|
|
 لا.. ليست "حرية تعبير"
|
الأزمة المثارة حاليا بين غالبية المسلمين من جهة، والدنمارك من جهة ثانية بشكل رئيس، ويشاطر الطرف الأول كما هو شأن الثاني، الرأي، آخرون، بعد أن تتجاوز ردات الأفعال والاحتجاج، لابد أن تخضع لحوار معمق يشمل الجوانب الثقافية والقانونية والاجتماعية للمسألة برمتها.
ولا شك أن الرسوم الكاريكاتورية التي أعادت نشرها صحف أوربية، عوضا عن الصحيفة الدنماركية أساس المشكلة، هي مسيئة بالفعل لديانة يعتنقها مليار انسان حول العالم، وبطبيعة الحال، فإن الاساءة والسخرية الموجهة لديانة يعتنقها شخص واحد في العالم كفيلة بنقاش مستفيض حول "الحق" في اهانة معتقدات الآخرين.
المسلمون محقون في غضبتهم جراء تلك الرسوم، أحاطوا بالبنى الثقافية لها، أو لم يحيطوا. والواجب، الاشارة هنا إلى أن الرسوم، ليست مجرد "موقف من العالم، والتقاط أبرز مفارقاته هجاء لنقيضه" كما يتم تعريف "السخرية" بواسطة بعض.
فالرسوم تكرس في غالبها لرؤية قاتمة جدا تجاه "المصادر الأولى" للإسلام، وتعتبر في ثنايا وتضاعيف خطوطها الساعية للسخرية، أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، مسؤولا عن الارهاب، كما هو مسؤول عن اضطهاد المرأة !!
ولا أكتفي بالاشارة إلى أن الرسوم، ممعنة في الاهانة والزراية بنبي الإسلام، والصاق صفات بعينها به، وإنما - وهو الأخطر - تنم عن جهل فاضح، ما كان لرسامين ينتمون لـ"عالم متحضر" أن يقعوا فيه جراء خلط رهيب. ولو جاز لأي باحث أو ناقد، أو فنان أن ينجز عملا في سياق ثقافي، حتى لو كان كاريكاتيرا، فإنه لا يجوز، حتى بدعوى حرية التعبير، أن يقفز على بدهيات تاريخية واجب الاحاطة بها.
وتحضرني هنا الضجة التي أثيرت حول فيلم "الإسكندر الأكبر" لكون مخرج الفيلم تناول الشخصية في اطار أعتبره بعض، غير تاريخي، أو على الأقل لم تتوضح صحته المطلقة، وهو المتعلق بمثليته الجنسية. وكان واجبا على الرسامين، طالما هم بصدد تناول شخصية تاريخية، ناهيك عن قداستها لدى مجاميع كبيرة حول العالم، أن يعمدوا إلى قراءة معمقة حولها ليتسنى لهم الإلمام ولو بقدر يسير من المعرفة حولها.
كان بوسعهم مثلا أن يقرأوا عن سيرته، من خلال كتاب "العظماء" للفيلسوف توماس كارلايل، الذي وضعه على رأس قائمة عظماء البشرية طوال تاريخها. هم لم يقوموا بذلك، بل لجأوا لطريقة سهلة، هي السباحة مع تيار مقدر، يرى الإسلام - كدين - ومحمدا - كنبي - مسؤولين بشكل كامل عن الإرهاب واضطهاد المرأة. وهذه أيضا محاكمة ثقافية وفكرية، حتى لو كانت في شكل رسوم كاريكاتورية، لا تسلم من مغالطة معرفية، وادانة سابقة تصدر غالبا عن تحيز "حضاري" وثقافي واضح.
السياق الثقافي الذي سمح بهذه الرسوم، هو سياق، خصوصا بعد 11 أيلول/سبتمبر، ينظر للإسلام - غالبا - كدين يحث اتباعه على الوحشية ورفض الآخر. ملكة الدنمارك، مارجريت الثانية، كانت اشارت في كتابها الموسوم "مارجريت" الذي صدر منتصف العام الماضي إلى أنه من الضروري أخذ ما أسمته التحدي الذي يشكله الإسلام على محمل الجد، على الصعيد المحلي والعالمي.
وقالت في الكتاب الذي كتبته الصحافية أنيليس بيستروب: "نحن مرغمون على أخذ التحدي على محمل الجد, لقد تركنا هذه المسألة قائمة لفترة طويلة جدا لأننا متسامحون ويسيطر علينا الخمول". أليس هذا بحد ذاته، مناخا معاديا للإسلام إلى حد ما، ويحض على النظر إلى هذا الدين بعين الاعتبار كـ"دين يشكل خطرا".
الملكة ذاتها، هي الوحيدة ربما بين نظيراتها ونظرائها ملوك ورؤساء أوروبا التي تحظى بوضع كان يشاركها فيه ملك إسبانيا قبل اعلان الجمهورية، وهو أنها غير خاضعة للقانون بحجة انها مصدر السلطات العليا في الدولة، وأنها مصدر القانون فلا تخضع له. ولا أعلم إن كان الدستور الدنماركي قد تم تعديله، ليطالها القانون، أم بقت على حالها ملكة مطلقة على القانون ؟ وهذه نقطة قانونية يجب أن تثار، فإذا كان الدستور يمنح الملكة حصانة، فلماذا لا تتم حماية الأنبياء ومقدسات الآخرين، ليس من النقد، وإنما من الاستهزاء والسخرية ؟
الكاريكاتير، فن خطير جدا، لأنه يشيع صورة ذهنية سالبة عن شخص أو حادثة أو أمر ما. وهويركز بالأساس على ابراز النقاط السلبية. وقد ينطبق هذا على سياسيين أو مثقفين ينظر إليهم بهذا الشكل، لكن المسألة حين تطال رسلا وأنبياء، تغدو مدعاة لتوتر حضاري كبير، ودال إلى بعد الشقة بين الحضارات المختلفة. وواضح، أن الرسامين الدنماركيين، نظروا لشخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، بشكل سلبي منقطع النظير. ببساطة، فإن هذه الرسوم، تعبر عن رؤية هؤلاء الرسامين وموقفهم من الإسلام ونبيه الكريم، وهو ليس موقفا معرفيا عميقا، بقدر ما هو ينزع لادانة صارمة.
وواضح أيضا أن رؤية هؤلاء الرسامين حيال الإسلام هشة، وأفلحت فيما يبدو أحداث 11 أيلول/سبتمبر في رسم صورة قاتمة عن الإسلام، وزاد من كارثية الصورة الذهنية، سلوك بعض المسلمين، ودعواتهم العنفية، والإقصائية. لكن، فليكن الحوار أعمق من ذلك، فالمجتمعات الغربية مسؤولة أكثر في نظري عن تفعيل وتعميق الحوار الحضاري، للامكانات والأدوات المعرفية المتوفرة لديها.
حرية التعبير في نظري، مع اقراري بدعمي اللامحدود لها، هي حرية "مسؤولة"، ينبغي أن تنبني على معرفة. وأعني بالمعرفة هنا، المعرفة في سياقاتها الحديثة، المستندة إلى بحث ومقاربة ومقارنة ونقد وتفكير و"أدوات". صحيح أن "العبثية" قد تهدم كل هذه المحاجة، وتنسفها من الأساس، وتعد هي الأخرى حرية تعبير، لكن الأمر أبعد غورا، و أثرا حين يتعلق الأمر بمقدسات ما، أيا كانت.
التناقضات بين الحضارات امر مفروغ منه، لكن المصير المشترك للانسانية علي سطح الارض يستدعي نوعا من "التفاهم الحضاري" علي الحد الادني من استيعاب "الآخر" بدلا من تدجينه، ومحاورته بدلا من تحقيره، وملاقحته بدلا من مساومته، والذي يجري الآن لا يخرج عن نطاق النقاط السابقة، ولا يعني هذا ان حضارة بعينها هي المقصودة بالامر، متي يعترف "الآخرون" بأنهم مهووسون تماما بفكرة افضلية الحضارة و"أخلاقيتها" ارتهانا للماضي؟، ان الحضارات في غالبها لا تحمل قدرا من التواضع بحيث يسهل "التواصل الحضاري" ومعظمها يتقوقع علي الذات في انكار كامل للمنجز البشري خارجه.
لابد أن ينظر مجددا في دساتير البلدان، بل وحتى في "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" بحيث يكفل حق مناقشة بل ونقد الأديان، ويكفل حق الكفر بها، لأن هذه مسؤولية الانسان، على أن يتخذ إجراء ما لمكافحة "إهانة" الأديان حتى غير السماوية، والسخرية منها. وذلك ينطبق أيضا على المسلمين أنفسهم، وما يبدر من بعضهم أحيانا في الحط من شأن أديان الآخرين ومعتقداتهم.
|
|
 
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: لا.. ليست "حرية تعبير" (Re: عبد الله عقيد)
|
عزيزي وزميلي عبدالله
اطلعت - بحكم عملي، ومتابعتنا للقضية - على الرسوم كلها بدون استثناء. وشعرت كما هو شأن معظم المسلمين بالإهانة والتحقير اللذين تنطوي عليهما الكاريكاتيرات، وكنت حريصا على الكتابة بشكل إيجابي لأحاول مناقشة المسألة ومناقشة الرسوم ذاتها، و(حرية التعبير) بدون انفعال.
وأرى أنه يتوجب الحوار وبشكل معمق بين حرية التعبير المطلقة (التي أؤيدها) في مضمار نقد الأديان، ومقاربتها ومقارنتها، وذلك ما يجري فعلا في جامعات كثيرة في سياق (دراسات الأديان المغايرة) وغيرها، من جانب، و(السخرية) والإهانة من جانب آخر. المسألة الأولى مقبولة تماما، وبالمقدور المحاجة فيها من الأطراف كلها، لكن السخرية تبقى أمرا مرفوضا بأي حال حين تتعلق بالرسل والأنبياء أجمعين عليهم السلام.
| |
|
|
|
|
|
|
| |
عبد الله عقيد
محمد محي الدين
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست