|
|
ماذا تبقى للإنقاذ وأهل الإنقاذ؟
|
رسائل من امريكا
د. عبدالله جلاّب جامعةولاية اريزونا:تمبي [email protected]
اذا عطس الترابي أصاب الزكام والرشح النظام وتداعى له بالسهر والحمى سائر أهل النظام. وما دام تلاميذ الأمس يحاولون بكل السبل إقصاء شيخهم فإن الشيخ سيظل يعطس حتى يقضي الله أمراٌ كان مقضياٌ. والحال كذلك فنحن أمام حالة وجودية لا إنفكاك لها على الأقل في المستقبل القريب. أو أن يقضي أحد الطرفين على اللأخر بالضربة القاضية. ولكل من الفريقين تاريخه الذي لا يبارى في هذا المجال. وإن خرج سيلفا كير عن صمته الدائم إرتعدت فرائص جهاز الحكم . ومادام كير يشعر بأن شريك اليوم قد سدد ضربة موجعة لزعامتة منذ اليوم الأول بشان وزارة الطاقة فسيظل النائب الأول يواصل هباتّه تلك مادام هناك من يهمز قناته من بني حزبه مذكراً له بجرحه الأليم ذلك. إذاً فنحن هنا أمام حالة سياسية غاية في الخطر يتصاعد غبارها طالما كان هنالك طامح أو منافس. وان غابت صور واخبار علي عثمان عن الصفحات الأولى للصحف طفحت الأقاويل عن من سيدحرج رأس من في الأيام القادمة. وقبل أن تنتقل الصحف والمجالس إلى موضوع جديد يطل أحد أعمدة النظام وبعد شجب وشتم للمرجفين وغيرهم ليؤكد بأن كل ما هنالك هو مجرد تباين في وجهات النظر وأن الأمر سوف يحسم قريباً. بالطبع لا أحد يدري والليالي حبالى كيف ومتى سيحسم الأمر. غير أن الذي يهم أكثر هو أنه مادامت مدرسة الحكم لاتزال هي تلك المدرسة وأساليب إدارة الصراع هي تلك التي ظلت تمارسهما الإنقاذ بمللها ونحلها منذ يومها الأول فستظل المؤامرات تتناسل وتفرخ في أقبية الحكم المعتمة. وتظل الصحف ترصد والمجالس "تلوك ذلك العنكوليب" كما يقول عبدالله علي إبراهيم. ولا يفيد هنا الشجب و الشتم ولا القبض والبسط. إذ كل ذلك يمكن أن يندرج تحت قائمة أمراض النظام المستوطنة والمودية بأهلها إلى الهلاك.
وعلى صعيد اخر وقبل ان يودع اخر الزوار الأفارقة مطار الخرطوم تحول ما كان أعد له ليكون حفل عرس خرطوم الإنقاذ بدورة الاتحاد الافريقي الى مأتم يذرف فيه الدمع السخين على اللبن المسكوب والحسرة على عالم لم يعد يقدر أبسط أعراف الضيافة. فقد أفسد اليخت الرئاسي وعدم كرم العالم الخارجي ممثلاًَ في ضيوف المؤتمر على القوم بهجة يومهم. غير أن حقيقة ذلك البكاء ليس على ماض ولى وإنما على مستقبل لا مجال فيه للرهان على أبسط ما يمكن أن يقوله نظام لتابعيه: أنظروا هكذا يقدرني الأصدقاء والجيران, إذن أنا موجود. والحال كذلك فإن كان البكاء واجباً فالخوف أوجب. إذ يتم لأول مرة إقصاء السودان وبقسوة من عالمه الأفريقي وفي عقر داره.
ويأتي مؤتمر القمة العربي ليضع فصلأ جديدأ من فصول الإنسحاب العربي من الشان السوداني. مرة أخرى يعد المسرح لينسحب المدعوون إنسحاباً "تكتيكياً" قبل يوم الختام. ولم يبق لاهل الحكم شيئاً يخفف من مثل تلك الوحشة غيرشيئن أثنين أولهما التسامر والتآسي بفصاحة لام أكول وزير الخارجية الذي أثبت للإخوة العرب أن هناك من هو من شعوب السودان الأخرى ويمكن أن "يحكي عربي" بلسان مبين. وثانيهما كرم ولياقة الرئيس اللبناني أميل لحود الذي فضّل "شوب" الخرطوم على جو بيروت السياسي القاسي. ماذا بقي للنظام اذاً غير حشاشة من خوف لا تسمن ولا تغني من جوع. بل هي اشبه ما تكون بثوب الرياء الذي يشف عما تحته. فقد استنفذ النظام حتى رصيده من الخوف الذاتي والكوابيس تلك التي ظلت تقض مضاجعه منذ يومه الأول إذ أن ذاكرته الجمعية لم تنفك تذكّر أهل الحكم بأن هنالك أكتوبر وأبريل لا تتمنى لهما تكراراً. وحتى يحول النظام دون ذلك ظل يترجم ذلك الخوف سيلاٌ جارفاٌ من صنوف البطش والعسف وبيوت الأشباح. وإن كنا في أبريل الآن وسوف يأتي أكتوبر فإن إختلاف النهار والليل قد لا يُنْسي. فهما أي أكتوبر وأبريل والحال كذلك جزء أساسي من مكوّنات الخيال السياسي والعقل الجمعي للأمة. ولعل أحد الجمل المفيدة في كتابات الاسبوع الماضي ما زيّن بها أحدهم مقال الدكتور حيدر إبراهيم حول الأحزاب والديمقراطية والذى إستنكر فيه "الطريقة الجلفة والتحقيرية" التي خاطب بها الدكتور نافع علي نافع الأحزاب التي يجري معها حزب المؤتمر حواراً هذه الأيام. زين ذلك الشخص ذلك المقال عندما أعاد نشره في واحدة من صفحات الإنترنيت بالآتي: "أسلوب نافع ما نافع". ولعل لحظة تأمل في تلك العبارة الموجزة يمكن أن تقول الكثير. فنافع هو بلا شك بيريا الإنقاذ. وللذين لا يعرفون بيريا فهو لافرينتي بيريا رئيس جهاز أمن ستالين. وقد تم على يده بالنسبة للشعوب السوفيتية من بطش مثل ما تم على يد النافع بالنسبة للشعوب السودانية. وكما ترجم بيريا هلع ووسواس ستالين الخنّاس من التآمر عليه إلي بطش متصل, فقد ترجم النافع خوف الإنقاذ من أن يطردها الشعب السوداني كما طرد سابقاتها: نُظُمُ نوفمبر ومايو, الى بطش وتنكيل وتعذيب لكل من يشك في أنه يمكن أن سيكون مشروع شخص معاد للنظام. غير أن النظام قد إستنفذ كل ما يملك من خوف ليجد نفسه أسوأ حالاًمن يومه الأول. فحاله الآن أشبه بحال عصا سليمان التي نخرها السوس ولم يبق إلا أن تنكسر العصا المتآكلة ليدرك القوم من الإنس والجن أن صاحبها قد قضى فتنفك عقدة الخوف فينفك أسرهم.
هذا هو الحال بالنسبة للإنقاذ. فلم يعد هنالك نظام. وإنما جسم نخره السوس. لقد نقضت الإنقاذ غزلها أنكاثأ. فأهل الإنقاذ الآن جماعات متناحرة. والذين هم في داخل النظام ليسو بأحسن حالاً من الذين هم في الخارج. كل متربص بصاحبه بأسهم بينهم لشديد. فهناك من يحمل السلاح ضد الإنقاذ مثل خليل إبراهيم الذي كان من وزراء النظام ذات يوم. وهناك من لن يستريح له بال حتى يهد المعبد على من فيه وما فيه مثل حسن الترابي. وتظل المجالس تتحدث والصحف تهمس عن من الذي يسعى لتدبير وإخراج ما هو أشبه بإنقلاب رمضان. والأمر كذلك فقد إرتدّ عنف النظام إليه عنفاً متعدد الأشكال متنوع الأساليب. وتحولت اصرة الرسالة الجامعة إلى عنصرية القبيلة المانعة. وإرتفعت أصوات بعض عنصريِّ الشمال من أهل الإنقاذ تنفث سمومها ولا ندري بإسم من يتحدثون. ولكل ذلك فقد تحول إتفاق السلام الثنائي إلي شكوك بعضها معلن والبعض اللآخر مسكوت عنه حول نوايا ومقاصد الطرف الآخر. ويظل الذين يفاوضون ثنائياً في أبوجا يماطلون وهم يرون هوان النظام ماثلاً أمام أعينهم. ويظل الشعب السوداني أكثر يقيناً بأن لا بديل للديمقراطية. إذن ماذا تبقى للإنقاذ؟
هناك من ينادي بأن تخرج الإنقاذ البلاد والعباد من ما أدخلتهما فيه. ولكن هل تستطيع الإنقاذ ذلك؟ فالإنقاذ وهي شفا حفرة من النار لم تتعلم شيئاً. إذ لا تزال عقليتها الشمولية القائمة على إقصاء وعدم إحترام الآخر كما هي لم تتغيّر ولم تتبدّل. ولعل الدليل على ذلك ما عبّر عنه النافع. لذلك فإن "أسلوب نافع ما نافع". وذلك لأن أسلوب نافع هو أسلوب الإنقاذ الذي لم تعرف له ولم ولن تجد له تبديلأ. حتى الشيخ وهو في حاله ذلك والذى لا يحسد عليه لم يجد في نفسه ولا كلمة إعتذار واحدة للشعب السوداني الذي ذاق الأمرّين على يديه قرابة عقد من الزمان. ولعله قد إستكبر, وهو الذي يتهم الآخرين بالإستكبار, حين قال بأن الإعتذار لله وحده. إن إعتذاره لله هو أمر بينه وبين ربه. ولكن إعتذاره للشعب السوداني هو أمر بينه وبين السودانيين الأحياء منهم والأموات. وسيظل معلقاً بين السماء والأرض طالما ظلت أبواب السماء مفتوحة لدعوة مظلوم وإلى أن يقول الشعب كلمته. بالطبع هناك من الإسلاميين من سجّل موقفاً واضحاً من الإنقلاب منذ اليوم الأول وهناك من راجع موقفه أو تراجع وهو يرى المشروع الحضاري في تحولاته الكبرى من البطش إلى النهب ومن العنجهية والإستكبار والعتو إلي الذلة والمهانة. و من التمكين العام إلى التمكين الخاص. وهناك منهم من يرى أن ينفك الصالح من الإسلاميين من الطالح إنفكاكاً نهائياً وبناء الحركة الإسلامية من جديد. ولكن هل يستطيع هؤلاء؟ هنا قد يقول قائل هذا شأن الإسلاميين في المقام الأول. وقد يقول آخر قولاً مخالفاً. إذاً والكل شهود: إنه من المشكوك فيه وإن كان من الممكن أن يكون ذلك أمراً خاصاً بهم وحدهم. إذ لكل وجهة يتجهون حظها من الثواب أوالعقاب في ما تقدم وما تأخرفي كتابهم. (كلا إن كتاب الفجار لفى سجين.... كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين... وهو كتاب مرقوم). ذلك هو الأصح في الدين والدنيا والسياسة وصدق الله العظيم في المبتدا والمنتهى.
نشر بجريدة الخرطوم الصادرة يوم الثلاثاء 18 أبريل 2006 http://www.khartoumnewspaper.com/2006/4/18/page5.pdf
|
|

|
|
|
|