حكاية للنسيان

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 01:29 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2019م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-13-2019, 06:52 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حكاية للنسيان

    05:52 PM December, 13 2019

    سودانيز اون لاين
    عبد الحميد البرنس-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    في وقت متأخر جداً من صباح الثلثاء الموافق 24 يوليو من عام 1934، فُجِعَت وينبيك، عاصمة محافظة منيتوبا، بمصرع "سيرجنت" جون فيرن، أثناء مكافحة سطو مسلح، «هو الأول من نوعه في تاريخ المدينة». التاريخ نفسه الذي وُصِفَ حتى تلك اللحظة بالمسالم. قام بالسطو نزيلٌ سابق، في أحد السجون الأميركية، واستهدف صيدلية نوربيردج الكائنة في العقار رقم 11، في شارع ميري لوكاس. كان سيرجنت جون فيرن، وهو بالمناسبة «عملاق يحمل في صدره قلب طفل»، قد ذهب إلى موقع الحادث، مستجيباً لنداء الواجب، من دون تغطية من أحد، أو رفيق مُساند. بل لم يحمل معه حتى مسدسه. كان ثالث رجل يلقى مصرعه من قوات البوليس في المدينة ولما يتجاوز عمره آنذاك تسعة وثلاثين عاماً.

    قبل ذلك بساعات، أو في ساعة مبكرة جداً من ذلك الصباح، ولم يكن ثمة من أحد من أولادهما الصغار قد استيقظ من نومه بعد، رأته زوجته آيرس جيفرسون بهيئته الأليفة تلك، من خلال شرفة المطبخ الزجاجية العارية من ستارة، وهو يقوم بفتح باب السياج الخشبي القصير المحيط بالبيت، محدثاً صريراً مكتوماً لم يُغيّر شيئاً في حدة الصمت الماثل، ويمضي بهدوء إلى عمله. «يا أبانا، فقط، لو كنت أعلم أنني أراه لآخر مرة». هكذا، أخذت آيرس تخبر قسّاً في نحو الثمانين من كنيسة في الجوار تدعى «سان أندروز». وهو قسّ «رأى الكثير في هذه الحياة»؛ وفق رواية الصحف وقتها.

    كان القسّ الذي تقرَّر، من باب "العزاء"، أن يزور الأرملة خلال تلك الأيام «العصيبة»، يتابع النظر إليها بعينين ملتاعتين، وهو يعلل ما حدث كتدبير «محض رباني». وقد أزعجه تماماً أن يُوقع الشيطان الأرملة هكذا في حبائل الندم.

    تابع القسّ موضحا، «يا بُنيتي»، أن الحصَّة المقررة لكما للعيش معاً من قِبل الربّ، في "الأعالي"، قد نفدت. لا تقديم. لا تأخير. لا زيادة. لا نقصان هناك. كل شيء مقدَّر ومحسوب من قبل الربّ بدقة. لا حتى إيماءة فوق ما هو قد تقرر.

    "لقد حدد الربّ منذ الأزل قسمة الأفراح والأحزان المشتركة بينكما".

    وفي مثل تلك الأحوال، «يا بُنيتي»، لا يجوز للمسيحيّ الحقّ أن يتمادى في ضلال الحسرة قائلاً إن الأشياء كان من الممكن لها أن تسير في طريق غير تلك الطريق المكتوبة من قبل الربّ. فضلاً (يا بنيتي) عن أن البشر لا يحسنون تصريف الزمن الممنوح لهم «أثناء هذه الحياة الدنيا». عندها، عندها فقط، بدأتْ آيرس جيفرسون توماس تدرك حقيقة وضعها الجديد كأرملة. وقد شعرت على نحو غامض كما لو أن الوجود برمته ليس سوى رحلة محكومة بالوحدة. قالت للقسّ: أتدري، يا أبانا، «إنني» قد أنسى تفاصيل أول لقاء لي بجون المسكين، قد أنسى تفاصيل ليلة الزفاف المطهمة بمباركة الأقارب وضحك الأصدقاء، (غلبها قليلا البكاء)، لكنني لن أنسى ما حييت هواجس أول ليلة قضيتها في أعقاب وفاته.

    في ذلك الصباح، ظلّتْ آيرس تتابعه، وهو يمضي على غير المعتاد إلى عمله بمثل تلك الخطى البطيئة المثقلة، كما لو أنّه من دون وعي أو جدوى يقاوم قوى ما غير مرئية ما تنفك تدفع به نحو حتفه. خفق قلبها، وأحسّت فجأة بالرغبة في الصراخ لتذكيره، عندما لاحظت أنه لم يلتفت كعادته نحوها، ويرسل إليها إيماءة حبّ لم يسبق له أن تخلى عنها، طوال سنوات زواجهما العشر. قالت للقسّ في بداية ذلك الحوار وهي تحاول جاهدة منع نفسها من البكاء؛ «لعلي قد ناديته بالفعل، يا أبانا». كما لو أن «الصمم أصابه». في الواقع، لم يكن يا أبانا «يخرج من فمي لحظتها سوى الصمت»!

    وفق أرشيف بوليس مدينة وينبيك، يكشف تاريخ خدمة سيرجنت جون فيرن أنه التحق بقوى صغيرة- قوامها عشرة رجال- كان مجال عملها يتركز أساسا في ضاحية «سان بونفيس». كان ذلك في العشرين من أغسطس من عام 1920.

    بعد مرور نحو العامين، تقريباً، ترقى جون فيرن، إلى رتبة «سيرجنت». كان جون فيرن سعيداً، بتلك الترقية، وقد خالجه شعور أن الحظّ يبتسم له، «مقارنة بزملائه في أميركا»، ربما لألف سنة قادمة. كان العالم في كندا لا يزال كذلك «على قدرٍ عال من الطيبة». لكنّ أياً من تلك المصادر الصحافية لم يذكر شيئاً على وجه الدقة عن أعمار أولئك الأطفال الأربعة الذين خلَّفهم سيرجنت جون فيرن صباح ذلك اليوم وراءه. كل ما خرجت به الأرملة وقتذاك كان مرتب شهرين، أي حوالي 400 دولار كندي، ومبلغ 40 دولاراً أخرى تم تقديمها في قمة التعاطف العام من قبل مؤسسة تعويض العاملين التي خصَّصت كذلك مبلغاً ضئيلاً لكل طفل من أولاده الأربعة حتى بلوغ سنّ السادسة عشرة. لا جدال أنه ظلّ بحوزة الأرملة، بعد انصراف آخر المعزّين، الكثير من الذكريات لتُنفقها بسخاء على ليالي وحدتها القادمة، لو لا النسيان.

    مدينة وينبيك، التي روَّعها ما جرى، أطلقت اسم الراحل، على أحد شوارعها.

    ولم يغب عن المدينة في بادرة طيبة «ترتقي إلى مستوى الحدث» أن تتكفل بمصروفات الجنازة، التي كانت «حتى ساعات ذلك الصباح» زوجاً وأباً ومثالاً «يُحتذى في مدينة أبرز ما يميزها: سلامها الداخليّ»، وفق ما جاء في إحدى خطب التأبين الرسميّة. كان ذلك بالفعل حدثاً مؤثراً في الحياة الرتيبة لمدينة لفقرها توشك أن تتوكأ على غنى مدن كنديّة أخرى، إلى الدرجة التي تمّ معها تنكيس الأعلام أثناء سير الجنازة. ونظراً لذلك القدر من الاحترام الذي تكنه المدينة للراحل، أغلقتْ معظم المؤسسات والمحال أبوابها، وقد بدا نحو الثلاثين طفلاً من مختلف مدارس وينبيك وهم يمضون هكذا مطرقين حاملين الزهور خلف أبنائه الأربعة الصغار، ضمن تفاصيل أخرى داخل ذلك الموكب المكلل بالحزن أو الأسى.

    سيرجنت جون فيرن، حين تلقى في مكتبه بلاغاً بالحادث في حوالي الثامنة والربع صباحاً، وحتى وهو يخلِّف على مكتبه أحد رجال الإطفاء لنقصٍ وقتها في عدد القوى اللازمة من البوليس، لم يدر بذهنه أن الشارع الذي سيحمل اسمه بعد لقاء حتفه الوشيك سيتحول تدريجاً إلى ملتقى تعقد فيه بائعات الهوى تلك الصفقات على عجل. على أي حال، تلك لم تكن اللعبة الوحيدة من ألاعيب التاريخ التي لا تُحصى. ففي عصر السرعة هذا، نسيت الغالبية العظمى من الناس ذلك الاسم الكامل للشارع. وقد اكتفوا مع تقادم العهد بالدلالة عليه بتلك الرتبة، سيرجنت، والتي يمكن أن تحيل في نهاية المطاف لآلاف النظاميين في هذا العالم.








                  

12-13-2019, 09:18 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكاية للنسيان (Re: عبد الحميد البرنس)

    يشرع وردي في الغناء. ويشرع المكان في الحركة. شهدت ذلك بنفسي. ليلتها، كدت أهرب، بينما أرى الحيطان تقترب هكذا وتبتعد، ثم تضيق
    فتتسع!
                  

12-14-2019, 04:59 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكاية للنسيان (Re: عبد الحميد البرنس)

    وقد مضى وقتها نحو العامين على وجودي في كندا، خطرت لي فكرة هذا النص، بينما أستمع إلى وردي، خلال إحدى أمسيات "الوحشة"!
                  

12-14-2019, 06:56 AM

ابو جهينة
<aابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22489

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكاية للنسيان (Re: عبد الحميد البرنس)

    في ذلك الصباح، ظلّتْ آيرس تتابعه، وهو يمضي على غير المعتاد إلى عمله بمثل تلك الخطى البطيئة المثقلة، كما لو أنّه من دون وعي أو جدوى يقاوم قوى ما غير مرئية ما تنفك تدفع به نحو حتفه. خفق قلبها، وأحسّت فجأة بالرغبة في الصراخ لتذكيره، عندما لاحظت أنه لم يلتفت كعادته نحوها، ويرسل إليها إيماءة حبّ لم يسبق له أن تخلى عنها، طوال سنوات زواجهما العشر. قالت للقسّ في بداية ذلك الحوار وهي تحاول جاهدة منع نفسها من البكاء؛ «لعلي قد ناديته بالفعل، يا أبانا». كما لو أن «الصمم أصابه». في الواقع، لم يكن يا أبانا «يخرج من فمي لحظتها سوى الصمت»!

    ********


    نداء القدر ألجم لسانه وأغلق كل منافذ ما اعتاد عليه

    سلام البرنس
                  

12-14-2019, 11:20 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكاية للنسيان (Re: ابو جهينة)

    حياك الله أبا جهينة:
    أمبارح كنت أتجول مع "هكذا، تكلم زرادشت". يا له من وجود يستحسن أن يعيش الإنسان لا يضع موضع تساؤل!
                  

12-15-2019, 08:00 AM

najma

تاريخ التسجيل: 10-02-2002
مجموع المشاركات: 2062

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكاية للنسيان (Re: عبد الحميد البرنس)

    تسجيل حضور ومتابعة واصل يابرنس
                  

12-15-2019, 06:12 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكاية للنسيان (Re: najma)

    شكراً للأخت العزيزة نجمة..

    أتذكر من رواية السادة الرئيس القرد أن السادة الرئيس صانع البهجة واهب السعادة سأل والموت دان أحد مستشاريه قائلا: لماذا يموت الإنسان؟ وإذا كانت الحياة قصيرة إلى هذه الدرجة، كان أجدر أن ننفقها في توسيع الآفاق كما لو أن الإنسان يعيش ألف عام!
                  

12-15-2019, 06:50 PM

جلالدونا
<aجلالدونا
تاريخ التسجيل: 04-26-2014
مجموع المشاركات: 9387

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكاية للنسيان (Re: عبد الحميد البرنس)

    سلام البرنس و ضيوفه الكرام
    ___
    عندما تهب رياح الغرب
    تتراكم فى الشرق
    اوراق الشجر الساقطة
    ____
    متابع مساجلاتك و مجادعاتك مع استاذنا الخواض و استاذنا ابوجهينة و غيرهم من ادباء المنبر
    فى كتابه العبور الى الشاطئ الاخر كتب الاستاذ خوجلى ابوبكر ... والذى اقتبست منه القصيدة اعلاه ...
    عن شعر الهايكو اليابانى و فيه قال
    ليس المهم ان تكتب كثيرا
    انما المهم
    ان تكتب شيئا
    ذا قيمة
    و يمين الله ده حالكم و شغلكم و ابداعكم فى نقل فكرة شعر الهايكو الى كتاباتكم السردية او هكذا احس
    كتابة تحلم بالجمال
    كما فى شعر قصيدة الهايكو القصيرة
    فقط لو استطعنا
    اضافة مقبضا للقمر
    لاصبح مروحة رائعة
    التحية ليكم

    (عدل بواسطة جلالدونا on 12-15-2019, 06:59 PM)

                  

12-15-2019, 07:41 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20422

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكاية للنسيان (Re: جلالدونا)

    هل تستند الحكاية على وقائع حقيقية أم انها من صنع الخيال المبدع؟؟؟

    وأشكر جلالدونا على إشادته بالدور المبدع الذي يقوم به البرنس وماأضفاه من حيوية على هذا الفضاء الاسفيري..
                  

12-16-2019, 04:04 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكاية للنسيان (Re: جلالدونا)

    حياك الله اخي جلالدونا، ثم أشكرك لكرم لا أستحق، وإن كانا يستحقاه عن جدارة، المشاء وأبو جهينة، على أن ذلك المقطع الشعري يلامس بالفعل جوهر مشروعي السردي على تواضعه، وهو المقطع القائل:
    عندما تهب رياح الغرب
    تتراكم في الشرق
    أوراق الشجر الساقطة
    ذلك أنني كثيرا ما تساءلت عما يصيب أو يطرأ على إنسان ما قادم من بيئة بسيطة إلى بيئة أخرى تتسم بقدر ما من التعقيد من تحولات وتبدل!
    على أننا ثلاثتنا وآخرين على قدر عال من الجدية نحاول القيام بذلك ما وسع الجهد في ظل ظروف أكاد أقول إنها معاكسة تماماً.
                  

12-16-2019, 09:17 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكاية للنسيان (Re: عبد الحميد البرنس)

    أشكرك، عزيزي المشاء. نعم الحادثة التي تمثل خيط السرد الأساس هنا متمثلة في إغتيال سيرجنت جون فيرن واقعة تاريخية حدثت بالفعل ومثبتة في أرشيف بوليس مدينة وينبيك. لكن كما يقول ماركيز تعليقا على واقعية أحداث رائعته "سرد أحداث موت معلن" فقد تم إضافة الكثير من جنون الشعر وكيمياء الحنين!
                  

12-17-2019, 07:22 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكاية للنسيان (Re: عبد الحميد البرنس)

    تالياً، سرد عن شخصية كندية أخرى، شخصية لا يكاد يذكرها كذلك أحد، ربما حتى من بين أولئك المختصين. وأعني جاك أرميتاج، لاعب هوكي الجليد الحاذق، وكابتن وقائد فريق وينبيك فيكتورياس، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين:
                  

12-17-2019, 11:06 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكاية للنسيان (Re: عبد الحميد البرنس)

    قريبا من قاع الزمن

    تمنّى لي السيد رايان باركر وردية هادئة.

    أغلقت البوابة ذات القضبان الحديد وراءه. شممتُ رائحة الصدأ العالقة بيدي. استدرتُ نحو الداخل. بدأتُ في صعود تلك الدرجات الرخامية المتسخة الواسعة. عند الدرجة الثالثة تقريباً، عنَّ لي أن أتراجع، لأتأكد مرة أخرى أن السماء فوق الفُسحَة الخالية الممتدة أمام الإستاد ملبدة حقاً بغيم رمادي داكن. فجأة، لفت انتباهي الوجود الميّت للمدعو جاك أرميتِش.

    11 فبراير 1872- 7 أغسطس1943.

    كان اسمه محفوراً بشغل يدويّ على لوحة سوداء بأحرف مذهَّبة غارقة هكذا في الغبار عند أحد جوانب مدخل الإستاد المهجور.

    «مهاجم، لاعب ممتاز، وقائد عبقري».

    أرخي أذني أكثر، فأكثر. أرفع رأسي في المحيط المنعزل للإستاد الغارق في الإهمال والنسيان بحذر. أجيلُ بصري محاولا الفهم في السقف الغارق في شِباك العنكبوت. كحيوانٍ أستشعرَ شيئاً ما في الهواء الراكد للبرية. أتنفس الصعداء أخيراً.

    ثم غرق كل شيء مجددا في الصمت.

    كان ذلك صوت عربة رايان باركر «الفورد» القديمة ذات الدفع الرباعي وهي تبتعد منطلقة نحو موقع آخر من مواقع الشركة.

    «أهم ما قد يذكر به جاك أرميتِش أنه أول رجل قام بتنظيم رياضة هوكي الجليد في مدينة وينبيك».

    «كان ذلك في الثالث من شهر نوفمبر من عام 1890».

    «جاك أرميتِش كما بدا خلال العام 1900».

    تلك إذن صورته. ثمة حزن على ذهاب شيء نفيس وغالٍ يطل من عينيه. لا أدري لِمَ هو تحديداً نفيسٌ وغالٍ. أحياناً تخطر على ذهني أشياء غريبة. أما هذه الشوارب الكثّة الغزيرة المعتنى بها جيداً فكانت لا بدّ بمثابة موضة تلك الأيام الرائجة.

    «تقلد جاك أرميتِش شارة الكابتن إلى أن تقاعد بعد موسم 1897». «أعظم المواسم والمباريات التي خاضها المخضرم جاك أرميتِش كانت مباراة فريقه، وينبيك فيكتورياس، في الرابع عشر من شهر فبراير من عام 1896، ضمن منافسات كأس ستانلي، حيث أحرز أرميتِش هدفَي الفوز على فريق مونتريال، وهي المباراة نفسها التي وُصفت ساعتها بمباراة الموت».

    وأنا لا أزال أتسمّر في وقفتي، مأخوذاً بالقراءة والفرجة على صورة قديمة، خطر لي على غير توقع أن الدولة المهدية في السودان كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، بالتزامن مع صعود مجد أرميتِش الرياضي في كندا، دون حتى أن يتزعزع لحظة واحدة، حلمُ قائدها بالغزو والنوم على سرير الملكة فيكتوريا، في أقصى الشمال. العالم ينهار في مكان ويُشاد في آخر. وتلك تسع ساعات بالتمام، هي عمر أول وردية لي كحارس. تسع ساعات عايشت خلالها أطلال ذلك الوجود الآفل، لحظة بلحظة، أسى بأسى، ولوعة بلوعة. منذ البداية قلت للسيد رايان باركر الذي أوصلني بعربة الشركة إلى الموقع:

    «هذا مكان ميت».

    أومأ السيد رايان باركر برأسه المغطاة بالشعر الأشقر اللامع موافقاً. قدَّرتُ خطفا أنّ رايان باركر ربما يكون في منتصف العقد الرابع من عمره. قال بجدية بدت لحظتها عسيرة تماماً على الهضم: «كيف لا يكون مكاناً ميتاً، وقد مضت عقود على آخر مرة شُوهد فيها الشيطان هنا». فكرتُ: «له طريقة مختلفة في تسمية الأشياء». أخذنا نتابع السير معا، متوغلين داخل العتمة المطبقة، وقد أحاط بنا ذلك الحضور الأكثر ميتة للأشياء. «مراقبة الموقع، هذا كل ما عليك فعله»، أخيراً أوضح لي السيد رايان كمشرف متجول بين المواقع بالعربة مهماتي، وانصرف مغادراً، بتلك الكياسة المهنية العالية.

    لم يتضح لي، مع ذلك، وحتى نهاية زمن الوردية، أي مغزى قائم هناك وراء حراسة إستاد خال، "لم يضحك الشيطان بين حيطانه كما قيل منذ سنوات عديدة"، مثل استاد هوكي الجليد العتيق هذا، خصوصاً أنّه لم يتبقّ على هدمه سوى أيام. لقد كانوا (كذلك أخبرني السيد رايان باركر) على وشك إزالة عصر كامل من حياة لُعبة. وهذا (على الأرجح) ما يُحزن.

    النُصب التذكارية لكبار اللاعبين نَسجت حولها العناكب. أسعار الوجبات السريعة، قوائم المشروبات وقد بدت متآكلة الطلاء بمختلف أنواعها المعلقة على واجهة الكافتيريا الداخلية مشيرة بخطوطها اليدوية البارعة إلى أزمنة ما قبل ظهور الحاسوب.

    وثمة مقصورات عِلية القوم الخاصة وهي تلوّح أعلى المدرجات مهترئة بأثاثها المخمليّ الغارق معا في الصمت والنسيان، الحمامات الجافة، ذكرى مزاح عمال النظافة في تلك الأزمنة، غرف تغيير الملابس بدواليبها الخشبية المشرعة المتداعية، عربة تكسير الثلج على طرف الميدان المحاط بشبكة من القوائم الإعلانية القديمة الصدئة، مقاعد الجمهور القابلة للطي والمنغلقة على نفسها مثل قبور صغيرة متجاورة، وقد تراكمت عليها طبقات سميكة من الغبار، موقف عربة الإسعاف الداخلي، أبواب الطوارئ المتآكلة، نوافذ بيع التذاكر، صدى آلاف صيحات الإعجاب بحركة حاذقة من لاعب أو آخر، خطط أولئك المدربين.. لذّة الانتصار.. أوجاع الهزيمة... كل ذلك، وغيره، سيذهب بعد أيام قليلة، مرة واحدة، وإلى الأبد.

    أخذت تمطر منذ ساعات بغزارة ومن دون توقف.

    أحارني أنني لا أسمع صوت الرعد في الأثناء!!

    فكرتُ:

    «السماء تمطر في بلادي بغضب».

    كنت لا أزال أتحرك وحدي، أتابع التجوال في مساحة تسع أكثر من خمسين ألف متفرج، متفقداً أرجاء الإستاد الداخلية، بتلك الخطى البطيئة الزاحفة المتثاقلة المتعبة لرجل يدرك جيداً أن العالم الذي غدا خفيفاً بمقدار ما فقد في سبيل تحوله بالكامل إلى القاع السحيق للأزمنة. ذلك صوت عربة السيد رايان وهو يتناهى لحظة توقف المطر مقترباً بكل تلك الجلبة.
                  

12-22-2019, 02:34 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكاية للنسيان (Re: عبد الحميد البرنس)

    قل نشاطي في المنبر أخيراً للزحام الشغل غير المعتاد في هذه الأيام التي تسبق لدينا احتفالات عيد الميلاد المجيد.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de