|
Re: حكاية للنسيان (Re: عبد الحميد البرنس)
|
في ذلك الصباح، ظلّتْ آيرس تتابعه، وهو يمضي على غير المعتاد إلى عمله بمثل تلك الخطى البطيئة المثقلة، كما لو أنّه من دون وعي أو جدوى يقاوم قوى ما غير مرئية ما تنفك تدفع به نحو حتفه. خفق قلبها، وأحسّت فجأة بالرغبة في الصراخ لتذكيره، عندما لاحظت أنه لم يلتفت كعادته نحوها، ويرسل إليها إيماءة حبّ لم يسبق له أن تخلى عنها، طوال سنوات زواجهما العشر. قالت للقسّ في بداية ذلك الحوار وهي تحاول جاهدة منع نفسها من البكاء؛ «لعلي قد ناديته بالفعل، يا أبانا». كما لو أن «الصمم أصابه». في الواقع، لم يكن يا أبانا «يخرج من فمي لحظتها سوى الصمت»!
********
نداء القدر ألجم لسانه وأغلق كل منافذ ما اعتاد عليه
سلام البرنس
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حكاية للنسيان (Re: ابو جهينة)
|
حياك الله أبا جهينة: أمبارح كنت أتجول مع "هكذا، تكلم زرادشت". يا له من وجود يستحسن أن يعيش الإنسان لا يضع موضع تساؤل!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حكاية للنسيان (Re: najma)
|
شكراً للأخت العزيزة نجمة..
أتذكر من رواية السادة الرئيس القرد أن السادة الرئيس صانع البهجة واهب السعادة سأل والموت دان أحد مستشاريه قائلا: لماذا يموت الإنسان؟ وإذا كانت الحياة قصيرة إلى هذه الدرجة، كان أجدر أن ننفقها في توسيع الآفاق كما لو أن الإنسان يعيش ألف عام!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حكاية للنسيان (Re: جلالدونا)
|
هل تستند الحكاية على وقائع حقيقية أم انها من صنع الخيال المبدع؟؟؟
وأشكر جلالدونا على إشادته بالدور المبدع الذي يقوم به البرنس وماأضفاه من حيوية على هذا الفضاء الاسفيري..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حكاية للنسيان (Re: جلالدونا)
|
حياك الله اخي جلالدونا، ثم أشكرك لكرم لا أستحق، وإن كانا يستحقاه عن جدارة، المشاء وأبو جهينة، على أن ذلك المقطع الشعري يلامس بالفعل جوهر مشروعي السردي على تواضعه، وهو المقطع القائل: عندما تهب رياح الغرب تتراكم في الشرق أوراق الشجر الساقطة ذلك أنني كثيرا ما تساءلت عما يصيب أو يطرأ على إنسان ما قادم من بيئة بسيطة إلى بيئة أخرى تتسم بقدر ما من التعقيد من تحولات وتبدل! على أننا ثلاثتنا وآخرين على قدر عال من الجدية نحاول القيام بذلك ما وسع الجهد في ظل ظروف أكاد أقول إنها معاكسة تماماً.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حكاية للنسيان (Re: عبد الحميد البرنس)
|
أشكرك، عزيزي المشاء. نعم الحادثة التي تمثل خيط السرد الأساس هنا متمثلة في إغتيال سيرجنت جون فيرن واقعة تاريخية حدثت بالفعل ومثبتة في أرشيف بوليس مدينة وينبيك. لكن كما يقول ماركيز تعليقا على واقعية أحداث رائعته "سرد أحداث موت معلن" فقد تم إضافة الكثير من جنون الشعر وكيمياء الحنين!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حكاية للنسيان (Re: عبد الحميد البرنس)
|
تالياً، سرد عن شخصية كندية أخرى، شخصية لا يكاد يذكرها كذلك أحد، ربما حتى من بين أولئك المختصين. وأعني جاك أرميتاج، لاعب هوكي الجليد الحاذق، وكابتن وقائد فريق وينبيك فيكتورياس، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حكاية للنسيان (Re: عبد الحميد البرنس)
|
قريبا من قاع الزمن
تمنّى لي السيد رايان باركر وردية هادئة.
أغلقت البوابة ذات القضبان الحديد وراءه. شممتُ رائحة الصدأ العالقة بيدي. استدرتُ نحو الداخل. بدأتُ في صعود تلك الدرجات الرخامية المتسخة الواسعة. عند الدرجة الثالثة تقريباً، عنَّ لي أن أتراجع، لأتأكد مرة أخرى أن السماء فوق الفُسحَة الخالية الممتدة أمام الإستاد ملبدة حقاً بغيم رمادي داكن. فجأة، لفت انتباهي الوجود الميّت للمدعو جاك أرميتِش.
11 فبراير 1872- 7 أغسطس1943.
كان اسمه محفوراً بشغل يدويّ على لوحة سوداء بأحرف مذهَّبة غارقة هكذا في الغبار عند أحد جوانب مدخل الإستاد المهجور.
«مهاجم، لاعب ممتاز، وقائد عبقري».
أرخي أذني أكثر، فأكثر. أرفع رأسي في المحيط المنعزل للإستاد الغارق في الإهمال والنسيان بحذر. أجيلُ بصري محاولا الفهم في السقف الغارق في شِباك العنكبوت. كحيوانٍ أستشعرَ شيئاً ما في الهواء الراكد للبرية. أتنفس الصعداء أخيراً.
ثم غرق كل شيء مجددا في الصمت.
كان ذلك صوت عربة رايان باركر «الفورد» القديمة ذات الدفع الرباعي وهي تبتعد منطلقة نحو موقع آخر من مواقع الشركة.
«أهم ما قد يذكر به جاك أرميتِش أنه أول رجل قام بتنظيم رياضة هوكي الجليد في مدينة وينبيك».
«كان ذلك في الثالث من شهر نوفمبر من عام 1890».
«جاك أرميتِش كما بدا خلال العام 1900».
تلك إذن صورته. ثمة حزن على ذهاب شيء نفيس وغالٍ يطل من عينيه. لا أدري لِمَ هو تحديداً نفيسٌ وغالٍ. أحياناً تخطر على ذهني أشياء غريبة. أما هذه الشوارب الكثّة الغزيرة المعتنى بها جيداً فكانت لا بدّ بمثابة موضة تلك الأيام الرائجة.
«تقلد جاك أرميتِش شارة الكابتن إلى أن تقاعد بعد موسم 1897». «أعظم المواسم والمباريات التي خاضها المخضرم جاك أرميتِش كانت مباراة فريقه، وينبيك فيكتورياس، في الرابع عشر من شهر فبراير من عام 1896، ضمن منافسات كأس ستانلي، حيث أحرز أرميتِش هدفَي الفوز على فريق مونتريال، وهي المباراة نفسها التي وُصفت ساعتها بمباراة الموت».
وأنا لا أزال أتسمّر في وقفتي، مأخوذاً بالقراءة والفرجة على صورة قديمة، خطر لي على غير توقع أن الدولة المهدية في السودان كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، بالتزامن مع صعود مجد أرميتِش الرياضي في كندا، دون حتى أن يتزعزع لحظة واحدة، حلمُ قائدها بالغزو والنوم على سرير الملكة فيكتوريا، في أقصى الشمال. العالم ينهار في مكان ويُشاد في آخر. وتلك تسع ساعات بالتمام، هي عمر أول وردية لي كحارس. تسع ساعات عايشت خلالها أطلال ذلك الوجود الآفل، لحظة بلحظة، أسى بأسى، ولوعة بلوعة. منذ البداية قلت للسيد رايان باركر الذي أوصلني بعربة الشركة إلى الموقع:
«هذا مكان ميت».
أومأ السيد رايان باركر برأسه المغطاة بالشعر الأشقر اللامع موافقاً. قدَّرتُ خطفا أنّ رايان باركر ربما يكون في منتصف العقد الرابع من عمره. قال بجدية بدت لحظتها عسيرة تماماً على الهضم: «كيف لا يكون مكاناً ميتاً، وقد مضت عقود على آخر مرة شُوهد فيها الشيطان هنا». فكرتُ: «له طريقة مختلفة في تسمية الأشياء». أخذنا نتابع السير معا، متوغلين داخل العتمة المطبقة، وقد أحاط بنا ذلك الحضور الأكثر ميتة للأشياء. «مراقبة الموقع، هذا كل ما عليك فعله»، أخيراً أوضح لي السيد رايان كمشرف متجول بين المواقع بالعربة مهماتي، وانصرف مغادراً، بتلك الكياسة المهنية العالية.
لم يتضح لي، مع ذلك، وحتى نهاية زمن الوردية، أي مغزى قائم هناك وراء حراسة إستاد خال، "لم يضحك الشيطان بين حيطانه كما قيل منذ سنوات عديدة"، مثل استاد هوكي الجليد العتيق هذا، خصوصاً أنّه لم يتبقّ على هدمه سوى أيام. لقد كانوا (كذلك أخبرني السيد رايان باركر) على وشك إزالة عصر كامل من حياة لُعبة. وهذا (على الأرجح) ما يُحزن.
النُصب التذكارية لكبار اللاعبين نَسجت حولها العناكب. أسعار الوجبات السريعة، قوائم المشروبات وقد بدت متآكلة الطلاء بمختلف أنواعها المعلقة على واجهة الكافتيريا الداخلية مشيرة بخطوطها اليدوية البارعة إلى أزمنة ما قبل ظهور الحاسوب.
وثمة مقصورات عِلية القوم الخاصة وهي تلوّح أعلى المدرجات مهترئة بأثاثها المخمليّ الغارق معا في الصمت والنسيان، الحمامات الجافة، ذكرى مزاح عمال النظافة في تلك الأزمنة، غرف تغيير الملابس بدواليبها الخشبية المشرعة المتداعية، عربة تكسير الثلج على طرف الميدان المحاط بشبكة من القوائم الإعلانية القديمة الصدئة، مقاعد الجمهور القابلة للطي والمنغلقة على نفسها مثل قبور صغيرة متجاورة، وقد تراكمت عليها طبقات سميكة من الغبار، موقف عربة الإسعاف الداخلي، أبواب الطوارئ المتآكلة، نوافذ بيع التذاكر، صدى آلاف صيحات الإعجاب بحركة حاذقة من لاعب أو آخر، خطط أولئك المدربين.. لذّة الانتصار.. أوجاع الهزيمة... كل ذلك، وغيره، سيذهب بعد أيام قليلة، مرة واحدة، وإلى الأبد.
أخذت تمطر منذ ساعات بغزارة ومن دون توقف.
أحارني أنني لا أسمع صوت الرعد في الأثناء!!
فكرتُ:
«السماء تمطر في بلادي بغضب».
كنت لا أزال أتحرك وحدي، أتابع التجوال في مساحة تسع أكثر من خمسين ألف متفرج، متفقداً أرجاء الإستاد الداخلية، بتلك الخطى البطيئة الزاحفة المتثاقلة المتعبة لرجل يدرك جيداً أن العالم الذي غدا خفيفاً بمقدار ما فقد في سبيل تحوله بالكامل إلى القاع السحيق للأزمنة. ذلك صوت عربة السيد رايان وهو يتناهى لحظة توقف المطر مقترباً بكل تلك الجلبة.
| |
|
|
|
|
|
تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook
|
|