014
مجموع المشاركات: 11404

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)




    مرااااحب بالروائي المبدع مصطفى بشار

    ما زلت اقرأ في منتصف المداخلة التالثة ، و يا للروعة

    شكراً كتير .
                  

08-31-2019, 12:53 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: نعمات عماد)

    الأستاذة نعمات عماد تحيات ومحبات لينا طوله، لعلك بخير وصحة شكرا على كرم المرور
                  

09-01-2019, 10:49 AM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    up up
                  

09-05-2019, 04:10 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    فوق فوق
                  

09-06-2019, 07:58 PM

النذير بيرو
<aالنذير بيرو
تاريخ التسجيل: 08-08-2004
مجموع المشاركات: 215

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    سلامات بشار
    يالهذا الابداع ياحبيب
    ومشتاقين كميات
    اقرا روايتك بشغف اسطوري
    وحاضرة امامي صورتك كما تلاقينا اخر مرة في ابريل الماضي
    التحية لك😃
    النذير حسين
                  

09-18-2019, 02:54 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: النذير بيرو)

    شكرا اخي النذير على كرم المرور
    تحيات ومحبات
    مصطفى بشار
                  

09-18-2019, 03:16 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)



    18 حال يتبدل بين فينة وأخرى. الوقت ظهيرة، الشجر متوقف بلا حراك، مرسوماً كاللوحات على فضائه السقيم، لا يهزّهز أي غُصنٍ فيه ولا يميد. جاءني خاطرٌ كالطفل، جاس حولّي، وتسلّقني حتى ارتقى إلى أنفي، حَاول أن يُدخِل أصّبعيه بفتحتي منخريّ. عطسّتُ عطسةً قويةً، دار رأسي حول رقبتي، نظّارتي زحفت مُبتعدة من بين أذنيّ وأمام عينيّ. دار حولي كمن يدور حول مبنى عتيق، ومُسّتدير البناء، رفّع عُيونه ليتسلّق بنظرهِ، أعلى قمة في جسدي الفارع، مرّ بعيونِه الحارقة المؤتلقة على أخاديد وجهي، وفَطس أنفي، وجبيني البارد. حدّق في ياقة قميصي المخطط، شبيه بجلد حمار وحشّي، بتخطيطات مُتماوِجَة، عاين في جيبي كانت به أوراق صغّيرة، وقِطعة معدنية. إحدى الوريقات مطبقة في شكل مثلثات صغيرة، وتحمّل شّكل شُراع لمركبٍ نيلي، احتفظتُ بها لزمنٍ طويل، لكي تكون طريّة ومُتماسّكة، خطّ بها شيخي عبدالرحيم البرعي بعد أن رمقني طويلاً، وحرك سبابته في شكل توقيع مهّر به على باطن كفّي الأيمّن، والثانية كانت عبارة عن قطعة فضية من فئة الخمس فرنكات عليه صورة الملكة (ماريا تيريزا)، احتفظتُ بها عندما دخلت غُرفة جدتي المُتوفية. قبل زمن طويل يزيد عن العشّر سنوات ونيف، كنت أنقب بين أشياءها، ودائماً ما كانت أمي تنتهرني، كلما رأتني أدور حوّل غُرفة الجّدة، مزيجٌ غريبٌ بين سجاد عجمي وعِصي من البامبو سهل التطويع، تّم تشّكيله على هيئة أنصّاف دوائر لترتاح على ظّهر كراسٍ كبيرة الحجم، بينما في هذا الوضع تكون الأرجل مرفوعة. مغّلف كرتون لعطرٍ غريب وغامض، يتمّدد في أعلى الفراغ الذي يكون أسّفله سّريرها الخشبيّ، لم يتسّن على ما أعتقد لشخصٍ أن يرقدَ على سريرِ الجدة، منذ أن كانت زوجة لجدي المرحوم، لأن السرير كان يصدر صريراً غريباً، ولا يمكن أن يكون يصدر عن جسم خشبي، لأن ما كنت أسمعه احتكاكاً معدنياً، وحشّرجات مُوحِشة. يجبرني الصّوت لأن أحتمي بأُمِي، التي كانت ترّى زعراً يرّتسم على عِيوني الضيّقة، وفي أسّئلة استخبارية عما إذا كُنت قد مررتُ جوار غرفة الجدة. لُذت بالصمتِ، تستحثني على الرّد بالإيجاب. نلت بعدها علقة بالكرباجِ، تمددّت بعدها لأيام في السّرير، وهي سانحة وسبب أكثّر وجاهة لعدم ذِهابي إلى المدرسّة، التي كُنت أمُقتها. أتت لي بالحليب في سريري، مع خُبز مغمُوس في سّمنٍ نباتي. وأنا في حالة تفكير دائم لمعرفة السّبب الذي يجعّل أمِي تمنعني دخول هذه الغرفة. في إحدى المرات سّمعت طرقاً، وإيقاع (مردوم) يأتي من داخلها، زحفّت على بطني بعد أن اسّتلقيت على الأرض. مررت أسفل سريرها، توقّفتُ قليلاً حتى سمِعت انتظام تنفُسها أدركت أنها في نِومٍ ثقيلٍ، على غير العادة نامت مُبكراً اليوم، ولم تُغلق الباب الداخلي، وأبي لم يعُد من السّفر، خالي يرقد في الفناء الآخر، خلف غرفة نوم أمي، التي نحن الآن نرقد في الفناء أمامها. للوهلة الأولى التي سنحت لي في التسلل لغرفة الجدة، لم أنم لعدة أيام. في تلك الليلة جاءتني الجدة مُتوّعدة تحمل سّوطاً له لِسانين طويلين رفعتّه إلى أعلى، وقد إحمرت عيناها. نزل السّوط على جسدي الغض شو، جو. صرخت، خرج من فمي هواء لا صوت فيه. لا حول ولا قوة إلا بالله. المساء يُجّن هنا، ويُجنن الراقدون على ظلِ الحائطِ المبتّل، بعطر جدتي. زحفت من تحت سرير أمي، وابتعّدت إلى الجانب الآخر، حاولت أن أرفع جِسّمي إلى أعلى كما يفّعل ضّب صّخري. أدِرتُ نظري ناحية أمي ما زالت راقدة. خالي متناوماً وليس له اهتمام والدتي في الاحتفاظ بالغرفة مُغلقة. عاينت في اتجاه النافذة. لمست حائطها. انزلّقت يدي. غرفة حائطها مبتل دائماً، وتصنع سراباً، كلما انعكس عليها ضوء القمر. أرسلت نظري خلال النافذة المغلّقة. علا صوت دفء، تسارع إيقاع (التُم تُم). الأرض يجيئها اهتزاز متباطئ من بعيد، تَحرّكت من تحت جسّدي المُرتعِش. حُمى تحمِل جسّدي وتُلقيه أمام سّرير أمي مُباشرة. بزعرٍ شديدٍ أُحَاول أن أكون هادئاً، رُغم التحّول المفاجيء الذي حملني من مكانٍ إلى مكان. أرقبها ما زالت نائمة. زحفتُ تحّت سّريرها ذو الحِبال المتدلّية، صَنعت على ظهري خيطاً من خدر شفيف. أزحف وأزيد إيقاع الزحف. تخطيتُ منطِقة الأزمة. ألصق وجهي بالنافذة. غشاوة رمادية وضب يكمُن يترصّد حشّرة عابرة. أرتعِد سّريعاً. يزول ارتِعادي. ضبٌ فقط ليس غير. أرجع بوجهي إلى النقطة الأولى. الرائحة الغريبة تترصد أنفي المدسّوس على سّياج النافذة الخارجي. أُحرِك وجهي إلى الوراء. صوت راديو يأتي من بعيد يُعلّن أن الساعة الثانية صباحاً في إذاعة أم درمان. ما زالت المدينة صاحية، وضبّها يتلصّص على الشقوق. السّادة السّمانية ذِكِرهُم لا ينام. صّوت دُفٍ يأتي من بعيد يتداخل مع إيقاع التُم تُم المتوقّد في الحُجرة. (إبلي المشَرّفات، وسِمِهِن فاخر، ينفّعني، درهِن ّ في اليوم الآخر). تسّرب دُخان من مَبخر يتوسّط الغرفة. هَيكل غَريب الشّكل يحاول النزول عدة مرات ويفشّل. أيادي تُلاحقه بغرّض المُسّاعدة، ليتدلى فوق المبخّر. أجسام سّابحة في فضاء الغرفة. تبين وجوهاً تشبه وجه جدتي وصديقتها (زهرة برهوم). أصوات عدة لبشر وشياه، ومواء لقطط تَصّتك أسنانها، تُنادي خَليلها لجلسةِ سفاد. جعران يسّحب كُرّة من الروث تكبِره حجماً يمّر أمام الغرفة وتحت ضُوء القمّر. قِط يمشي بحذرٍ على حافةِ الحائط المُقابل. يكمّن. يُبطيء حركته مترصداً شيئاً لا أراه أثناء التصاق وجهي بالنافذة. أُحَاوّل أن أستجمّع نظري لما يدور بداخل الغُرفة. أختلس النظّر إلى سّرير أمي المتكومة في نوم عميق. أنا خائف في الحالتين، من أن تطالني يد من داخل الغرفة المتوفذة بالأشباح الغريبة، وسخّط والدتي التي لا تريدني أن أقترب من غرفة أمها. احتراق لبخور ذو رائحة مفرحة في ليل واجف. ريح تعصف بالفراغ. أفقد التماسك مع الحائط المبتل. يا شيخي آب عاقلة، يا برعي القوم. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثمة شيء يسحبني على قفاي. يجُرني إلى الخلف على كعبيّ رجليّ. يداي متهدلتان. أحِس بنبضٍ غريبٍ وتعرُّق في باطن كفيّ. وانحلال لمفاصلي ورغبة حثيثة في القيء. وطعم مُّر في حلقي، لا أدري هو داخل أم خارج من معدتي. أتحسّس حافّة السّرير الذي أرقُد عليه. ألمس ملاءة ناعمة، ووسّادة مُريحة. أنا في سريري، من الذي أحضرني إلى هنا؟ كُنت قريباً من النافذة. من الذي جاء بي إلى فراشي؟ ما استشعرتُ شيئاً. حمّى تجتاحني من أخمّص قدمي، تأتي على شكل مويجات مثل مّد الدميرة. غبت زماناً طويلاً جداً لا أدرى كم مدته، عندما أفقت، وجدت جسدي مبللاً بالعرق. والدتي تضع ضمادة باردة على جبيني. ابتسمت لها، ظننت أن ذلك سيُخفف عليّ شِدة العقوبة. عرقٌ غزيرٌ، انفرّز بعد موجة حمى عاصفة. ضوء تسلل من بين فرجات نافذة مُغلقة، يدخل ضوء ذو أشعة مذهبة ومتقاطعة أمام عينّي، وبالكاد تجتمع عند النقطة التي تنّصف المسافة بين عينيّ، استدرت على جانبي الأيمن، ألم في جسمي يتخذ من الجهة اليسرى مقراً له. يا ساري الليل، أنت تقف في مكان لا أرض تحتك، ولا سماء فوقك. لقد أطِلت غيابك. تُحدق ناحية البحر والنيل استحال إلى ثعبان مقدس. رمال عابثة، وطين أخرق. وليال ما عادت إليك باسترشاد مصباحك الواهم، ثيابك خضرٌ وزرقٌ لا يهم. أي موجة تعتلي.
                  

09-18-2019, 03:39 PM

تماضر الطاهر
<aتماضر الطاهر
تاريخ التسجيل: 04-16-2018
مجموع المشاركات: 925

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)


    أكثر من رائع
                  

09-18-2019, 09:26 PM

عمار عبدالله عبدالرحمن
<aعمار عبدالله عبدالرحمن
تاريخ التسجيل: 02-26-2005
مجموع المشاركات: 9162

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: تماضر الطاهر)

    مدهش ،،،
    يا ريت تحول ل pdf
    و تسمح لينا بوضعها هنا
    http://http://Www.facebook.com/sh143aWww.facebook.com/sh143a
    المرتضى للكتب السودانية
                  

09-18-2019, 09:26 PM

عمار عبدالله عبدالرحمن
<aعمار عبدالله عبدالرحمن
تاريخ التسجيل: 02-26-2005
مجموع المشاركات: 9162

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: تماضر الطاهر)

    مدهش ،،،
    يا ريت تحول ل pdf
    و تسمح لينا بوضعها هنا
    http://http://Www.facebook.com/sh143aWww.facebook.com/sh143a
    المرتضى للكتب السودانية
                  

09-21-2019, 03:50 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: عمار عبدالله عبدالرحمن)

    اخي عمار عبدالله
    تحيات وسلامات
    هذه الايام بصدد اعادة تصميمها ، وتهيئتها بالشكل المناسب، لتكون مقرؤة
    لك الود
    والتحايا والمحبات
                  

09-21-2019, 03:48 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: تماضر الطاهر)

    استاذة تماضر الطاهر
    التحيات لك
    والياسمبن لك
    شكرا على كرم المرور

    مصطفى بشار
                  

09-22-2019, 03:32 PM

Biraima M Adam
<aBiraima M Adam
تاريخ التسجيل: 07-05-2005
مجموع المشاركات: 27498

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)


    مصطفي،

    سا سلام علي الأبداع الرهيب .,

    up

    بريمة
                  

09-23-2019, 05:00 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: Biraima M Adam)


    .. الأخ الكريم بريمة
    لك تحيات ومحبات
    ..
                  

09-23-2019, 08:42 PM

عمر التاج
<aعمر التاج
تاريخ التسجيل: 02-08-2008
مجموع المشاركات: 3428

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    شكرا المبدع مصطفى بشار
    لقد اعدت للمنبر ألقه وفنه
    رواية جديرة بالاطلاع والمتابعة
    أعجبني جدا اسلوبك في الوصف وتجسيد الشخوص
                  

10-07-2019, 03:24 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: عمر التاج)

    الف شكر اخي على كرم المرور
                  

10-07-2019, 03:40 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    20
    هكذا وقف أمامي على التلة، حافياً حاملاً مصباحه المضيء بغير زيت، لابركة من مجيئة المبكر، ولا نبؤة عالقة بجلبابه المتسخ. الآن عدت بالقافلة على دروب صعبة، وأودية متعرجة، هلكت إبلهم، ودفعت بأرواحهم إلى الهاوية. تلك لم تكن حالة إستثنائية عما كان يفعل ساري الليل، فقد قضى أياماً وقروناً، يبعد القوافل عن مسارها. ويطيش بالركبان في الفلوات، فما عاد أحد يذكره بخير، يدعو في مناص من إجابته. ريح تنعقد أسفل التل. يغم بصري برهة. من القمة التي كان عليها. أين أنت ياساري الليل؟ عندما كنت أجييء في المنحدر لاح ثانية. عربدت ملامح وجهه. تريثت ربما كان حديثي معه، قد أعاده إلى ذاكرة الرمل، وأستطرد: - مازلت واقفاً مكانك - أين تراني سأسير؟ كنت أنتظر هديك، لكني ظلمت نفسي. فأنت في كل الأحوال غارق في المناجاة، وغافل عن حظوة الناجين في الظلمة. - أنا كما أريد لي أن أكون، أو كما أرادت نفسي أن تكونها. خال من الوعود، وطائش في الإختيارات، وممل كشأني في سائر الأوقات والصفات. تظنني أحمراُ وهاجاً، أو أصفراً برتقالياً. لك ماتشاء. لكن لا تتبعني حتى أطلب منك ذلك، أو حين لامناص سوى أن تكون معي، وأكون دليلك. حينها العاقبة لمن أتبّع، أو ألقى الذاكرة فارغة على قارعة الطريق. ماعاد يسمعك ياساري الليل إلا انا. رواحل توقفت في الظلمة. تبديت لهم في كل آن. بعثرت ذاكرتهم في الوصول. توقفت القافلة. أناخ قائدها بعيره، ريثما تهدأ العاصفة. وتدور أنت في الوثوق أن لا إتجاه. لا يخالطهم شك في أنه هو. كان الله قد تركهم يقررون مايريدون، وأوصد دونهم إختيارات المبيت حيث هم وقفوا للتأمل، دون فضيلة ظاهرة. يا ساري الليل أستغرب جداً أن يكون عملك الذي تعتاش منه، هو أن تضلل القوافل والناس والماشية في دهمة الليل. لايلين لك قلب، والقافلة تحمل المرضع والطفل والشيخ الهرم! أجاب دون تردد، وبحماسة كأنه توقع هذا السؤال: المرأة، قُلها ثانية. إنها التي شردتني من قائمة النهار إلى الليل. التي أبعدتني بسبب تفاحة لم تنلها. أشبقتني ولم أنل منها بغيتي. حيثما كانت هي تجدني، أدنو منها، متعلقاً بحبائلها. هل هو حباً إستوائياً غارقاً في البخور والعطر والنار، وشغب الآلهة؟ هل هو ثأر أبدي يفضح العري، ويغتال النذوة الساكنة؟ هل هو العمر الذي أعيشه يوماً وأغيب عنه أياماً؟ هل هي الحفل الذي أرقص على إيقاعه، حين تمشى القوافل بلا هُدىّ؟ وحين تصبح تكون قد وصلت إلى مكان لاعودة منه إلا بمجيء المساء التالي. هي أحد أسباب عذابي، وهروبي الليلي واليومي في الفلوات البعيدة. أخلع ثوبي لتبيت تحت خبائه. ناعسة أو نائمة. لايضير ذلك المهم أن تأتي قبل أن يلاحقها غبن مني. فأنا مشغول عن مكائد الأنثى بحرارة المدفأة. بدأ ثانية ناحية التلة، دنا قريباً مني، تبينت جلبابه المتسخ من قماش الدمور. نسيج خشن صُنع بأنوال يدوية، أو أظنه بدأ معه منذ الخليقة. تماهى النسيح مع خلاياه. قال يارفيق، الحياة عندكم مملة. ومعكم جحيماً. تصنعون الخبز مستديراً، ثم تلوكونه على إستحياء. وفود الجوعى يتقاطرون دونكم. في كل إتجاه. لم تأخذكم بهم شفقة. تفلحون في إصدار الفرمانات، واحداً تلو واحد. تبعثونها في الأنحاء. لم يعُد هُناك حراماً، مادام فقه الضرورة موجوداً. 21 قلت أسافر. هذا كان طلبي قبل سنوات كثيرة. أهرب من هذا المكان الذي صار يجافي الفطرة. الذي لا يُقدّر الحُب، ولايعير إهتماما للحبيبة التي سلبني منها(فضلو باقي)، ولعل لغتها تتغير، ولا تكون شبيهة بلغة صاحبتها حنان غرزه، (لو عايزني أشتري ليك عربية ذي الرجال ). يعنفني الصوت الآخر: مالك ومثل هذه، هناك غيرها كثير. لكن ماذا أقول للقلب الذي لا يريد إلاّ لأمنياته أن تتحقق؟ الحبيبة إنتزعها ذلك الجد. الرجل السبعيني الذي يتقمص أثواب شاب ثلاثيني. لعلها تهتم بي، تدير بالاً علي. سأسعد بك كثيرًا. أين سيمضي (فضلوباقي)، سيموت من الغبن. الحب إنقلابٌ أبيضٌ، ليس بضاعة يبيعها جندٌ بالمفرق. فتبين لهم قسمات وجهك. سترد له نقوده القليلة. يخلو لي الجو. سأظفر بمن أريد من الحسناوات. سترتفع أسهمي كثيراً. مغترب وحتى بلا مال، يملك قدسية في قلوب أمهات يردنّ تزويجك من بناتهن، يجيئك المدعووين حين تعزمهم لكرامة العودة. كل أم تأتي مصطحبة إبنتها في أجمل زينة، لتريكها. الله ، الله. ستبقى الأحلام رابضة في إنتظار التحقق. وتخيلت أني تركت الخرطوم خلفي، أسريت. خلفتها ورائي بغضّها وغضيضها وجنّجويدها!! ضابط الجوازات يتفحص إسمي ملياً، عبدو اللازم إسم واحد؟ نعم إسم واحد. الليل تهزمه إضاءات خافته فيتقهقر وراء طاولات بعيدة. حقيبة تنتظر نبؤة من عراب، قد يأتي فجأة بين حشد الضباط. يكفي أن يقول: (هذا الراجل قبضنا عنده منشورات في قرية الطارفة قبل ثلاث سنوات). حملت معي أسطوانة مضغوطة، تحوي شجن غربة وليل. مسافر في حقيبة. عبرت أمام عينيّ غمامتان لأختيّ الصغيرتان، رهق يومي، وثمن أرغفة ومرق، وفاتورة مياه وكهرباء، وقطع لحم وخبز خالي من بروميد البوتاسيوم. تتوقف في ذاكرتي لافتة مخبز مدينة الشجرة، حيث وجد حامد الدخري ضآلته، وتمكنّت منه غَمزة من عينٍ يُمّنى. وضع صاحبه في أعلاه لافتة كتب عليها، (أشهد أنا "كرجول الكبجابي" صاحب مخبز المودة، أن رغيفي خالٍ من بروميد البوتاسيوم، ومن أي مواد إضافية أخرى، والله على ما أقول شهيد). أتفقد في جيب بدلتي بطاقة أداء الخدمة الإلزامية، وتأشيرة زيارة. غادرت بالقليل من الملابس، وحقيبة أخرى هي بورتفوليو Portfolio بداخله رسومات، وإسكتشات لرسومات لم تنفذ بعد، وأرشيف لكتاباتي في صحف الخرطوم، وقصاصات من صحيفة إجتماعية ما إستمرت سوى شهور. ربطة عنقي كانت تحز في خاطري وفي رقبتي، تجعلني أسير وكأني رجل آلي. وتسحب ما أتنفسه بعدد وبإنتظام، لأن أي زيادة في إستنشاق الأكسجين، قد يفسرها ضابط الجوازات إهانة. ليل يتخنصر في أصابع مطار. الظلمة تُقبل علينا كلما إقتربنا من وسط أم درمان. ودعت إخوتي. سور يمتد إلى الأطول. تطل منه نخلات متفرقة، وصايا عشر. صندوق البريد الخاص بي في البوستة الرئيسية بالخرطوم، أرجو أن تدفعوا لي رسومه حتى لا يتم نزعه. حافظت عليه مدة عامين كاملين، عليك مقابلة الأستاذة فاطمة بالمجلس الأعلى بخصوص الكتابين اللذان أودعتهما للطباعة. سليمان البقال سدد له ما تبقى من مديونيته، صار يحدجني بنظراته كلما أقبلت أو إستدبرت. أحتفظ لي بصوري وكتبي، هناك آلة تصوير أبقيها داخل دولابي، بالله عليك أعط نسخة من كتابي للأستاذة الإذاعية سوسن، أوصيت الأستاذ زهير حسن أحمد المسرحي بتسجيل أخي الأصغر في حلقة الموسيقى بقصر الشباب والأطفال. وصايا لاهثة. مّر تعب بجسمي، تحلّل جزء من قلقي. حي المقرن، كان بعيداً عن الخرطوم. كنا نتكبد مشاق كثيرة حتى نصل بدايته. هذا كان قبل سنوات قليلة. وتسأل عن حبك القديم ونساءك القليلات اللائي بقين في عصمتك، تغادرهنّ بلا إستثناء، وبلا دموع، تبحث عن جديد بين ثياب مبللة بشبق. مارقات من سجن الغيب. تسافر من أجل واحدة منهنّ وأنت في قرارة نفسك تعرف إنها قد لا تستحق كل هذا العناء. يستعطفك الليل لو تلقي إليه أعقاب سيجارتك. كيّف ليس لك وحدك. حاولت أن تقابله،( يعني مسافر من عندنا، نعرف كيف سنأتي بك. سنعيدك إلى دارك لو طالت عليك السنين. (شيخ عثمان) قادر، يجيبك حتى لو كنت في قعر المحيط الهادي. أعرف ذلك، ستخلق لي أمل جديد، وأعيش في جو جميل، ويداي تصلصلان بحلي ذهبية وحناء وثوب، وصدر نافر لن أرضع منه طفلي. يكتفي بلبن مبستر. دراهم تسيل بين أصابعي. ولابد من أن ترسل تأشيرات أقامة لأخوي منصور وعلي، وأن تشتري إقامة لأبي، كي يرضى عنك، وأمي لكي تقف بجانبك). تُولّد البنت وهي تشبه أمها في كل شيء، حين تتزوج تلغي كل علم تعلمته في الجامعة. تكافح لتتعلم وترتقي لأعلي المدارج، وحين تتزوج تهبط بها عادات التشابه والتماثل التي إلتقطتها من أمها. عدت متعباً من العمل. وجدتها وقد غطت يدها ورجلاها بالحناء. وهنّ في جلسة أنس فاجرة . جنس مكشوف. أنظرنّ ماذا سأفعل في هذا الرجل؟ لتدركنّ كيف أنه مثل خاتم في يدي؟ (تعال وأغلق لي جرار قميصي). كم سأبقى هناك، سأحصد دراهم، أول الدراهم سأبعثها لكي تشتروا جوالات أسمنت، السور يحتاج مسحة. والغرفة الثالثة التي تلاصق المطبخ صارت شبه مكتملة، أسقفوها من ألواح الزنك، صحيح إنه ساخن صيفاً وبارد جداً شتاء مثل مناخ البحر الأبيض المتوسط، أفضل من أن تكون بلا سقف، واصلوا الإنارة من الوابور الخاص بالحي، صحيح أن صاحبه عنجهي بعض الشيء. مرّ ذات مساء، كنت أجلس أمام الدار، والقمر فاقع اللجين، وأمامي أكواب زجاجية وإناء ماء، تذكرني ساري الليل. جاء متوتراً، كفنان يرتضّع فناً من ثدي القمر. أين نورك يا صاح؟ أدفع أنت في هذه اللحظة. أنت تستفيد من ضوء القمر أمام منزلي، لتتفحص أسلاك وابورك العتيق. في لحظة والزمن يمضي بشهوة خروج وسفر. بقيت وحدي، تجولت بعيوني داخل صالة.ً عادت لي بواكير الخريف، تذكرت أني قد أديت الخدمة الوطنية مدرساً في ولاية النيل الأبيض المتاخمة لولاية الخرطوم. مرتب زهيد لم يتجاوز الخمسون ألف جنيه. كان شقيقي يدعمني بمبالغ أكبر منه بعشرة أضعاف. تلك المدرسة، تميزت بطالبات غريبات الطور، ينشدن إنتماءاً وجدانياً، يكتبنّ الأغاني على كراسة الواجبات. وتغني إحداهن بصوت جهير، فيه تطريب ظاهر (يا أب شرا، إن شاء الله راجل مره)! فصل طالبات السنة الثالثة. روائح من غُدد نشطة. وتعرقات تتراسم خرائطاً عند إبط الطالبات والطلاب. إحداهنّ تدق الأرض برجلان ملفوفتان، حين تمر فوق البلاط الأسمنتي. وأخريات يهزهزنّ أردافهنّ وهنّ عالقات بأغصان شجرة نبات صحراوي، وأشجار سدر. تغمز أحداهنّ(هي، ده أستاذ الفنوون)، ترد عليها طالبة عرجاء، بفم يجتمع ناحية اليمين من وجهها، وهي جالسة القرفصاء في فناء المدرسة:( هاي هوو، في فان؟). وأنا لا أملك إلا الأمل الذي يبقيني حياً ليوم الغد. لكي أعود بحلمي، وأعود مثل نورس، أو طيور لقلق في خريفٍ. موعدي مع سنابل يانعة لا تخشى إحاطة مُنجّل بتويجاتها. في هذه اللحظة يكون غريمي فضلو باقي، في نوم متقطع، وأحلام مزعجة. كوابيس لانهائية. يحصي نقوداً ممزقة، ويودعها خزانة متسعة، ويصحو بحسرة، أن الذي جابهه في النوم، كان حلماً. سرنمةً. كابوساً لا أرض له، ولا سماء. وأنا دون ذلك. حد بين معرفة وجهل كبير. يستطيع هذا الجهلول المثير أن يخطب في حشد كبير، ويقنعهم أن زوج الحمام به ثلاث حمائم، ويمكنه أن ينظم نصاً تتناقله الأمة، على مدى الدهور والأجيال، ويمكن أن يجد له لحناً. لعله أقنعهم من قبل، أظنه كان ملثماً يسبق الجند، وهم يفتشون البيوت. وأظنه أحسّ بأهميته، ففّكر أن يصارع شيخ عثمان في قبوله. حبيبان ينامان في أحضان بعضهما. وعجوز مشلخة تتأفف، مشهد لم تراه منذ أن ولدت إلاّ الآن. سنُقاد إلى يومٍ بهيمٍ أغبرٍ. برهابِ خلاء. بخت مائل، كوشم مستعرض يأخذ شكل سلم. أخرجت كراسة الرسم، مررت بقلم حبر أسود سائل على رسم باهت، إنتشر الحبر، وجري في خطوط موجودةً سلفا، بدأ ينبض بقلق وتوتر. برز من سطحه، جمع خيوط حبر حوله، بنى لنفسه شباكاً عنكبوتية، تماسكـ وتمدد. تململ وهو يعلو السطح رويداً رويدا. أتلفت لعل أحد رأي الرسم، خارج عن الورقة، ومرتفعاً إلى السقف. أشباحاً تتناسل، واحداً وراء آخر. تاركة الأرض وصاعدة إلى السماء. شيطان يكّون نفسه. يقطر منه حبر أسود على بلاط الصالة. تكبّر بقع الحبر، تنتشر في الرواق. تستدير وتذهب ناحية مخارج الطواري، كأنها تشكل أخطبوطاً بثمانية أطراف. يرشح في أمكنة مختلفة، يسيل تحت مقاعد المنتظرين. يتجمع الحبر، ويكتب من تلقاء حِبره، حروفاً متفرقة، تقترب من بعضها، تُشكّل عبارة آتية من بعيد، أغرس عيني فيها. أتجمّد من الرعب. كلمتان تشكّلتا على البلاط أمامي، سّاري اللّيل. هل يعقل ذلك يامسافرون؟ من الذي وشى بي عنده. قد يكون رسالة مفادها أني مدرك لنية سفرك، كيف تسافر دون إذن مني؟ يعجز المتحرون عن كشف ماهيته. يختفى الحبر، تدريجياً، قبل أن يُعمِلوا فيهو أدواتهم. أجهزة حواسيب علقت في صفير متواصل. لاح في الفراغ أمامي نسيجاً متشابكاً من إلفةٍ. إغروقت عيني دون أسى. لترابٍ أغادره مرغماً، قرأت من ديوان شعر أصطحبه في سفري. أيها الراحل في الليل وحيداً ضائعاً منفرداً، بالأمس زارتني بواكير الخريف، غلستني بالثلوج، وبإشراق المروج. أخرج من روحك. ولا أستأذن أن أعبر صمت. تقطعه بمدية أسف خالص في شعور. منجل عالق في بكور. تصحو لصورة حزن. إعتقال للضمير. ماذا لو البنادق كانت رفشاً، تزيل أقذار الطريق. لو طغى الحُب على لون المرايا. لوغرسنا أصابعنا، وأنبتنا الحُّب والحَّب معا. تكرر المشهد، وأدمنت سفراً كثيراً. تجدني قابعاً على كراس وثيرة في مطارات بعيدة. متكبداً مشاق سفري وحدي. روحي تلهج على سير حقائب متجهة، ناحية مكتب الجمرك، ونظرات أفراد الأمن الثاقبة. مسافرون قادمون من كل مكان. هل نسافر لنبحث عن حبيبة؟ عن مزيدٍ من الألم نحشو به قلوبنا وحقائبنا ثم نعود من جديد. ما مغزى أن نرحل بصورة الحبيبة على حافظة النقود؟ هل نبحث عن أكسيجين غير أكسجينها الذي تلفنا به حين تضمحّل الخطوب؟ أم تبحث لإبنتها عن عريسٍ مُغتربٍ. النقود ترصِف لك الطريق إلى السماء. تواصل أم العروس، تتحدث نيابة عنك إلى صويحباتها،( والله خطيب بتي (نهلة ) جاب ليها حقيبة عرس خمستاشر خمستاشر، وكان حالف كملها عشرين، لكن راجلي حماهو، وقال ليهو إنت ود بلد. وراجل فنجري، وإنت الزيك منو، وفي الشيلة جاب الموبايل الما خمج). (سيدة بت مغبون) خالة العروس، إمرأة كثيرة الكلام، وشديدة الملام. عين لا يملأها سوى التراب. كانت دكتاتوراً مصغراً، إستعانت بها أم العروس، لتجهض حلم عريس، وصلت شنطته ناقصة العدد. أخرج من إطار قديم، وأصيخ سمعي لأحاديث صبايا جوار النهر. ينقلنّ الماء بجرار من فخار. وأنفاس الطفولة في المرايا. أقبض عليك وفي الحنايا. رساميل تحناني وشوق الليل، حين أصطحبك للنهر، تجدين قافلة التحايا. تجوب البر. ويطفر دمع مشتاق أوان الفجر. أغنية المطر ذابت في تواصلنا. تقطر لحن عابرٌ وجلٌ، خلف زجاج أغنت مناظره، وأنعش عطر فؤديك أغنيات الهجر. فجأة تخللني السحاب. يرافقني شهود حب، يوقعون رسماً على خاطر. يصون الليل خوفي كثيراً، ويذوّب حزني عليكم، لأني تركتكم بلا ميعاد. تذوي الأعين. أغلق عليّ قميصي بأكمامه الطويله. إرتعاش يعاود بين فينة وأخرى. ليست الحمى وحدها تفعل ذلك. تذوّبنا أشياء كثيرة في الليل. نبحث عنها في همس مضيفات رقيق، وحركاتهنّ التي تشبه الفراشات في الممر، الذي يضيق بصدورهن وأوراكهنّ اللفاء. لا أدري من هذا السفر؟ هل أني أود أن أنظر اليك من خارج كوب شفيف؟ تتراقصين بالجرح، وتسقطين على ضوء شمعتك. وبعدها ألفت أن أكون معلقا بذيول تلك الطائرات. حكم علينا النظام بالحرمان من العمل، داخل الوطن. في ساعات الفجر الأولى. تتسلل إليّ الأشعة في ذاك الارتفاع قبل أن تسقط على أهل الأرض. أسئلتي تغويني على سرير من الريش. هل تعود قريبا؟ هل ستجدها تنتظر في المطار عند عودتك؟ خذها من حضن الليل إلى حضنك. ما عاد الدمع يبلل الوجن عند عصف الريح. الكمنجات عالقة بحبل الناي. تزفر شجوها الموهون، دفقاً من لحون. والمساء وخطته خيوط ضوءك والسنا. أهديك هذا النبض كم أبقيته بجوانجي، رهقاً، توسدت البنفسج، وإلتحفت خاصرة الوريد. شعل هنا وهناك. تُذّكِرني لافتهٌ مكتوبهٌ بأزهارٍ يانعةٍ باللغتينِ العربيةِ والإنكليزيةِ. ترتقي جِسراً عالياً :إبتسم أنت الآن في إمارة الشارقة. تتحسس فمك، تجده مفتوحاً. أي والله. كنت مبتسماً، ولا أدري! حمل معي هماً لازمني، تعبأت به من الخرطوم. تلك المرأة، كان يتجسد فيها كل البله والعتة. منّ من الناس يشتهي شراء مرارت الحياة بنقوده؟ أين كنت سأختبيء من هذا القبح. لو تدرين، ففي الضفة الأخرى، يأتلق المدى بغزلان ومهور.
                  

10-08-2019, 04:07 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36987

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    https://up.top4top.net/

    حكمة بالغة....وما تغني النذر
                  

10-08-2019, 04:42 AM

Ahmed Yassin
<aAhmed Yassin
تاريخ التسجيل: 01-31-2013
مجموع المشاركات: 5507

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: adil amin)

    الاديب الاريب مصطفى بشار
    قراءة واحدة لك لن تكفى ؛ لابد من مرات ومرات واحدة تلو الاخرى
    لان في كل مرة نكنشف عوالم مبهرة في هذا الجمال المتدفق عذوبة والقا وادبا ووصفا
    كل جملة او حتى كلمة نتوقف عندها ولا نتجاوزها لانها تحمل الف معنى والف احساس
    كيف ادخلتنا الى حالة ( الانبهار ) هذه التي نحن فيها! تكاد شخوص الرواية ان تخرج الى الواقع
    وعمك (فضلو باقي) يقف امامنا وهو يمسح زيت الطحنية في جلبابه المتسخ اصلا
    هنيئا لنا بك يا مصطفى
                  

10-21-2019, 01:51 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: Ahmed Yassin)

    شكرا اخي احمد ياسين على الإطراء.
    ارجو ان تجد الرواية حظها من النقد
    وافر المحبات

    مصطفى بشار
                  

11-14-2019, 05:01 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    سلام ومحبات
                  

10-21-2019, 01:52 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: adil amin)

    استاذ عادل
    تحيات وشكرا على كرم المرور

    محبات
                  

12-07-2019, 12:36 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية( عشب لخيول الجنجويد) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    فوق
    فوق
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de