فقاعات زمن التصحر - رواية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 09:32 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-15-2006, 08:58 AM

أمير بابكر

تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
فقاعات زمن التصحر - رواية

    هذه أول رواية تنشر لي في العام 2001 ، وكانت قد نشرت في موقع مدارات الذي يديره الصديق عادل عبدالعاطي، ونزلها للبورد الأستاذ أسامة الخواض في وقت سابق. وها أنا أفعلها مرة أخرى تحية لأعضاء وقراء البورد فربما تجدون فيها ما يفيد.
    تقديري
    أمير بابكر عبدالله

    فقاعات زمن التصحر
    رواية

    في البدء كنت ملامحي؛ لغتي
    القادمون تربعوا في سحنتي
    نمت البثور؛ وحمحمت خيل الاجانب
    واستشاط النيل والأعراب تستسقى
    وتقذف وجهه الفضي باللغة الثمالة
    هل يسمي النيل غزو عيونه فتحاً!!
    ويضحك – ساخراً - من نازليه!
    وهل يزوج أمه لغزاته
    ويموت بالنصل / الخراج!!

    فتحي عامر

    الفصل الأول

    المساءات وقتها فرحة نديّة وممكنة التعاطي … حتى العواصف في تلك المساءات تصير إلى التفاعل مع ذاك التعاطي، وتنتهك حرمة السكينة والارتخاء دون أن تخلّف وراءها ضغينة أو حقداً من نوع ما. بل وفي غمرة انفعالها تدفع إلى الالتقاء والتقارب.

    أول مرة يلتقيها خارج الأسوار في مساء من هذا النوع … لم يكن اللقاء الصدفة فهو قارئ جيد يستفزه الغموض والسحر وهي … بلون البّن دون احتراق وتفوح منها رائحة الاستواء، أو هكذا أضفت عليها انكسارات أشعة الغروب الباهتة المتساقطة من عمق الأفق البعيد والمنعكسة على صفحات مياه النهر.

    صافية في غموض … خجلة في سحر وهي تداعب بقدميها الصغيرتين تيار الماء المندفع على الشاطئ الشرقي. كل هذا وهو يحدق فيها … " ليتني واجد بين مدِّ الموج وجذره سانحة أنفذ منها إليها". وبين جدلية الشواطئ والنهر واندفاع الماء قال لها:-
    - إن الزبد سيدمي قدميك.
    وفي نبرة محايدة بعد انعقاد الحاجبين وانهزام ثواني التردد قالت:-
    - لكن دائماً ما يذهب الزبد جفاء.
    صفعة قوية ما توقعها جعلت صدره يتراجع حتى شارف السقوط على ظهره. لكنه استقام بذهن متفائل:-
    - حقاً سيذهب الزبد جفاء … لكن دعينا نجعله رمزاً استثنائياً.

    أثناء ذلك حلّق طائر قادم من عمق الأفق الضائع في جوف اللانهاية الممتدة طوال سواحل الأزل. ومع اندفاع الماء المتزايد طفرت موجة متمردة على سجن الشواطئ فاستحال السكون موجاً وتناثرت رزازات ماء على صدرها وعلى صدره.

    ودون سابق إنذار وإطارهما بعد تحفه عوالم الدهشة والتردد قالت له بجفاف :
    - تطمح في استعبادي كما فعل أجدادك بأهلي وتتركني عند أول منعطف … لكن هيهات!

    احتشدت دفاتر الدهشة داخل صدره. وهو مشغول بتقليب صفحاتها انسلت ايفا تجري … لا ليس جرياً بل هي الهرولة ، لا تسبق الريح … لا الريح تسبقها. ونسمة حملها تيار النهر تحاول اللحاق بها … اكتفت برفع تنورتها إلى اعلى الركبة قليلاً ليظهر بعض من فخذيها وخطوط أكثر وضوحاً عند المفصل.
    - ايفا … ايفا !!!

    صيحة احتبست داخل صدره وهو ينظر حوله، ثم في عمق النهر وإلى أعلى. تساقطت بضع وريقات ليرتفع عدد الأوراق الصفراء دون إضافة واضحة… أزلية الموت والحياة - لا مناص - كما هي طلائع الخريف. غمرته حالة دفء عندما وقع بصره على سهم كيوبيد وإسمها محفور داخل إسمه في عمق جزع الشجرة.

    " عليك اللعنة يا عاهرتي … حتما ستعودين فأنا قدرك ". طغت حالته المركبة على محاولات إتخاذ قرار اللحاق بها ليجلس كما كان، متابعاً أثرها وروحه تقفز مع جسده كلما تعثرت قدماها ببعض الأعشاب المعترضة طريقها، لكنها وحشة برّية تجيد تجاوز الحواجز.

    أطلق زفرةً عميقة وهو يراها تذوب ما بين ثنايا الحشائش المتطاولة وكثافة الأشجار الممتدة على طول امتداد الشاطئ. زفرة خرجت معها كل الفقاعات، ليبقى الصدر مثقلاً رغم النسمة التي حملها تيار النهر ولا تزال أطرافها تداعب صدره المملوء إحساسا ضجراً الشيء الذي جعله يلعن كل شيء والتاريخ والطبوغرافيا والجيوبوليتيكا.

    هاهو يضبط نفسه مرّة أخرى لاعنة كل شيء والتاريخ والطبوغرافيا والجيوبوليتيكا. لم تكن ايفا هاربةً هذه المرّة ولكنها تكثفت لتبدو تلك اللحظة الأزلية جوار النهر وفي ذاك اليوم. امتدت يداه بلا معنىً ودون إرادة منه ليزيحها محاولاً اجتياز المدخل الضيّق إلى حيث يحشرون …

    ابتسم مكابراً. المدخل ضيّق جداً لا يتسع لأكثر من شخص وهم يتزاحمون هرباً إليه من خطوة مؤجلة تلوح ملامحها في الأفق.

    إنه الخريف … اكتشف هذه الحقيقة عندما أعلنها البرق الخاطف الذي فضح الوجوه الشاحبة وهي تتدافع إلى داخل المبنى. إنه المبنى الوحيد الذي استخدمت فيه ألواح الزنك مما جعله مميزاً بين تلك المباني التي أعلنت انتماءها للأرض والسماء. ارتجت أرجاء السقف بفعل هزيم الرعد وارتجت معها دواخل البعض. تمييز الرجفة التي تملكتهم ليس صعباً وسط هذا الحشو من البشر … حتى الخوف له رائحة … رائحة لا يخطئها قلب . سبعة وعشرون أسيرا حشروا في هذه الزاوية الضيّقة .

    " تباً … "

    للمساء الآن مظهر كريه … ولكنها فرصة للإستلقاء بعد يوم شاق قطعوه مشياً على الأقدام ولانتظار الغد إذا لم يفعلوها ليلاً. لكنه لا يزال يفرك عينيه علّه يستيقظ من هذا الكابوس وهو يتقلب على الأرض محاولاً إيجاد وضع أكثر راحة دون جدوى. التصق جسده من كل الإتجاهات بمن حوله، تماماً كما كانوا قبل ساعات في خندقهم عندما إشتد عليهم القصف. الأشياء متشابهة بما يكفي لسيطرة الرعب، وما يغطي على الأنفاس المضطربة في هذه اللحظات صوت إنهمار المطر بغزارة. هو أصلاً لا يعشق المطر … يصيبه بالإكتئاب. وذكرى ايفا تكثفت مرة أخرى رغم العتمة ولكن ما طردها هو صباح الغد. ما الذي سيحدث ؟ سرعان ما سينقضي الليل. لم يتحدثوا إليهم حتى الآن … لا بل لم يستجوبونهم. " ربما ليس لديهم وقت للإستجواب " فكرة تحولت إلى قشعريرة اهتز لها جسده المنهك. عشرة ساعات وأكثر ظلوا يسيرون إلى أن بلغوا هذا الموقع مع مغيب الشمس … ولم يكن التعب والإجهاد قد فارقاه قبلها.

    - عليك تولي قيادة هذه المأمورية .
    نظر إليه قائد المنطقة العسكرية بعد أن ألقى بجملته تلك في برود ثم تابع:
    - أنت تعلم يا مجذوب أن هيئة الأركان ستزور المنطقة خلال أيام فلا بد من إكمال التحضيرات اللازمة ودعم الموقع بقوة إضافية بعد نشاط التمرد الأخير.

    لا جدوى من الإعتذار فهو قائد ثان المنطقة وعليه القيام بما تقتضيه المسئولية، إنها العسكرية التي اختارها. ثم إنها ليست المأمورية الأولى التي يقودها في هذا الاتجاه، فقط الوضع مختلف وتفصله سنوات منذ أن زار ذلك الموقع آخر مرّة، بل عمل ضمن طاقم قيادته. نظر في عينيّ قائده المحاطتين بهالة سوداء جعلتهما اكثر غوراً مما هما عليه في الحقيقة. "لماذا الآن؟" هز رأسه موافقاً وابتسامة أخفت مشاعر الضيق التي تملكته.

    ومع تباشير الفجر انطلقت ثلاث ناقلات جنود وفي مقدمتها عربة مدرعة تقل المقدم مجذوب وقائد القوة. مشاعر الضيق لم تبارحه، وزاد من حدتها تلك الرطوبة العالقة في الجو منذ البارحة… لزوجتها تكاد تثير الغثيان. الصمت في هذه اللحظات مقرف … يزيد من لزوجة الموقف لكنه منطق غريب ذلك الذي يحكم الآن مما جعله يتململ قليلاً وهو يهم بأخذ نفس عميق من سيجارته. لاذ بالصمت … عثمان ما استهواه يوماً لكي يتحمس لكسر لزوجة الموقف، ولكنه اتخذ وضعاً أقرب للاسترخاء الآن.

    - عشرة أعوام ونحن ننعم بالسلام المشوب بالحذر … خير من هذا الوضع إعلان الحرب صراحة.
    قالها الأب سريليو، وأضاف:-
    - سنسمع دوي المدافع قريباً … إن شيبي هذا لن يضيع هدراً، تأكد من ذلك.
    أشار بأطراف أصابعه إلى شعر رأسه الذي وضع فيه الشيب بصماته بعمق.
    بادره مجذوب بغتةً:-
    - لابد وأنك تعلم بأمر يدور في الخفاء!
    ضحك الأب سريليو وهو يرمقه بنظرات مليئة بالإشمئزاز:-
    - ستتهمني الآن بأني طابور خامس … أليس كذلك؟– أضاف – هاك رقبتي، سأتكئ لك … أفرد سكينك واذبحني، هذا قمة ما تشتهون.
    هكذا يثور الأب سيريليو دائماً … يثور حتى مع نفسه، لكنه يكن لمجذوب كثيراً من المودة … ما عادت ترهبه تلك الثورات.

    إلتفت إلى عثمان أخيراً والعربة تمارس فعل الإهتزاز بلا رحمة :-
    - ما رأيك فيما يحدث؟!
    انتفض عثمان ورد عليه بسؤال مستغرباً:-
    - ماذا تقصد؟

    لم يمض على اندلاع الحرب - مرة أخرى - سوى سبعة أشهر بعد هدنة مشوبة بالحذر امتدت لسنوات، البعض كان يفضّل اندلاعها - ليس رغبة فيها - بل لينتهي عهد الترقب والإنتظار. إنها قربان الآلهة، ذلك الفرض الأبدي حين يغيب الوعي وتتماهى الرؤية والرؤيا بغية بلوغ التوافق. حين قذف الكجور بعظمه في الأفق وضرب الوليّ برمله على ظهر البسيطة اندلعت شرارة ولاحت في الأرض الحرام حيث العظم والرمل يلتقيان. وقف الساحر يومها وفي نيته الابتسام، لكنه ضحك كثيراً وهو يرى العظم يتصاعد إلى الأعلى ثم يهوي محترقاً ويتلاشى بينما تختلط الخطوط أمام ضارب الرمل وتتلاشى من فعل الحرارة المنبعثة من بين الحبيبات المتجانسة. وجاء السلطان ليرى بعينيه تصاعد السنة اللهب ليجثو راكعاً ويخر ساجداً.

    همس أحدهم " إنها نار الصاعقة لن تنطفئ إلاّ بعد أن تقضي على كل ما حولها".

    هي ليست نبوءة، كان مدركاً لهذه الحقيقة … إنطلاق الحرب من عقالها أمر حتمي كل الأشياء تشير إلى ذلك. إنها واقعة لا محالة … الكل يدرك ذلك. " تباً لهم … انهم يدركون النتيجة ورغم ذلك يسيرون في ذات الطريق." ولكنها تلك اللعبة القذرة.

    الطريق الآن متعرج إلى درجة لا يمكن معها الجلوس في استرخاء وقد شارفت القافلة على الوصول إلى الموقع بعد طول رهق من وعورة الطريق، بل ولاحت بالفعل أعلى قمة من الجبل الذي يحتضن الموقع مما إنعكس إرتياحاً على وجه مجذوب. يعرفه جيداً بملامحه الغريبة التي جعلت منه أسطورة قاتل الأهالي كثيراً من اجلها، قبل أن يسيطر عليه الجيش لأهميته كموقع عسكري يمكن من خلاله السيطرة على رقعة واسعة حوله دون عناء.

    قبيل سقوط الشمس في فخ الغروب كانت القوة قد توسطت الموقع تماماً، تحفها حرارة إستقبال سرعان ما تبددت حين انطلقت صافرة إنتبه لها حتى القادمون المتعبون إنتصاباً. إنطلق مجذوب برفقة قائد الموقع الرائد نلسون يرافقهما عثمان إلى حيث السكن المعد لهما، في حين تفرقت بقية القوة حسب التعليمات الصادرة إليها لتأخذ حصتها من الراحة بعد يوم مضنٍ. ودون استسلام للتعب وقف يتأمل الموقع تتنازعه حالة الضيق التي لم تبارحه وشريط ذكريات يحاول أن يستجمع أطرافه مخترقاً ببصره حواف الظلمة الهابطة في هدوء.

    قطع عليه نلسون إسترساله وهو يخاطبه بصوت اقرب إلى الهمس:-
    - نتوقع هجوماً هذه الليلة.
    قال دون أن يلتفت إليه:-
    - هل أبلغت قيادة المنطقة؟
    - نعم … أرسلت إشارة صباح اليوم – وبعد برهة – إكتفوا بتحرككم وبموافاتهم بالموقف أولاً بأول.
    بعد فترة صمت قصيرة سأله:-
    - ما موقف الذخيرة والتعيينات؟
    - لابأس، ولكن لا ندري حجم القوة وهذا ما يزعجني.
    - حسناً، بعد ساعة حضّر لاجتماع في غرفة العمليات. بلغ الملازم عثمان بالحضور إلى جانب ركن العمليات.

    كان الظلام قد احكم قبضته حين إستلقى على فراشه ... لم يكن يختلف كثيراً عن ذاك الذي اعتاد عليه ولكنه مترهل بعض الشيء. تقلب قليلاً متقلبة معه هواجس ما كانت تراوده من قبل، ولكنه ذلك الجبل اللعين رغم الظلام يتمدد أمامه بوضوح. يرتد منتصباً موحياً بأمر آت لا ريب فيه، لا ليس موحياً بل هو صوت خارج من جوفه … صوت قادم من عمق بئر مهجورة. روى له أحد كبار السن من أهالي المنطقة في زمن الترقب يوم أن كان من بين ضباط الموقع وهو بعد برتبة الملازم أول، إن هذا الجبل كان يوما خلية حيّة. مئات من البشر هم من يمثلون هذه الأحجار الآن … لكنها ليست مجموعة أحجار بل هي كتلة واحدة تماسكت يوم أن إنصهرت بعد إشتعال النار وازدياد جذوتها. يقولون إنه كان يوم سبت وقت أن إلتقى رمل الوليّ بعظم الكجور في زمان غابر.

    الصوت لا يكاد يبارح أذنه، وبين عينيه تتقاطع خطوط رمل وعظم … حينها رأى الجبل يتحرك وهالة من ضوء باهت تحيط به والزمان ليس زمان قمر. تذكر عمه الآن … لعنه وتلك الأساطير التي كان يرويها له كما لم يفعل من قبل. ليست هي المرة الأولى التي يقاتل فيها … كثيراً ما قاد معارك دون أن يرمش له جفن، لكنها ليلة أخرى تلك التي تحتضنه الآن … ربما هو التعب. رفع غطاءه في حذر خشية أن يوقظ نلسون ووقف بجوار فراشه يتمطّى.

    دوي إنفجار في الطرف الآخر من الجبل طرد كل ذرات التعب من جسده ورآه - أثناء سقوط قذيفة مدفع هاون أخرى - يتحرك فعلاً … تمور أطرافه بالحركة… وتحولت بقايا الليل إلى نهار. ثلاث ساعات ولم تبدأ المعركة الحقيقية إلاّ بعدها … مع بداية زحف أول موج بشري تجاه الناحية الغربية من الموقع. "هل اليوم سبت ؟" تساءل متردداً وهو يوجه ويصدر أوامره لإدارة المعركة الدفاعية مسيطرة عليه فكرة إنها ليست معركته، بل هي مفروضة عليه. أكثر من عشرة سنوات وهو لم يزاول مهنته … كان آخر عهد له بالمعارك الحقيقية وجحيم نيرانها في معركة العبور، كان في خضمها وإن لم يشارك فيها إلاّ بالقدر الذي أتاحته له عيناه من موقع حراسته.

    بصق بعنف وهو يشتمّ رائحة البارود المختلطة برائحة الدم ورغم أصوات الرصاص المتصاعدة أصدر أوامره بتحويل اثنين من الأسلحة الرشاشة إلى الناحية الغربية. بعض أفراد القوة يخلون إلى مواقع الإسعافات رغم كثافة النيران. عند شروق الشمس تراجعت القوة المهاجمة إلى الخلف وعجزت عن اقتحام الدفاعات.

    اقترب الرائد نلسون منه:-
    - سيعاودون الكرّة.
    قال له وهو يمسح ذرات العرق المتصبب من على وجهه:-
    - أحصر لي كشفاً بخسائرنا الآن، علينا إخلاء الجرحى من الخنادق ولتبقى بقية القوة في حالة إستعداد ولا تبارح مواقعها مهما كانت الأسباب.
    - الكشف جاهز . إستشهدوا من بين السرية الأولى حتى الآن سبعة عشر فرداً بينما الجرحى أربعة وعشرين فرداً بينهم حالات خطرة.
    -بعد انجلاء الموقف أطلب مروحية من قيادة المنطقة لاخلاء الحالات الخطرة.

    إستعادت السماء بعض بهائها وصارت كما سماوات لا تغطيها روائح رمادية، وانجلت عن أعماقها سحب الدخان … ولكن دخان آخر متكاثف يتصاعد وشيء ما ثقيل واقف أعلى الصدر لا يكاد يتزحزح. في الأفق شيء ما يلوح والعين اليسرى ترف … جدته كانت تقول إنه فأل سيئ. كثيراً ما يمتلكها الرعب حين ترف عينها اليسرى. وغالباً ما تصدق تنبؤاتها خاصة في ما يتعلق بالفأل السيئ، ولكن عندما يتعلق الأمر بالعين اليمنى أو بحكة في راحة يدها اليمنى نادراً ما ترى عزيزاً لديها أو تقبض مالاً تحلم به. كانت في وقت غضبتها المليئة حناناً تحذره -جادةً - من مصير أسود ينتظره بسبب معاكسته الدائمة لها. عيناها تشعان غرابة وبؤساً سرعان ما ينطفئان وهي تشيح بوجهها المتغضن وكأنما تطرد صورة تلوح في كادر عينيها.

    - انهم قادمون.
    صاح نلسون في صوت قوي بينما وقف هو متأملاً دفاعات الموقع من كل الإتجاهات في محاولة للسيطرة على النفس. إنها معركة أخرى في ظرف ساعتين … لا يدري إن كانت هي الفاصلة أم ستعقبها جولات أخرى. وبدا في تأمل نلسون الذي بدأ يصدر أوامره عبر الجهاز الذي يحمله … أليس هو من أبنائهم ؟ لماذا إذاً هو هنا؟ ولكنه سرعان ما إستدرك الأمر وهو يرى أن كثيراً من القوة - التي فرضت عليه قيادتها بحكم رتبته العسكرية - هم من أبنائهم. لا … إن الأمر غير متعلق بهذا، إنه إكثر سطحية من كل هذه الدماء التي أَُريقت حتى الآن بلا معنىً.

    وعند بداية الهجوم كان نلسون إلى جانبه … جاءوا هذه المرة من عدة اتجاهات وكالموج البشري تدافعت أفواجهم محاولة كسر الدفاع المحكم من الإتجاهات الثلاثة التي تلتقي بطرفي الجبل.

    قال نلسون بعد تلقيه مكالمة عبر الجهاز:-
    - سعادة المقدم، الملازم عثمان يقول إنهم إستطاعوا كسر طرف الدفاع الشرقي الذي يلتقي مع الجبل وإنه مصاب بجرح في صدره.

    الملل المتسرب إلى نفسه دفعه إلى عدم الاكتراث للنبأ. الطقس الآن هو طقس موت … والرقص على إيقاع الإحتضار المترامي من بعيد وقريب في آن مبعث إلى التشبث بالحياة . إنه إندفاع الماء في مجرى جف سنين، هبة أخرى لحياة في زمن الموت بلا معنى ... وماذا يعني موت الملازم عثمان رغم حقيقته ؟! ومع إستمرار المعركة يزداد تسرب الملل وتصير كل المعاني إلى التلاشي.

    تغير كل شيء حين أصابت قذيفة الرائد نلسون … جسده منشطر إلى أجزاء بالقرب منه. عناية إلهية وساتر مبنيّ في متانة منعا عنه إنتشار الشظايا المتناثرة. لحظتها فقط قرر عدم الموت وهو يرى كل الدفاعات الحصينة آيلة إلى السقوط … دون شك آيلة للسقوط بعد معركة إستمرت لأكثر من أربع ساعات.

    حمل الجهاز في عزيمة فاترة وهو ينادي على أفراد القوة المتبقية:-
    -أوقف الضرب … أوقف الضرب.

    خارج هو من جحيم قرار عقوبته الإعدام، لكن لا جدوى مما يجري. من تبقّوا لا يتجاوزون السبعة عشر فرداً من أفراد القوة بينهم ركن العمليات. أطلق رصاصتين إلى أعلى بعدها توقف الضرب تماماً قبل خروجه من خندقه رافعاً يديه إلى أعلى وإلى الاعلى، يتبعه سبعة عشر فرداً. فراغ تنامى في داخله … إلتفت إلى قمة الجبل وهو جالس على الأرض واضعاً يديه أعلى رأسه … كان الجبل مبتسماً في سخرية.
                  

01-16-2006, 01:24 AM

أمير بابكر

تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فقاعات زمن التصحر - رواية (Re: أمير بابكر)

    الفصل الثاني

    لم تكن لمجذوب فراسة بتقلبات الطقس وهو القادم من طقس تتنازعه الحرارة وقليل من البرد والرمال. حين حزم حقائبه بعد إستلامه الأمر الإنذاري تنازعته مشاعر شتّى لم يكن بينها التردد في التنفيذ. فقط سؤال ملحٌّ سيطر على ذهنه … هل سيلتقي عمه الغائب منذ سنوات؟! لشدّة تعلّقه به لا تزال ملامحه عالقة في ذاكرته … هي ناصعة واضحة التقاطيع كما رآها آخر مرة، لا تنمحي ولا يصيبها الهرم.

    علاقته به إمتدت منذ تجاوزه أولى عتبات الوعي ويراه يحمل له كثيراً من الهدايا ويروي له من الحكايات عن عالم يكتنفه الغموض والمتعة. لكنه دائم الغياب ولفترات طويلة، وإلى حين عودته يعيش عالمه متقمصاً شخصه … يحلم بفضاءات تذخر بالرحيق ومذاق الهواء الرطب وحورية تخرج من عمق الماء وعلى جسدها فقاعات ملونة تزيدها رونقاً وبهاء.

    إختار السفر إلى موقعه الجديد بعبّارة نهرية - كان يعلم أن عمه يعشق السفر بالعبّارة النهرية رغم الوقت الذي تستغرقه. هي أول تجربة له في السفر بعيداً وبوسيلة جديدة، وهي أولى الخطوات في تقفّي أثر عمه. هذا ما عزم عليه قبل أن يلحّ عليه أبيه في فعل شيء كهذا. كانت عينا والده دامعتين … ما درى إن كانت من أجل سفره - وهو الضنين بها ولم يفعلها من قبل - أم هي لذكرى عمه الذي طالما قسى عليه محاولاً كسر جموحه وإنطلاقه. وقتها فقط أدرك سرّ دمعة حبيسة إلى درجة التجمد كثيراً ما أطلت تحت جفني والده كلّما جاءت ذكرى عمه المختفي منذ سنوات.

    - مجذوب … لن أوصيك. كانت آخر جملة قالها والده قبل أن يغادر الدار.

    كانت الحرب قد أنزلت بيارقها منذ زمن، من وقتها غاب عمه زروق ولم يسمع أحد عنه شيئاً. لكنه مازال على قيد الحياة وكثيراً ما يتناقل القادمون الأساطير عنه دون رؤيته. طافت في ذهن مجذوب صورة عمه بلون بشرته الأسمر ليس كبشرة العائلة المائلة إلى السمرة الداكنة، وجسده الفارع الطول في متانة تناسبه. لا يزال يذكر وجهه الذي تكسوه مسحة ساحرة هي خليط من التوتر والسكينة، لا يكاد يستقر على أيٍّ منهما. لماذا راودته فكرة أن يراه الآن بين هذا الجمع المتزاحم على قاعة الطعام. طرد الفكرة بإبتسامة ساخرة مستجمعاً ما تبقى له من لامبالاة يواجه بها ذروة القلق المتصاعدة، وألقى ببصره إلى مياه النهر الهاربة من جحيم الاختناق.

    عندما غادر زروق أول مرّة إلى تلك الأنحاء كان برفقة أخيه الحاج سلمان، هكذا وفي لحظات تجليّ نادرة إستمع مجذوب لرواية أبيه . وقتها كان العبور صعباً إلى تلك الأنحاء، ليست الأسلاك الشائكة المغروسة في الدواخل هي السبب، بل ما لازم الطقس أثناء الرحلة التي اتخذت طريقاً برياً ودليلاً يميز الطرقات بصورة مأساوية. الحاج سلمان معتاد على ما يصاحب تلك الرحلات؛ لذلك لم يكترث كثيراً لارتياده تلك الطرقات أكثر من مرّة.

    وعندما اقتربت القافلة من سلسلة الجبال الفاصلة بين السهل والغابة ترجل عشرون رجلاً – من بينهم الحاج سلمان وزروق- يرتدون جلابيب موزعة ألوانها، على مشارف (لقيتو) القرية الكبيرة بعض الشيء التي تتناثر مساكنها هنا وهناك. كانت الشمس قد مالت قليلاً في إتجاه الغرب، وسوق القرية في أواخر أوقات إزدهاره . تملكت زروق الدهشة لهذه البلدة العامرة بأهلها وسوقها المكتظ بعكس ما صادفه أثناء رحلته وخلال مسيرته من قرى. إضطر لسؤال أخيه عن الأمر.

    - أظنه يوم الاثنين .. يوم السوق. ليس كل الذين تراهم من أبناء لقيتو … كثيرون قادمون من القرى المجاورة للتسوق أو التجارة.

    قبل الإهتمام بالمضارب حيث سيقضون الليلة دون شك، إتجه سلمان بصحبه زروق وأحد رجاله ومعهم الدليل إلى موقع السوق. لم يكن سوقاً فقط لتبادل وبيع السلع وإنما بداخله عالم متكامل وفيه تتساقط الأخبار من كل المناطق. كثيراً ما يجد المرء ضالته قبل بلوغ وجهته فيعود بها مفضلاً عدم تكبد مشاق سفر أطول. أما سلمان ما كان يستسلم أبداً لذلك، رغم معرفته بأهل (لقيتو) وتوفر مطالبه في سوقها. إن إختراق الغابات والخوض في مياه الأنهار له متعة خاصة في داخل نفسه، ثم أن السعر هناك لا يقارن يستحق قضاء شهر آخر.

    إتجه الركب إلى حيث القوم على ربوة تطل على السوق.. لم يكن يميز داره سوي اتساعها وكثرة الصبية والصبايا فيها.. وتعدد (القطاطي) المتناثرة داخل أرجاء الحيز الذي يسيطر عليه.

    - الشيخ عطرون سلام عليك.
    - سلمان..؟! سنة كاملة لا نراك فيها!! لقد كدنا أن ننساك.
    - يبدو أن الأحوال جيدة فالسوق عامر.. ليس كالسنة الماضية .
    - الحمد لله وكل شئ متوفر حتى سن الفيل وريش النعام.
    - وجلد النمر أيضاً .واضح من ما ترتديه يا شيخ.
    - أعلم أن كل هذا لن يغريك ولكن قل لي أليس هذا ماتونق.
    - إنه جاد الرب الآن.
    - أأسلمت يا ماتونق ... سبحان الله لكم أتعبني هذا الصبي..

    وقبل أن يكمل جملته دخلت صبية إندهش لملاحتها زروق وقد إختلط عليه الأمر إن كانت تستر عورتها فقط أو هي عورتها تلك التي تسترها . وضعت قدح كبير كانت تحمله في وسط المجلس ثم أخرجت عدة أقداح صغيرة دارت بها على الجميع بعد أن ملأتها. انصرفت بعدها تلاحقها نظرات زروق.

    قال عطرون ضاحكاً وهو يحتسى قدحه في تلذذ حتى سال بعض منه على شفتيه:-
    - إنها من محصول هذا الموسم.
    مطّ سلمان شفتيه وهو يقول:-
    - أدامها الله من نعم..
    ثم واصل بعد أن تجشأ رائحة الذرة الخميرة:-
    - إن هذا زروق ابن أخي.. أرجو أن تهتم به إذا حضر في غيابي.
    - وهل تنوى الغياب؟
    - حسب الظروف.. ربما أعود بين فترة وأخرى.
    إنحنى الشيخ عطرون وهو يعدل من جلد النمر حول رقبته إلى أذن سلمان هامساً:-
    - لدى فتى يضاهى جاد الله قوة.. أنت صديقي طبعاً لذلك أفضل أن تأخذه… سيفيدك كثيراً.
    - لا بأس ولكن عندما أعود من رحلتي.

    ومع إستقرار الشمس في برزخها الأبدي تراءى القمر باهتاً في بادئ الأمر.. آخذاً في فرض سطوة بريقه مع إيقاعات نقارة ترامت من بعيد مخترقة حواجز الفضاء.

    إن للنقارة سحر غريب تنتفض له الدواخل في هذه الساعة.. جلدها يتأوه من وقع العصا عليه. ليس كإيقاع طبل الصحارى.. هنا كل شئ ينتفض. حتى وقع الأقدام السائرة على الأرض مختلف.. لا ترغب في السير مستكينة وإنما راقصة. وبدا الكون مهتزاً مع كل دفقة إيقاع تحملها موجات النسيم.

    إرتعشت دواخل زروق مبتلعاً قدحاً من مريسة الذرة دون أن يتذوق له طعم.. والقمر القادم من الشرق كأنما يمد إليه لسانه ويدعوه إلى حفل من نوع خاص. ولكن بدا له القمر شاحباً رغم صفاء السماء. ليس كما كانت تحكى له جدته. ربما لأنه اكتمل بدراً وآخذ منذ الآن في التآكل . لم يمارس زروق الإنتباه وسط صخب المدن، ولكن بين السهل وقمم الجبال الباهتة الملامح تملكه تساؤل عن ما جعله يتوغل عكس التيار.

    تلاشت كل التساؤلات مع إرتفاع إيقاعات النقارة. ولم يعد القمر قمراً وإنما نفذ ضوؤه إلى أعماق أغور، نافياً الظلال، باسطاً سيطرته على كل الممالك. إرتفعت الأرجل وتعالت الصدور وساد غبار حلبة الرقص. وما بين إيقاع النقارة وتعالي صيحات الراقصين وتساقط ضوء القمر، رآها زروق وسط الحلبة تحكم خصرها بإزارٍ متدلٍ حتى أعلى ركبتيها، بينما نهداها يداعبان الهواء. ومع كل قفزة تشهق روحه، إلى أن أخذته الحمى.. فصارت قدماه ترتفعان وتهبطان وجسده يزداد سخونة. بعدها حمله جاد الرب وأثنين من رفقاء الرحلة من وسط الحلبة إلى أطراف القرية حيث مضاربهم؛ والحمى تلهب جسده.

    مع بواكير الفجر إنطلقت القافلة حيث ينتظرها اختراق سلسلة الجبال في رحلة تمتد لثلاث ليالٍ قبل عبور النهر وبلوغ أطراف الغابة … والأفق يحمل لون ما يترامى من أنباء. الغابة تعمّها الفوضى .. القتل والذبح هما سيدا الموقف فيها الآن … محاولة أخيرة من الشيخ عطرون لإثناء سلمان عن مواصلة الرحلة وشراء بضاعته من عنده.

    إنه الوضع الأكثر ملاءمة لسلمان، لذلك ارتسمت على شفتيه إبتسامة إرتعدت لها فرائص زروق. قبل عام كان الوضع كما هو عليه الآن … واستطاع سلمان إختراق حواجز الخوف والرعب ليتمكن من الحصول على ما ملأ به قافلته من سن الفيل وريش النعام بأسعار قفزت به إلى مرتبة ما كان بالغها بسهولة.

    الآن قرر التنحي وإفساح الطريق لزروق بعد أن إستطاع تأسيس قاعدة مالية ستغنيه عن كل تلك المخاطر. على أخيه الأصغر تولي مسئولية العمل منذ الآن. يكفيه عشرة أعوام من الترحال والمقامرة … عليه أن يرتاح ويلتفت إلى مصالحه التي بدأت تتزايد.

    كان سلمان سعيداً وهو يرى زروق إلى جانبه في هذه اللحظات، وكانت سعادته أكبر لمشقة الرحلة. طافت في خياله ذكرى والده الحاج الحمراوي الذي تسلم منه الراية قبل وفاته … أولاده يستلمونها، عليهم الانتقال إلى عالم آخر لا علاقة له بكل ما جرى. والده كان يمتلك اكثر من خمسمائة رجلٍ يدير بهم شئون مملكته وكم من النساء والفتيات خاضعات لسيطرة أمه. كل ذلك تلاشى عندما امتدت الأسلاك الشائكة وأحكم إغلاق الطرق المؤدية إلى إتجاه الغابة.

    مع عبور النهر واختراق أطراف الغابة سيطرت على زروق موجة من الحرية ورغبة في ولوج عمق الغابة دون مرافقة الآخرين. إنه حنين غريب لمملكة كانت تراود أحلامه بعيداً عن عالم مفروض عليه.

    لعلم مجذوب بأن الرحلة ستستغرق أكثر من أسبوع زادت متعته رغم إكفهرار السماء ووجه ربان العبّارة العابس الذي أطلّ من خلف السياج. ومع اقتراب النهار من منتصفه إنطلقت صافرة طويلة معلنة الإستعداد لبدأ الرحلة. إستغراقه في عالم السفر أضاع عليه فرصة قراءة تلك العيون المتحفزة لرؤيته منذ إحتلاله حيز من الرصيف ... رؤيتهم لبزّته العسكرية وتلك النجوم المتلألئة على كتفه ووجه المليء بنضارة العشرينيات. كما جنّبته الانتباه إلى حملة النفور التي برزت إلى سطح عالمه في اليوم التالي من بداية الرحلة، أثناء تجواله على سطح العبارة محاولاً التعرف على ملامح المنطقة في الاتجاه المعاكس لتيار النهر. الكثيرون على سطح العبارة واقفون على الجزء الغربي تفادياً لأشعة الشمس الساطعة في سفور. فعل مثلهم متجها ببصره إلى الشاطئ.

    هذا الاحتفاء الأخضر يزداد كثافة كلما اخترقت العبّارة جداراً اعمق من جدران الماء والفضاء. عمه كان يقول له، من بين ما يقول، إنه يعشق الخضرة والماء والوجه الحسن، وها هو متوغل داخل خضرة لا متناهية. إلتفاتة منه أدرك بعدها أنه محط إهتمام لا بد من الانتباه إليه، وهو ما أكده سؤال مفاجئ من رجل خط الشيب رأسه.

    نظر إليه من أسفل إلى أعلى وفي نظراته ترقب وإبتسامة لم تكتمل مثيرة للقلق وتدعو للتساؤل:-
    - هل ستنشب الحرب من جديد؟!

    والموجات المتولدة من حركة العبّارة كأنما تلقي عليه بذات التساؤل مما زاد من حالة التوتر داخله، أنقذه منها الإعلان عن موعد الإفطار. إستغراقه في طقس السفر وامتداد الحلم وتلك الدموع الخارجة قسراً والمتجمدة عند ذاك الحد في عيني والده سلبت منه الإثارة المتوفرة داخل القاعة يوم أمس. وهو جالس في ركن متميز عكس إتجاه التيار متربص بمدخل القاعة منتظراً، دون معنىً، وجهاً مألوفاً أو أحد ضباط الجيش يزيل عنه ما يتصاعد أعلى صدره من غازات ساخنة.

    قال آخر اصغر سناً يرافق ذا الشعر الذي خطه الشيب وفي نبرته ذات رائحة الابتسامة:-
    - تبدو وديعاً وأنت لا ترتدي بزتك العسكرية.
    إنتابت روح مجذوب ثورة لؤم فوجد نفسه يرد في حدة:-
    - وأيهما ترغب فيه .. وداعتي أم بزتي العسكرية ؟!
    ضحك ذو الشعر الذي خطه الشيب هذه المرة وهو يقول:-
    - البزة العسكرية تدخل في نفوسنا توجس من شر قادم نلمح نذره في الأفق، ونحن عانينا من الحرب ما فيه الكفاية. ووداعتك تذكرنا بتاريخ … لم يكمل حديثه مكتفياً بهز رأسه.

    مجرى النهر يزداد ضيقاً والخضرة متكاثفة ومساحات الود في اتساع كلما توغلت العبارة عميقاً حتى ذو الشعر الذي خطه الشيب ورفيقه إتسعت رقعة الابتسام على وجهيهما مما خفف من سخريتها رغم إنّ ملامح طعمها لم تختف. وعلى ظهر العبارة بعض من التجار وموظفين حكوميين وسياح من دول أوربا. وعادت متعة الرحلة طاغية على تكاثف حالات التوجس والتردد الذين لازما مجذوب منذ بدايتها، ليطل عمه زروق برأسه من بين براثن الغموض والسحر.

    علم مجذوب فيما بعد أنّ ذا الشعر الذي خطه الشيب يدعى الأب سريليو، أحد أشهر رجال الدين عكس اتجاه النهر، لذلك دعاه في أول سانحة لتناول وجبة العشاء معه برفقة صاحبه. وما أن جمعتهما المائدة التي ضمت آخرين حتى صبّ الأب سريليو لنفسه كأساً من الويسكي.

    إندهش لذلك مجذوب متسائلاً:-
    - كيف يستقيم أيها الأب تعاطيك الخمر مع وضعك الديني؟!
    - يا أبني إن أئمتكم يشربون الدماء … وكثيرون منهم يمزجونها بالويسكي، أم انك لا تقرأ التاريخ ولا تعيش الواقع.

    كان أبوه يقول عن زروق إنه عربيد أو زنديق، لا يذكر ولا يؤمن بالله كثيراً ... ما كانا يشتجران. لكنه رآه مرّة يدس مصحفاً صغيراً بين أمتعته بعد أن قبله مرتين، هذا غير الأحجبة التي تحيط بزنده والتي يلوّح بها كلما وقفت الأسرة في طريق سفره. لا يزال مجذوب يذكر كيف يتمسكون به لأطول فترة ممكنة، متشبثون بتوسلات جدته لكي لا ينسل هارباً، ثم لا يلبث أن يحزم أمتعته لتفرِد غيمة حزن أجنحتها على البيت لأيام، بعدها تعود الأمور إلى طبيعتها وتسير في رتابة يكسرون حدتها بتتبع أنباء الحرب من جهاز الراديو أو الصحف وبعض القادمين.

    الشمس اكتسبت غلالة باهتة اثر تتابع غيم شفيف وعينا الأب سريليو اكتسبتا لوناً وردياً بفعل سريان الويسكي وطعم آخر بدأ في التسرب من داخله …
    - هل ستتزوج إحدى بناتنا؟
    قال مجذوب مازحاً:-
    - وهل لديك مانع إذا ما حدث شيء كهذا؟
    - أتعلم إنّ معظم من يستقر به المقام إلى حين هناك يتزوج من بناتنا ؟ .. لا هو ليس زواجاً كما عندكم وهذا ما يزعج الجميع.
    - وما المزعج في الأمر أيها الأب؟
    - المزعج أنّ هنالك نسل مشوه الدواخل يتنازع داخله تحديد الانتماء. كان هذا جلياً إبان فترة الحرب وهاهي نذرها تلوح مرة أخرى في الأفق.
    - ولكنها ليست مشكلة هذا النسل فقط، إنها مشكلتنا نحن أيضا … نحن متنازعون بين الغابة والصحراء، لا الصحراء تعترف بنا ولا الغابة تقبلنا كجزء منها. فقراء كما السافنّا الفقيرة. هم أحسن حالاً … اكثر من نصف دمائهم تنتمي للغابة ويقف النيل شاهداً على ذلك رغم محاولات التشويه.

    لم يزعج مجذوب كل هذا بقدر ما أزعجه إصرار الأب سريليو على نذر الحرب التي تلوح في الأفق … لم تسعفه شجاعته وغروره على سؤاله عن تلك الحرب التي تلوح وقد انقضت سنوات على توقفها. إشتم رائحة عمه في كل ذلك، وتساءل داخله إن كان هو المسئول عن كل ما يقال. ودّ لحظتها لو يسأل الأب سريليو عنه لكنه فضّل الوصول إلى موقعه ليبدأ رحلة الاستكشاف.

    سطعت الشمس دون أن ينتبهوا إليها بعد انزياح الغلالة، ولم يتبق سوي صوت أنين الماء المحتج على قهر العبّارة وصوت مغنيٍ تحمله الريح ممزوج بهدير الماكينات.
                  

01-17-2006, 01:29 AM

أمير بابكر

تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فقاعات زمن التصحر - رواية (Re: أمير بابكر)

    الفصل الثالث

    نذر عاصفة تلوح في الأفق – على غير العادة – وفصل العواصف قد انتهى موسمه بحسابات الطقس والفصول مما جعل الموازين تختل في هذا اليوم وجرعة أخرى تضاف إلى قلق مجذوب المتصاعد. كلما تلاشت دقيقة ينتابه إحساس بالبكاء منبسطاً على غشاء الرئتين في دفء متصاعد بين مدهما وجزرهما .بصق بعنف على ظهر الزمن محاولاً إختلاس إغفاءة من بين زخم التوتر واختلال التماسك.

    اقتربت تباشير الفجر وهو والنوم لا يزالان في حالة لا ود .. عقله مشغول بمشقة الرحلة التي تنتظره بعد ساعات قلائل. لم يكن أمامه سوى مداعبة حلمة أذن ايفا المستغرقة في نومها. تأملها وهي تتململ في ضيق من لا يرغب في الاستيقاظ. طاف بأنامله على أطراف جسدها الذي هو بلون البن قبل احتراقه .. اقترب بأنفه منها ربما اشتمّ رائحة البن المقلي – تلك الرائحة الضائعة في زحمة العمل.. افتقدها طوال شهور منذ أن حزم أمتعته ورأى حبيبات الدموع محتقنة في عيني أبيه.

    كانت ايفا تسخر منه لكنها دائماً ما تلتصق بأنفه ليملأ رئتيه بعبق رائحتها. "أنت مجنون" هكذا تصرخ في وجهه وهو مستغرق فيها .. حينها كان إطارهما قد تجاوز الدهشة وانهزم داخله التردد.

    قررت أن تقضي الليلة معه .. ربما لا تراه لمدة قد تطول. أتت والأفق تلوح فيه نذر العاصفة وانهال المطر سيلاً تتلاعب به الريح وهي تطرق الباب. نضرة كأنها مملوءة بهواجس الفترينات وعيناها مكسوتان بنصف حزن ونصف شبق لتكتسبا لوناً ذهبياً. أول مرة انتبه إلى كون عيناها ذهبيتين. فجأة ارتد به خياله إلى الخلف "ربما هي مصابة بداء الصفراء .. " شقيقته ماتت بذات الداء قبل سنوات. لكنها فقاعة سرعان ما تلاشت.

    سألها إن كانت غابة تعشق المطر ويحييها الحريق .. ألجمته كعادتها بأنها نار لا يطفئها المطر "أتعرف نار الصواعق التي لا تطفئها مياه الأرض ولا السماء ! تلك هي أنا .. لن أتتركك إلاّ وأنت محترق" هكذا قالت له وهي في غمرة نشوتها وصوت ضجيج العاصفة يتلاشى إلى البعيد بين مدهما وجزرهما.

    استيقظت وعيناها نصف مغمضتين لا تقوي على فتحهما متسائلة إن كانت الساعة قد أزفت، ثم عدلت من جلستها وهي تسوّي ثوبها مغطّية بعض من جسدها.

    قالت له بصوت مِلأه النعاس:-
    - لقد رأيت في المنام أنك غارق في ماء المطر.
    قبّلها بين نهديها قائلاً:-
    - أنا غارق ها هنا.
    - إنني صادقة فيما أقول .. إن رؤيتي لا تخطئ، لكني لن أتركك … قالت المقطع الأخير في شيء من الغموض.

    وفي غمرة أخذهما وردهما ترامى صوت العربة المقاوِمة للوحل من بعيد ... تمييزها ليس من الصعوبة حتى من هذه المسافة فصوت ماكينتها لا تخطئه أذنه. لملم أطرافه المبعثرة بينما ايفا متشبثة بآخر جزء منه … لكنه انزلق. لا بد من إنجاز العملية في مواعيدها . لم يسبق لمجذوب إختراق تلك المناطق وهو الحالم باختراقها منذ قدومه وصورة عمه عالقة في ذهنه.

    قالت له ايفا مرّةً وهما بعد على عتبات التقاء الأنامل وانزلاق أطراف التحسس مصادفة، قالت له وعيناها تلمعان :-
    - ملامحك تقاطع بعض ملامح أبي.
    - أما زلت تذكرين ملامحه … لقد سمعت من جدك أنه مات منذ سنوات وأنت بعد طفلة.
    تكاثفت خطوط حزن واكتسبت عيناها لمعاناً بلون خطوط الحزن لتقول في صوت مذبوح:-
    - ذبحوه .. ذبحوه كما تذبح الشاة.
    أجفلت دواخله في الوقت الذي واصلت ايفا حديثها:-
    - هل تصدق!! وقتها لم أبلغ التاسعة بعد .. أو ربما بلغتها لكني استوعب تماماً ما كان يحدث. قالوا لي وقد غرقت قدماي في بحيرة دمه … قالوا لي لولا إن دمك ممزوج ببعض دمائنا لذبحناك مثله وخرجوا لا يلوون على شيء.
    واصلت حديثها الذي يقطعه نحيب:-
    - أتدرى عندما تغرس سكين حادة في عنقك وتذبحك من الوريد إلى الوريد كما يقولون!! هذا ما رأيته بأم عيني. كنت جامدة متماسكة عكس أمي تماماً … إنهارت لمشهد الدم المتفجر لكنهم ركلوها … لم يفعلوا بها أكثر من ذلك. ركلوها وهم يشتمونها ويصفونها بأنها مجرد جيفة استهلكها هذا القذر. كانت عيونهم بلون الدم وهم يشيرون إلى أبي … لم تكن الروح قد فارقته بعد. ما زال جسده ينتفض والرأس معلق بقطعة صغيرة برقبته.

    ما أفظعها من ليلة. أدركت ايفا فظاعتها بعد عدة أيام. قبلها كان التماسك … تماسك الدهشة والذهول … تدرك الآن انه تماسك زائف. تقيأت المشهد بعد عدة أيام ولا تزال بقايا من دمه عالقة بأطراف قدميها الصغيرتين … لم تغسلها.

    ليلتها كانوا هي وامها وأباها يتشرّبون القمر الرامي بجدائل ضوئه الفضي على الكون … قمر مكتمل أسكن فيهم اطمئناناً ورضاء … رغم علمهم بإكفهرار الوضع وسماعهم بحالات القتل التي تجري بين الطرفين. الثوار لا يتورعون في قتل من لا يسكنه دمهم … يعتبرونهم سبب المأساة. وكانت قوات الحكومة ترد بغباء كما سمعت من أبيها.

    دار جدل طويل بين الزوجين … وجالت بينهما فكرة العودة معه إلى ديار أهله حيث يصدرون الموت، تجادلا طويلاً وهي تنظر إليهما في قلق إلى أن رأت القبول في عينيي أمها. وتحول الحديث إلى تحديد موعد السفر. كانت الأمّ تصرّ على أن تضع طفلها هنا ومن ثم يغادروا على خلاف ما يرى أبوها. ما دروا إنهم يختبئون تحت السور وقتها.

    ومع انطلاق زخات رصاص من مناطق متفرقة رأتهم ايفا يتخطون الحائط القصير قفزاً، وقبل استيعابها لما يحدث كان أبوها ملقي على الأرض وسكين طويلة حادة تمر على رقبته لتحز عنقه … بقي الرأس معلقاً. وكان القمر مضيئاً .. منيراً .. بدراً، ولكنها رأته بلون الدم.

    بقدر ما أحبت ايفا أباها كرهت في تلك اللحظة أنها إبنته. أمها أجهضت بعد سقوطها إثر الركلة القوية التي تلقتها … قبل ثوان كانت تقول إنها لن تضع طفلها إلاّ في بيتها هنا. وضعته رغماً عن كل شيء وعنها. كان شاهداً على ذبح أبيه قبل ولادته … كتلة من اللحم محاطة بكيس مخاطي اندلقت في اتجاه الذبيح وجسده ما سكن بعد، لا يزال منتفضاً وصوت شهيق مرعب يخرج من حنجرته المقطوعة. خرجت عينا أمها عن محاجرهما … لم تكن تنظر في اتجاه زوجها لكن صوت شهيقه مرعب لم تحتمله … سرعان ما تقيأت وفقدت وعيها.

    كانت عينا ايفا تلمعان عند بداية حديثها عن موت أبيها .. وفي تلك اللحظة صارتا تبثان إشعاعاً غريباً وفجأة ارتمت على حجر مجذوب وطفقت تسبح في بكاء ساكن.

    "أنت تحمل ملامحه" أول بادرة أمل لاحت لمجذوب لمعرفة مصير عمه. " ولكن هل سأكرهه … كفعل ايفا مع أبيها … وينتهي حلم إكتشاف الغموض والسحر ؟" ذابت ملامح زروق بين جدران الذاكرة فجأة، ومجذوب متنازع بين سؤالها وهي مسجونة داخل حالتها تلك وإرجاءه إلى حين آخر ولكنه استجاب لرغبة في عدم مدّ أوجاعها.

    ما زالت بقايا مطر تغسل أوراق الأشجار السامقة وهو منتصب القامة ببزته العسكرية أمام العربة التي ستقله إلى حيث القوة المتحركة تحت قيادته، في حين انسلت ايفا خفية.

    رتل من الناقلات والعربات المدرعة مصطفة أمام مبنى القيادة أدى أمامها التحية لقائد المنطقة مستمعاً إلى آخر الأوامر منه. أول قوة بهذا الحجم تحت قيادته المباشرة متحرك بها إلى منطقة لا يعرف عنها شيئاً في الواقع سوى تنوير عسكري وطريق لم يسلكه من قبل. لكنه مطمئن إلى صحبة بعض الخبراء والمرشدين رغم احتمالات حدوث معركة ونذر الحرب التي بدأت تلوح في الأفق بعد تمرد قوة من الجيش واتخاذها موقعاً حصيناً كقاعدة لانطلاق هجماتها. وهو ما أضفى على مشهد القوة بآلياتها وكأنها مقبلة على معركة شرسة.

    دخل الأب سريليو على مجذوب عقب تسرب نبأ التمرد، وقد ازدادت خطوط الشيب على رأسه وهو مملوء بنشوة ورهط من الاحزان، مؤكداً له ما ذهب إليه يوماً بأن بوادر الحرب تلوح في الأفق. كانا قد صارا صديقين برغم العمر الذي يتقاطع بينهما عقب رسو العبارة إلى الميناء النهري الكبير. أصرّ وقتها وفي أريحية لا تخطئها أروقة الكرم والسخاء على استضافته في داره قبل تبليغه لقيادته.

    هو أول يوم يلتقي فيه مجذوب ايفا حفيدة الاب سريليو. لحظتها فهم كل لغته المملوءة غمزاً ولمزاً حين التقيا هي وهو وجهاً لوجه. كانت فرحة .. لا .. ليست بلقائه ولكنها هكذا دائمة الفرح … تبعثر جدائل فرحها هذا دون منِّ لتغطي بها عناصر هزيمة وانكسار طافحة على ملامح وجهها الغض … أو هكذا بدا له الأمر لحظتها.

    تجاهل حينها سؤال ايفا عن عمه حتى لا يثير أشجانها مترقباً سانحة ينفذ من خلالها إليها. وسرعان ما تكاثرت ازرع معرفته بأهل المدينة وخاصةً القادمين من عكس اتجاه النهر. كانت سوق المدينة تعج بهم حيث يديرون تجارتها منذ زمن ليس بالقصير… لا أحد من أبناء المدينة الأصليين يعمل بالتجارة. اخترق مجذوب ببزته العسكرية عالم التجار مقرراً عدم طرح نفسه كإبن أخ لزروق، متجنباً بذلك تداعيات التعارف والتزاماته، تاركاً لنفسه مساحة التوغل في اكتشاف السحر والغموض بتأنِ … مستعرضاً قدراته في فك الطلاسم دون إفساح المجال لمفاجآت تقطع عليه الحلم.

    الطقس لزج يكاد هواؤه يلتصق بالجسد… إنها رطوبة أواخر أبريل التي تنذر بقرب موسم الأمطار. الرطوبة العالية - تلك التي يصعب معها التنفس في سهولة - تبشّر الأهالي بخريف ناجح وتزيد مياه النهر سكوناً في انتظار أشهر الفيضان. يومها إستقل مجذوب عربة الجيب الخاصة بالقوة في جولة معتادة على السوق متنقلاً بين أزقته إلى أن وجد مكاناً رحباً مجاوراً لمتجر عبد الرسول. لم ينتظر ترحيب عبد الرسول المعتاد لكي يترجل من العربة، وإنما بادر بالخروج من مأزق الحرارة المرتفعة مؤملاً في التقاط بعض أنفاس على الطريق المزدحم بالبشر والأبقار وبعض غبار.

    مظلة المتجر مليئة بالرواد فكثيرون إعتادوا تعاطي القهوة في هذا الوقت معاً، لذلك إنتصبوا وقوفاً، حين اخترق مجذوب الظل محتمياً به، مفسحين له المجال للجلوس على أحد الكراسي القليلة بينما يفضل أكثرهم الجلوس أرضاً. لمح مجذوب بينهم شخصاً غريباً لم يره من قبل أشيب الرأس وندبة كبيرة تغطي على ملامح وجهه. وما أن إعتدل في جلسته على الكرسي في طرف من المظلة وأخذت أنفاسه تستجمع أطرافها حتى بادره الغريب:-
    - تكاد تشبه لي أحدهم … ثم التفت إلى عبد الرسول مواصلاً … إنه يشبه زروق، بل هو نفسه أليس كذلك يا عبد الرسول؟!

    تصبب مجذوب عرقاً وهو يسمع اسم عمه يتردد لأول مرة أمامه ورغم انتظاره الطويل لسماع أنباء عن عمه إلاّ أنّ المفاجأة أخذته وكأنما لم يحسب للموقف حسابه. لم ينقذه سوى عبدالرسول الذي ابتدر الغريب متسائلاً:-
    - زروق ؟! زمن طويل منذ غيابه … لا أستطيع حتى استرجاع ملامحه.
    قال مجذوب متشبثاً بآخر الجملة:-
    - ربما يخلق من الشبه أربعين.
    قالها وابتسامة عريضة تستر ارتباكه.
    - هذا عمك حاج الطاهر … استدرك عبد الرسول ثم واصل متسائلاً … ولكن كيف لم نتذكره طوال تلك السنين ؟ ربما ركب التيار وعاد إلى ديار أهله، أو ربما ذبحوه دون أن ندري.
    قال حاج الطاهر:-
    - لا لم يعد إلى ديار أهله.
    تساءل منصور:-
    - ولماذا لا يعود، فأنت قد عدت إلى ديار اهلك هرباً من الذبح ولم ترجع إلاّ بعد هدوء الأحوال.
    - لا … لا اعتقد، مازلت أذكر رحلته إلى الأعماق في قمة زمن المذابح … ثم إنهم يثقون فيه أكثر من أنفسهم.

    الآن الريح مواتية لتبحر سفن الاستكشاف في بحر الشفرة والطلاسم … متصاعد حجم الثقة هازماً الارتباك والعرق الذي تصبب. وتذكر مجذوب ايفا ليتساءل:-
    - وهل فيه بعض من دمهم؟
    - إن دماؤنا ممزوجة في هذا النيل … هذا ما كان يردده، لكنه كان صديقاً للأب سريليو … لا يكاد يبرح داره أو العكس.
    ردد عبد الرسول مؤكداً:-
    - كان شاباً لم يتجاوز العشرين عندما قدِم لأول مرة بصحبة أخيه … والتفت إلى حاج الطاهر متسائلاً … هل تذكر اسمه؟
    - نعم … سلمان.
    واصل عبد الرسول:-
    - كان زروق في قامة سريليو … لا يميزهما سوى اختلاف المناخات والانتماء للشمس والمطر وشارب زروق الكث الذي يزيده وسامة.

    كان زروق غريب الأطوار منذ قدومه وتخلفه في المدينة بعد عدة رحلات مع سلمان … بعيد عالمه عن عالم أهل التجارة وهذا سر ثقة الأهالي الزائدة فيه. لم يكن القادمون يحملون له حقداً، فهو كثيراً ما كان حائط صدٍ بينهم والسكاكين المشرعة في قمة زمن المذابح. أيامها كانت رغبات الهروب إلى الديار تتنازعهم في مقابل ثروات جمعوها بشتى الطرق، قبل أن يفطن الجميع إلى حقيقة الأمر.

    لا تزال مسيطرة على ذاكرتهم تلك اللحظات التي شتم فيه زروق صديقه سريليو وسط السوق وفي ذروة الأحداث الدامية. إكتشفوا بعدها أنه حائط صد لهم أثناء إحدى رحلاته في اتجاه مجرى النهر. كانوا قبلها يملأهم الرعب وكانوا يستغربون كثرة أسفاره وقدرته على اختراق الحواجز وشلالات الدماء، وتتملكهم الشفقة عليه لعلمهم أنه في عمق منطقة ساخنة لا يجرءون هم على اختراقها مهما كانت مصالحهم.

    رعشة إعترت جسد مجذوب ورتل المركبات متحرك … لم تكن بفعل برودة الطقس المفاجئة، هو يدرك جيداً أنها ليست لذلك السبب، فالرؤية أمامه واضحة وأعماقه كلها شوق لملاقاة عمه. دواليب عقله مغطاة الآن حتى نسي المهمة الموكلة إليه ونسي معها رهبة المهمة الأولى التي تحدد مصيره كضابط في الجيش. الآن يرى عمه ذو العشرين ربيعاً في قمة نشوته ممتطياً أحلامه متمرداً على أمه وعلى أخيه، يحمله إصرار غريب على السفر.

    لا أحد يعلم بالتحديد مكان عمه ولا هو تجرأ على السؤال عن ذلك مفضلاً السير في طريق الغموض والسحر دون دليل. ولكن ماذا يفعل للمطر الذي ربما يغرق في مياهه … ابتسم لذلك الخاطر وامتدت إليه ايفا بفرحها المدسوس على حزنها.
                  

01-17-2006, 01:54 AM

زهرة حيدر ادريس
<aزهرة حيدر ادريس
تاريخ التسجيل: 11-26-2004
مجموع المشاركات: 1139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فقاعات زمن التصحر - رواية (Re: أمير بابكر)

    كل التحاية العزيز امير
    والشكر الكثير على تعميم هذه الرائعة

    زهرة
                  

01-17-2006, 03:05 AM

nashaat elemam
<anashaat elemam
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1108

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فقاعات زمن التصحر - رواية (Re: أمير بابكر)

    الجميل امير بابكر

    شكراً لهذا السرد الجميل.. ممتعة جداً روايتك.. والاروع احتشادها بالأخيلة والصور الرشيقة..
    لك احترامي وتقديري
                  

01-17-2006, 06:16 AM

أمير بابكر

تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فقاعات زمن التصحر - رواية (Re: nashaat elemam)

    العزيزة زهرة حيدر
    برغم الدعم المتوقع لكن لك الشكر أيضاً

    الأستاذ نشأت
    لك كل التقدير وأرجو أن تنال فصولها القادمة رضاك

    أمير بابكر
                  

01-18-2006, 03:24 AM

أمير بابكر

تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فقاعات زمن التصحر - رواية (Re: أمير بابكر)

    الفصل الرابع

    الوقت تجاوز منتصف النهار … والشمس نصف غائبة في سماء نصف غائمة. بلوغ رتل المركبات نقطة الارتكاز الأولي لم يكن في موعده تماماً … كان عليهم بلوغها قبل طلوع الفجر، لكنهم وصلوا بشق الأنفس. حطوا الرحال أخيراً وزفرة ارتياح أطلقتها الماكينات قبل صدورهم … وعورة الطريق ولزوجة الطين الوحِل جعلا الظهور خدِرة من شدة التعب.

    المطر لم يتوقف منذ بداية الرحلة إلاّ قبل ساعات. كل ذلك لم يحد من عزيمة القوة في مواصلة السير وهزيمة العوائق والحواجز، رغم ذلك كان أقصى ما تجاوزته عند الفجر هو منطقة خور القنا. تملكت مجذوب لحظات يأس وكاد أن يعلن الاستسلام وهو يرى تيار الماء المندفع بقوة في مجرى الخور … تماسك في لحظة أخيرة وهو يتابع ما ستسفر عنه تصرفات مرافقيه الذين لهم دراية وخبرة بالطريق.

    بدا التيار صريعاً ومجذوب ينتظر مع أول العابرين بقية القوة التي لا تزال تحاول العبور من الضفة الأخرى مخترقة صلف وجبروت الماء المندفع. داخلته لحظتها قوة رفعت بصدره عالياً ليمتلئ هواءاً ثقيل مزدحم برطوبة لزجة حد الاختناق.

    منطقة عالية نسبياً تلك التي وقع عليها الاختيار لتكون ملجأً للقوة لتأخذ قسطها من الراحة … المياه لا تسكنها كما بقية البقع وان كانت لا تخلو من وحل، وتحفها الأشجار الضخمة. لا مجال لمزاولة الرؤية بغير استغفال تلك الأغصان الضخمة ليطل السماء … سماء كئيبة تبعث إلى الملل.

    تقدم مجذوب إلى الطريق مرة أخرى مراوغاً الوحل، يرافقه بعض أفراد القوة بحثاً عن ملامح تبعث إلى الارتياح. الطريق إلى الخلف تبدو عليه آثار رتل المركبات الجاثمة على الطريق مثيرة بين أطرافه فوضى … راسمة في عمقه جروحاً عميقة امتلأت أكثرها بماءٍ عكر. وعلى امتداد الطريق إلى الأمام لا يبدو شيء … الملامح ذائبة بين تشابك الحشائش وأغصان الأشجار الضخمة المتدلية على جنبات الطريق. لا أفق يمكن التطلع إليه.

    عاد مجذوب ومرافقوه إلى حيث البقية التي اتخذت مواقعها، في حين تقدم ناحيته أحدهم محاذراً الانزلاق … همس في أذنه:-
    - أنني اشتمّ رائحة غير مطمئنة أيها القائد.

    لم يكترث كثيراً لتلك المخاوف … إنها أول عملية تحت قيادته المباشرة ولابد من إظهار رباطة جأش وسط أفراد قوته. وسرعان ما انتحى جانباً معداً لنفسه مكانا ليريح جسده بعد إزاحة حزمة من العشب المبتل. الاكتراث مع ما يحمله جسده من ذرات تعب يشوش ذبذبات التفكير والتصرف. وهو متوسد فراشه البلاستيكي اخترقت نسمات مبللات بالندى فتحتي انفه … لا تزال بقايا رائحة من جسد ايفا عالقة بأطراف انفه.

    دوي انفجارٍ ثان جعله يجلس القرفصاء لتلتقي عيناه بعينين تحملان تقريعاً ولوماً وسخرية … تقول له صراحة "لقد حذرتك قبل قليل بأني اشتمّ رائحة … ألم اقل لك … ألم اقل … " أشاح ببصره بعيدا مستدعياً كل شجاعته وقدراته، تتنازعه حالة خوف والصدمة الأولى وضرورة التماسك. انهمرت زخات رصاص هذه المرة ليحتمي الجميع بالأرض بينما استلقى هو على اقرب ساتر يقيه منها. ثم انفجار آخر في الناحية الغربية لتخترق شظية ساق أحد الجنود ومع صوت صرخته انهمر الرصاص متواصلاً دون انقطاع … رغم كثافة الأشجار وجذوعها الضخمة لكنها تمر فوق رؤوسهم ليفقدوا السيطرة وامتلاك زمام الأمر.

    عند انطلاق الشرارة الأولى كان الرمل بكراً، يستجيب بسهولة للخطوط المرتسمة على ظهره، والولي ما كان ليحتاج لأكثر من رسم خطوط تتخللها نجمات وبضعة أحرف مبهمات. ليفتتح خط سير القوافل في الاتجاه المعاكس للتيار بعد قراءة الحظ.

    سارت جحافل الركب الأول سالكة مجرى النهر بعد إعداد مركبها الضخم وأخشابه تحنّ إلى موطنها. ومع سبعين حارساً مزودين ببنادق وذخائرها يقبع التاجر واثنان من مساعديه بين حمولات من الخرز الملون والأبيض وخواتم نحاسية وكثير من الحبوب وبضائع أخرى.

    ومن بين ما حملت المركب روح ليست كأرواح تلك المجاهل … انطلقت متقدمة الركب، مخترقة تيار المياه الذي لا يبدي مقاومة تذكر، تقود الدفة إلى منتهاها وكأنما مارد فك أسره. والنهر مذعن لاختراقه ولحبل الأجمة المزداد ضيقاً حول مجراه كلما ازداد حنين الشمس إلى معانقة الاستواء.

    بوصول المركب لمرساها، انطلقت الروح من عقالها إلى حيث الفضاء الرحب مستكشفة ما خلف الضفاف. وبنـزولهم إلى اليابسة يكتشف التاجر ومرافقيه انهم وسط عالم مليء بالتناقضات، ليفاجئهم عظم قادم من بين ثنايا الأشجار. فأل سيئ أنتفض له بعض أفراد الحرس المصاحب من ذوي الجذور المغروسة ما بين الغابة ومجرى النهر العرضي. آباؤهم هربوا زمن البيع المجاني بسبب العظم وسطوة الرماح الحادة … كانوا ضعفاء، أضعف من مجابهة ذلك الجبروت. وفي الليالي المقمرة كانت حكايات تروى بعيداً عن مسامع الآخرين .. كانوا يسرّون لأبنائهم بما واجهوه هم وأجدادهم في زمن غابر. ليعود الأبناء بصحبة التاجر في هذا المركب الضخم مسيطرة عليهم نشوة العودة، حاملين على أكتافهم بنادق لا قبل لسلاطين أجدادهم بها، ولا العظم بقادر على النفاذ وابطال مفعول رصاصها.

    يومها التقت روحان في فضاء بعيد … واستل التاجر مسبحة متخذاً له موقعاً في البسيطة وعلى رمل الضفاف بدأت الخطوط تبحث ما خلف الأكمة لتلمع شرارة حيث ملتقى الروحين. ومن لحي الأشجار خرج سيل سهام واهتزت أوراق الموز الضخمة التي تخفي بين ثناياها سلطان الأرض وقومه. لتبدأ الآلة عملها حين انطلاق الرصاص والتاجر محتمٍ بالماء بينما افترش حراسه الرمل. انهمر سيل من الدماء لتصنع مجرى في اتجاه النهر وتمتزج بمائه، واكتست السماء بلون احمر قانٍ.

    انقطع صوت الرصاص وتوقف انفجار القذائف بعد استعادة القوة لتوازنها واتخاذها لمواقع استطاعت من خلالها الرد بقوة على الهجوم المباغت، مستخدمة العربة المدرعة ومدفعها في إسكات اكثر المواقع الكثيفة النيران. وبرز مجذوب كقائد يدير معركة هذه المرة، الشيء الذي جعل دواخله مغتبطة.

    - لن يعودوا ثانية.
    قالها الرقيب الماحي ، اكبر أفراد القوة سناً، وهو ينفض عن وجهه بعض عوالق أعشاب متساقطة من أعلى.
    - وما أدراك انهم لن يعودوا يا عم الماحي؟
    - يا حضرة الضابط أنا أعيش داخل هذه الأحراش منذ تعييني، وعشت الحرب أيام كانت حرب وحتى توقفها منذ سنوات.
    قال له مجذوب متسائلاً:-
    - ولكن لماذا تعتقد أنها لن تستمر؟
    - ليس الآن على الأقل … إن الحرب الحقيقية لم يحن موعدها بعد.

    التململ الذي تنتفض له أرجاء المنطقة منذ زمن لا يراه سوى الذي يدرك أزقتها وحواريها ويتنفس من رئتها. خاصة وأن إعلان الهدنة لم يكن مقنعاً للبعض رغم استمراره لسنوات حتى الآن. العيون يطل منها التوجس والحذر وتحين الفرصة للإنقضاض … ليبدأ موت بطيء لبنود الهدنة وتصدر قرارات مثيرة للريبة زارعة بذرة يقين هذه المرة. ماجت الأرض بحركة تنقل كبيرة وجاءت الجيوش هذه المرة بسنابك خيلها في هدوء متسللة وسط غفلة الكثيرين. إنها الحرب المؤجلة .

    - إن علينا الاستعداد منذ الآن للمرحلة القادمة … فهؤلاء قوم لا يجدي معهم سوى الضرب وبعنف.
    هكذا بادر الرقيب الماحي قائده مجذوب بعد عودة المجموعة التي ذهبت لاستطلاع الموقف وتمشيط المنطقة بعد توقف القتال.
    وسأله مجذوب :-
    - وكيف كانت الحرب الأولى؟
    - لقد عشتها منذ تعييني بالجيش … قاتلت هؤلاء الأوباش إلى أن رضخوا .
    - ولكنهم ليسوا هم الذين رضخوا وانما الدولة أرادت الاستقرار بعد علمها بأن الحرب ليست هي الحل.
    نظر الماحي اليه في استغراب:-
    - يا جناب الضابط لقد بدءوا هم وأكملنا نحن.
    - الحقيقة تقول أنهم كانوا يدافعون عن حقوقهم.
    - ليست لهم أي حقوق، هذا ما كان يقال لنا … ثم إنهم كانوا يذبحون الناس في الشوارع وداخل بيوتهم.
    - ولكنكم لم ترحموهم أيضا.
    - يا جناب الضابط، كانت تأتينا أوامر وما علينا سوى التنفيذ … وخلاف ذلك من أين كانت تأتي الطائرات؟ لقد كان الأمر الأعلى هو حرقهم وحرق الغابات التي كانوا يحتمون بها.
    فجأة سأل مجذوب الرقيب الماحي:-
    - هل التقيت مرة بشخص يدعى زروق الحمراوي؟
    - زروق الحمراوي !! … ومن منّا لا يعرفه، ولكنه مختفٍ منذ زمن طويل … يقال إنه في منطقة ما بعيدة، يقيم وسط حشد من الخدم والحشم ويعيش كملك.

    في غمرة هذه المذابح كان زروق يروح ويجيء ولا تزال عالقة بذاكرة مجذوب كلماته حول الحرب. منذ انفصاله بعد رحلته الأولى عن أخيه رأى الطريق أمامه واضحاً بلا تعرجات مستفيداً من كل أخطاء أخيه التي إكتشفها أثناء الرحلة الأولى، خاصة بعد هروب جاد الرب حين بلوغهم منطقة قريبة من مسقط رأسه. واكتشافه لبشاعة تلك الحملات التي كانت تصاحب الحصول على العاج. كان قريباً من جاد الرب الذي يقاربه سناً وزادت الرحلة علاقتهما قوة. وعندما حكى له قصته مع أخيه وقع عليه الأمر صاعقاً، فبعد خروج القافلة من قرية (لقيتو) أخبره جاد الرب بأن أخيه اشتراه من الشيخ عطرون صديقه ومن يومها وهو ملتحق بفريق خدمته. إحساس الصدق الذي قابله به مجذوب دفعه إلى إبلاغه بقرار هروبه بعد اجتياز القافلة النهر.

    قال الأب سريليو في حالة من حالات صفائه لمجذوب وبينهما ايفا:-
    - دائماً ما كان زروق يردد بأنه ما حاربنا ولا راودته رغبة في ذلك، ويصر على أنّ الثوار يحاربون نظاماً لا يعبر عنه. كنّا ندرك ذلك فيه لذلك لاقى احترام الجميع هنا وحمايتهم.
    انفرجت أسارير ايفا ليكتسب صوتها نبرة غير محايدة:-
    - كان يحبني بشكل غريب … لم أكن وحدي تلك التي يحبها. غريب كان رأيه في ذلك، حين يجمع أطفال المنطقة في أيام الآحاد. لم يكن يجمع سوى أمثالنا في مثل هذا اليوم نحن الذين امتزجت دماؤنا ويقول لنا "بكم ستقف شلالات الدم هذه". ويحدثنا عن تلك الإبل التي تقطع الصحارى بحثاً عن ملاذ وانتماء … أعلمنا بأنهم هناك يتطلعون إلى أفق لا يملكون قرار في وسطه. كان يهز رأسه أسفاً والحسرة تتقاطر من عينيه وهو يتمني لو أن إبلهم هذه سبحت عكس التيار وبحثت عن جوهرها لوجدت ما هو ضائع ولما كان كل هذا التيه. كما يحدثنا عن الغابة الدائرة حول طرق لا تؤدي إلاّ إلى ذاتها. لم نكن نفهم كثيراً مما يقوله لكن عيناه تشعان ببريق يجذبنا جميعاً … يمتلكنا ولا يترك لنا مجالاً للفكاك منه.

    ظلت ايفا لا تعترف بأن الدم فقط هو الذي أنقذ عنقها في تلك الليلة المقمرة من الذبح، بعد تجاوزها عتبات الوعي الأولى واستشراف ذاكرتها لأفق اكثر بعداً من الضغينة والحقد. فهي لا تدري أين تغرس مشاعر حقدها ولا ضغينتها … لتتسرب داخل خلاياها أحاسيس محايدة. إمتلكها زروق وصارت تردد بأنه طالما أن تيار هذا النهر مختلطة داخله دماء أهل أبيها ودماء أهل أمها فهو دمها الحقيقي.

    - كان زروق ملاذي الوحيد في ذلك الوقت، بعد موت ابي … لكنه اختفى فجأة.
    قالت لمجذوب ذلك بعد اتساع إطارهما وبداية تلاشي زغب الدهشة .. ليعاتبها جدها في مودة متسائلة:-
    - هل قصرنا في حقك يا ايفا … أم تسيطر عليك دفق الدم القليل الجاري في شرايينك؟!

    تناثرت أحلام مجذوب باختراق حجاب السحر والغموض بعد اجتياز القوة التي يقودها للغابة الكثيفة في طريقهم إلى المحطة النهائية. السهل الذي بدا خلف الغابة، بعد قهر طرقاتها بصعوبة في ظل الوحل القائم، إمتد فراغاً داخل روحه المتوثبة إلى مساحات أكثر تعرجاً وضيقاً، لتزداد مساحات الحذر والتوجس وهم يتحركون في أرض شبه مكشوفة. وحين تراءت ملامح باهتة لأكواخ توحي بالحياة والحركة على عدسات منظاره توقف رتل المركبات.

    قال الرقيب الماحي لمجذوب همساً وبصوت مليء بضرورة إثبات جدوى الخبرة:-
    - علينا إتخاذ الحيطة فهذه القرى غالباً ما تكون مأوى للأوباش الذين هاجمونا.
    حاول مجذوب استفزازه:-
    - علينا اتخاذ الحيطة حتى بلوغ محطتنا النهائية أيها الرقيب.
    إبتلعها الماحي في سخرية وهو يقول:-
    - إذاً علينا قذفها أولاً قبل اجتيازها.
    نظر إليه مجذوب متسائلاً …
    - هذا ما نفعله عادة فهم لا أمان لهم، لا نستطيع التفريق بين الأهالي وبينهم، فقد يندسون وسطهم.
    قال له مجذوب في صرامة:-
    - التزم الصمت حتى تصدر إليك الأوامر.

    تحرك وسط دهشة أفراد قوته في اتجاه القرية بصحبة عشرة منهم. اتخذت المجموعة طريقاً ملتوياً لدخول القرية من جهتها الغربية زيادة في الحيطة والحذر، مستخدمة الأشجار التي تناثرت في الفضاء بينهم وبينها، والأعشاب المتطاولة، ومجاري المياه، غطاءاً لحركتها.

    عند بلوغ طرفها الغربي إلتفت إليه أحد الجنود قائلاً:-
    - إنها مسقط رأسي أيها القائد، سأذهب لأستطلع الأمر.
    - إذا لم تعد خلال ساعة سأتصرف.
                  

01-19-2006, 02:11 AM

أمير بابكر

تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فقاعات زمن التصحر - رواية (Re: أمير بابكر)

    الفصل الخامس

    ايفا تبحث عن جذر ضارب في الأعماق، صارت تلمحه داخل مجذوب منذ وطئت قدماه دار جدها، وصارت تتمسك به في حذر … لا ترغب في فقدانه. كانت تدرك بأنها قدره، خاصة بعد أن علمت صلته بزروق … كان يشبهه، قوياً فارع الطول … هل تتجاوز بعلاقتها به زروق ذلك الذي اصطفاها وزرع فيها روحاً جديدة افتقدتها منذ كانت طفلة ومع فقدانها لأبيها أمام ناظريها .

    عندما فاجأته بأنه يرغب في استعبادها كما فعل أهله من قبل بأجدادها قصدت إلى استفزازه وهي تضحك في قرارة نفسها، رغم إدراكها بأنه امتلكها. لا مفر لها من الاستعباد ولكنه استعباد ذو طعم خاص تستلذ به، فأهل أمها يرمقونها بتلك النظرة ويذهبون الى أنّ دمها ملوث بجرثومة طالما آذتهم، أما أهل أبيها فهي مدركة أنها من وجهة نظرهم إبنة السوداء. روحها معلقة في المنطقة الوسطى، لا جنة ترضى بها ولا لهيب النار.

    يوم ولادتها لم تصرخ ايفا وكأنما رئتيها ترفضان الهواء المتشبع بالرطوبة ورائحة البارود. يومان وأمها تعاني من اللبن الذي كاد أن يتخثر في ثدييها. رفضت أن يمتد فمها إلى ثديي أمها … هذا ما روته لها، شتمتها في ذاك اليوم دون سبب واضح وهي تذكرها بتلك الواقعة. ولكن ايفا تذكر أزيز الطائرات المحلقة في السماء ودوي انفجارات يصم الأذنين من شدته، كانوا قد قرروا بداية حرق الغابة بأهاليها. جاءتها أمها تبكي في صوت عالٍ مملوء حرقة بعد سماعها نبأ اغتيال شقيقها … ودخل خلفها جدها سريليو. كانت تتطلع إلى مداعبته والإرتماء في أحضانه كما اعتادت أن تفعل دوماً وتنتظر أن يقذف بها في الهواء مطلقاً آهته العميقة قائلاً " ليس بذنبك …". ولكنها لن تنسى تلك النظرة التي غمرها بها عندما دخل خلف أمها يجرجر حزناً سرعان ما اختفى من عينيه لحظة أن إلتقت عيونهما. نظرة مليئة بما لم تفهمه إلاّّ قريباً بعد تصاعد وعيها عتبات الزمن. لكنه لم يقل شيئاً … مجرد أن أشاح ببصره عنها بصفق على الأرض بين أسنان مصطكة من غضب ما.

    لم يكن أبوها معني بها تلك الأيام … لا يعود سوى آخر اليوم دون أن يقترب منها مداعباً، يكتفي بالنظر إليها. نظرات مليئة بالندم، كانت تحسها … تخترق أعماقها ولا تمنعها روح الخمس سنوات من النفاذ.

    يوم بلغ الجاك مولد ايفا نهار ذاك اليوم، تمالك أعصابه بالكاد … إضطر إلى دفع "البشارة" إلى حامل النبأ وسط مطالبة وصيحات صحابه من التجار، مغلقاً متجره تحت إصرارهم ليقف إلى جوار زوجته في مثل هذا اليوم. بدخوله عليها رسم إبتسامة على وجهه مدارياً ما يعتريه من تفاعلات داخلية. نظر إلى المولودة وقرر إطلاق اسم ايفا عليها … لا يدري لماذا، ولكنه اسم إنطلق من داخله فور رؤيتها.

    ظهور زروق على مسرح حياة ايفا قلب أشياء كثيرة رأساً على عقب، وهي بعد تخطو ببطء على عتبات سلم الوعي … لم يتجاوز بها العمر السادسة. بعدها استقرت في أعماقها رائحة أبيها والتصقت بأمها وبينهما زروق يقوي ذاك الالتصاق ويزيده تماسكاُ، حتى جدها صار أكثر حيوية وابتساماً من ذي قبل.

    دخل زروق قلب سريليو من بوابة الجاك رغم علاقتهما الفاترة منذ اكتشافه حمل إبنته وزواجه منها. لكنها تلك الهالة الغير مرئية المحيطة بزروق … المخترقة لمفاتيح الدواخل.

    قال الأب سريليو لمجذوب:-
    - لقد أسرني زروق منذ اللحظات الأولى … ينبعث منه شيء غريب من غير الممكن تصوره، ولا تستطيع مقاومته … شيء أشبه بحلم خرافي تعشق الدوران داخل متاهاته لينقطع فجأة دون أن تنقطع أنت عن الدوران.

    وهو ما انتاب ايفا وسيطر عليها لحظة أن رأت مجذوب أول مرة بصحبة جدها وهما يخترقان بوابة الدار. عاد إليها الالتصاق والتماسك برغم أنها بدت مسلوبة الإرادة … مستعبدة بلذة، وحالة من الخفقان والتحليق تجاوزت بها حالات الركون لقدر ما، إلى فوضى ارتدت بها إلى عوالم لطالما صنعتها على رمال الضفاف. لكنها عندما قبلت دعوته للخروج معها أول مرة لم ترتبك بقدر ما انتابتها نوازع توجس رغماً عنها، قافزة أمام ناظريها تلك النظرات التي تكسو عيني أبيها واخترقت حواجز طفولتها، ولعنات أمها التي سرعان ما استسلمت لقدرها لتتعايش مع الجاك دون مرارة.

    عند إنجاز الرحلة الأولى كان زروق قد امتلك مفاتيح الأمر بين يديه، مدركاً مأساة الدم الممزوج بماء النهر، الدم الملوث بحبيبات الرمل ونخاع العظم. لذلك ما راودته نفسه على ارتكاب " حماقة ليس هذا بزمانها "، رغم إيمانه بأن الحل يكمن في التركيبة السحرية لهذا المزيج، وهو ما كان يردده وسط استغراب سريليو المندهش لأفكاره الغير متسقة مع ما يجري أمامه. وبرغم نظرة سريليو إلى الجاك في ذاك الوقت إلاّ انه همس في أذن زروق بجدية ورغبة "لماذا لا تتزوج يا صديقي؟؟". ضحك زروق وقتها مكتفياً بالنظر إليه بعينين مليئتين بالدهشة والغموض، وقذف بايفا الواقفة أمامه في الهواء ليلتقطها قبل سقوطها على الأرض ويأخذها في أحضانه.

    ومن بين حنايا ذاك الحضن تسللت حزمة إطمئنان داخل روح ايفا … ولكنه إطمئنان غير متكامل بل يغمره توتر وقلق، فالمدينة هي المدينة بخليط أناسها غير المتوازن وتناقضاتها تنسج خيوطاً أكثر تشابكاً لتزيد من تعقيد الأمور.

    انتفض قلب ايفا يوم وقوفها أمام مدير المدرسة بجوار أمها … وقفت تتراقص فرحاً ببداية عهد جديد وضعت أولى خطواتها في طريقه. نظر إليها ملياً وهو يهز رأسه والتفت إلى أمها قائلاً:-
    - سيدة ميري تدركين الموقف ولكن للأب سريليو مكانته الخاصة.
    قالت ميري في أدب:-
    - شكراً.
    - ستواجه بعض المعاناة في الإرسالية أرجو أن تتمكن من تجاوزها سريعاً.
    - ولكنك موجود وستساعدها دون شك.
    - نعم أنا موجود ولكنه عالم أطفال … سيدتي.

    وانطلقت ايفا داخل رواق المدرسة الإرسالية في يومها الأول متدفقة حيوية، تحلق بها أجنحة الاستكشاف في فضاءات غريبة. لم تلحظ ذاك النفور الذي اكتست به عيون أقرانها في يومها الأول من فرط سعادتها ودهشتها باختراق عوالم مجهولة تظللها روح طفولتها. أخذتها نشوة فرحتها وانتشلتها من الحواري حالمة بعالم مختلف بعيداً عنها. لا تدري لماذا يرفضونها هناك، ولكنها لطالما انتابها إحساس بالضيق وهي تحاول التسلل بحذر إلى عالم طفولتها دون جدوى، مطاردة لها لفظة بنت المندكورو حرمتها من اللعب وسط أطفال عائلة أمها وعموم أطفال أعلى النهر. بينما يتلاعب بها أطفال أهل أبيها دون اكتراث كبير لوجودها.

    كانوا ثلاثة أطفال فقط من الحي المجاور مختلطة دماءهم بماء النهر يلعبون معها في حيوية ومودة، ومجموعات كبيرة منهم تعرفت عليهم برفقة زروق الذي يحتضنهم.

    جدها الأب سريليو دائماً ما يداعبه مداعبة لاذعة :
    - هل ترغب في التكفير عن سوءات أجدادك يا صديقي؟!

    لم يكن التكفير عن سوءات أجداده فقط هو القائد لخطواته البادية الغرابة وسط هذا العالم المتناقضة أشياؤه. هناك شيء ما دائما ما يذكره بجاد الرب الراغب في الحرية وكاد يموت أثناء محاولته الهرب من العبودية بعد أن لاحت له قرية أهله من بعيد، كان جاد الرب يعرف ملامح طريقها حتى في الظلمة. مساعدة زروق له والقافلة تخترق عتمة تلك الغابة، رغم القمر المتربع عرش السماء، هي التي حالت دونه ورجال سلمان. إنها تلك الروح الممتلئة حرية هي التي تقوده، الروح التائقة الى رؤية الأشياء على طبيعتها.

    فجعت ايفا عندما ترامى إلى مسامعها " بنت المندكورو " صباح اليوم التالي وهي منطلقة بمرحها الملازم لها منذ البارحة، ولم يفارقها حتى في أحلامها. وقتها فقط نزعت طفولتها عن روحها ونفذت داخلها روح أخرى ولكنها لا تحمل حقداً. هذا ما زرعه زروق بنجاح داخلها قبل أن تصيبها جرثومة حقد. سور المدرسة ومبانيها صارت كما الحواري، لحظتها قررت البقاء فيه بإصرار لا يناسب طفولتها.

    طقس الفجيعة رمى بأطرافه في ذات تاريخ ولادة أول طفل تجري في دمه مياه النهر. تجربة لها أبعادها يوم أُعلن أنَّ أشول حامل من محمود، جاء الإعلان بعد أن برزت بطنها منبئة عن جنين داخل رحمها. كان ذلك أثناء هجرة القوافل الأولى بعد تشكل مراكز التجارة، الشبيهة بمعسكرات الجيوش، التي أقامها التجار. وفي غفلة من الأهالي تسلل التجار ومساعدوهم إلى خلف الأسرَّة بعد انقطاعهم الطويل عن زوجاتهم بسبب الحروب والأمطار. واشترى التجار، إلى جانب سن الفيل وريش النعام، الصبية للعمل وإعادة البيع والفتيات، بل كان بعض السلاطين يهدون بناتهن للتجار الذين أخضعوهم بقوة السلاح والمال وذلك الخرز الملون وخواتم النحاس الصفراء .

    ونشر طقس الفجيعة ظلالاً أكثر كثافة بعد غزو رحم النهر، وبواخر تشق طريقها دون مقاومة. قوة الماكينات لا تقاوم والتيار واهن لا يقوى على شيء. وبسط القادمون الجدد أذرعهم على العمق والأطراف ليكون نصيب أعلى النهر تلك الأسلاك الشائكة. يومها أعلن حمل أشول أخرى من محمود آخر بعد مائة عام ولكن هذه المرة تجيء الأمور بشكل مختلف. المفتش ذو الشعر الأشقر امتطى فرسه الأبيض يتقدمه شاربه الاسكتلندي الأصل، مقتحماً دار أهل أشول مهدداً بعدم ولادة الطفل، واستدعي محمود إلى مركز الشرطة ليحقق معه المفتش بنفسه. وفي يوم ماطر بعد ثلاثة أيام غادر محمود محكوماً عليه بالسجن لمدة عام، عليه قضاءه أسفل النهر بين أهله. ليس هذا فقط بل أرفق المفتش تقريراً إلى رؤسائه ليصدر قراراً بالعمل بسياسة الأسلاك الشائكة ويفصل أهل أسفل النهر من أعلاه.

    لم يرضِ الحكم أهل أشول فقط ولكنه لاقى ارتياحاً أسفل النهر، في دار أهل محمود الغاضبون على فعلته. ولكن قرار سياسة الأسلاك الشائكة الذي صاحب الحكم أقلق التجار وأصحاب المصالح هناك.

    ولد الطفل رغماً عن محاولات إسقاطه تحت تهديد المفتش … ولد بملامح مميزة متشبعة برائحة رطوبة الاستواء وطعم الرمل. يوم ولادته أطلقت عليه أمه اسم فْرِدْ ليبتسم المفتش مستهزئاً مطالباً بتعميده بعد أربعين يوماً، وشعر باهتزاز كرسيه وهو يتطلع إلى الطفل الصارخ في وجهه.

    الفصل حينها خريف … ارتجف النهر إلى حد الفيضان ليلقي بألسنته على الشاطئ ويتجاوزه لأعماق المدينة. ويد مالك العظم مرتجَّة مصابة بالهلع، وتلك النظرة الغير معتادة من طفل يوم ولادته … فسّرها بالروح الشريرة. وضارب الرمل اختلطت عليه الخطوط، وتداخلت لتذوب في غياهب الاضطراب.

    أشار سريليو بإبهامه منبهاً مجذوب إلى فْرِدْ - الفارع الطول مع انحناءة بادية للعيان - وهو يقول:
    - هذا هو الشخص الذي تسبب في طردكم وإقامة الأسلاك الشائكة التي حفظتنا من حربكم طويلاً، كان من أعز أصدقاء عمك زروق.
    - ولكن ألا تعتقد أن الحرب كان سببها الرئيسي هو تلك الأسلاك الشائكة؟!
    - معك حق هو ما ردده زروق أيضاً … ثم مستطرداً … أنت تشبهه إلى حد بعيد في كل شيء.
    - تدري يا عم …
    ومستدركاً:
    - هل تسمح لي بمخاطبتك بيا عم سريليو؟!
    - يسعدني ذلك … وضاحكاً بلا استفزاز … يا ابني.
    - أتدري! ما دفعني للحماس لنقلي إلى أعلى النهر هو عمي زروق، وما دفعني لقبول المأمورية الأخيرة دون تردد هو رغبتي في لقائه بعد سماعي عن قصص اقرب للخرافة عنه من أشخاص عدة. ولكن كل محاولاتي باءت بالفشل وصارت أي محاولة أخرى بلا جدوى.
    أطلق الأب سريليو زفرة من أعماقه وفي عينيه بعض من أسى:
    - لن تجده يا مجذوب، لقد ذاب.
    - هل تعني بأنه مات؟
    - لا … لا لم يمت ولكنه ذاب في هذا العالم. تستطيع رؤيته في جميع مجاهل الغابة وفي السماء ليلاً ونهارا بسحبها وأمطارها وصفاءها وداخل أرواح أطفالنا وهذا ما يقلق أهل أعلى النهر الآن.
    - هذه أسطورة أخرى يا عم سريليو.
    - ليست أسطورة ولكن لعلك لمست هذا داخل روح ايفا، ليس فقط ايفا ولكن كل من عاشرهم زروق هنا، من أعلى النهر أو من أسفله ، أطفال ورجال ونساء. وأقول لك شيئاً، أيام الحرب الأولى كان الثوار يشاورونه ويعتبرون أن فيه دمهم وكذلك رجال الحكومة. هل تعلم أنه في قمة زمن المذابح كان يسير ما بين الغابة والمدينة وأحياناً يغادر دون أن يدري أحد إلى اسفل النهر وأخرى إلى أعالي أعلى النهر؟! هو بالنسبة للجانبين شك كبير وثقة لا يستغنون عنها، لذلك كان يسير على حد السكين المشرعة دوماً وتحت أزيز الرصاص دون خوف من إصابة طائشة.
    - هل تقصد تشويقي واستفزاز رغبتي في لقائه؟
    - لا، ولكن هذه الحقيقة. وكما قلت لك أنت تشبهه في كل شيء لكنك في النهاية عسكري عليك الالتزام بالأوامر إذا ما نشبت الحرب من جديد وإلاّ ستعاني كثيراً.

    انطلق مجذوب بحثاً عن بعد أكثر عمقاً في عيني ايفا … لا يدري أين يكمن سر عمه؟! ولكن رائحته فائحة من دواخلها، لا يكاد يمسك بها، فهي ملتصقة بها. كلما استنشق إبطها اشتم رائحة زروق، فصار كثيراً ما يغرق فيه.

    ولكنها يوم استقبلته بعد عودته من أول مأمورية له، رآها نافذة مشرعة على عالمها دون سواه أو هو عالم زروق … وعيناها منطلقتان تساؤلاً حول جدوى الحرب. كانت ايفا تدهشه وهي تقاوم قهرها، بل تصهره إلى درجة الاحتراق بين يديه. لا ليست حرب هذه، هي قذارة تفوح رائحتها … رائحة أشبه بتلك الفائحة من المستنقعات

    لطالما صرخت في وجهه.
    - أنا المعنية بتلك الحرب … ليس أبي المذبوح تحت ضوء القمر ولا أمي الميتة في ملكوت أعالي النهر، نعم أنا هي المعنية. تريدون قتلي لأن دمي مخلوط بماء النهر، لكنكم لا تدركون أن في هذا الدم يكمن الخلود. أنت تريد قتلي، جدي يريد قتلي، أمي تريد قتلي وحتى أبي المذبوح يريد قتلي، قالها بعينيه والسكين مشرعة على عنقه. لم أقتله لكنه يحملني ذنب قتله. لكنكم جميعاً لن تنالوا هذا … لن تتمكنوا من ذلك، فالحقيقة تجاوزت كل قدراتكم على قلب الواقع. كلكم إلى زوال وستبقى الحقيقة الخالدة رغم مرارتها في حلوقكم، تذوقها مريرٌ بطعم الحنظل. فقط زروق هو من يدرك السر الأعظم، لذلك هو خالد فيكم وفيهم وحتى فينا نحن الموعودون. لماذا تقاتل أهل أمي؟ ولماذا هم يقاتلونكم؟ لا تدري طبعاً، أو هي أسباب مبهمة للطرفين ولكن سيستمر القتال. سيستمر إذا ما بقي الدم المخلوط بماء النهر هو الأضعف وسينتهي بقوته وسيطرته.
                  

01-19-2006, 04:17 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36905

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فقاعات زمن التصحر - رواية (Re: أمير بابكر)

    الاخ العزيز امير بابكر
    سلام
    قرات هذه الرواية في موقع مدرارت الزمان والذى اشكر فيه الاخ عادل عبدالعاطي كثيرا
    وواصل انسيابك...ودعنا نحتفل بالثقافة السودانية بطريقتنا الخاصة
                  

01-19-2006, 05:59 AM

أمير بابكر

تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فقاعات زمن التصحر - رواية (Re: adil amin)

    لك كل التقدير الأخ عادل أمين وشكراً على المرور
                  

01-21-2006, 02:00 AM

أمير بابكر

تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فقاعات زمن التصحر - رواية (Re: أمير بابكر)

    الفصل السادس

    ستة أعوام انقضت منذ مغادرة مجذوب أعالي النهر بطائرة عسكرية بعد قضاء أكثر من أربع سنوات .. غادر إلى حيث تدار خيوط اللعبة. لا تزال رائحة ذاك اليوم عالقة في ذهنه … رائحته المختلطة برائحة ايفا ". هي شخص يرغمك على المضي معه إلى آخر المشوار " رددها لنفسه ولآخرين. ولكنه جبان، متردد مما يفارقه وعمه زروق … لا يستطيع تجاوز الخطوط الحمراء ولا تسيطر عليه جرأة زروق.

    - لن تغيب طويلاً …
    قالتها له ايفا بلسان متنازع بين الشك واليقين. بدت حينها محفوفة بغلالة حزن وغيمة تزيد من ضبابية موقف مجذوب. وكانت تلحظ ذاك التردد الذي اعترى مجذوب في سنته الأخيرة قبل مغادرته إلى أهله. ولكنها لا تدع هواجسها تراوح مكانها فسرعان ما تقذف بها خارج محيط علاقتهما، ويكتسي عينيها الذهبيتين موج متدفق من الإصرار.

    انقطاع أخبار ايفا عنه في السنتين الأخيرتين أثار بعض القلق داخله، وكان دخان الحرب قد ملأ سماء أعالي النهر وصار صوت المدافع قريباً جداً. كانت أخبارها تصله دون انقطاع رغم أنها، وبعد يأسها من عودته، ما عادت تكتب إليه. في آخر رسائلها قالت إنها حامل، كانت تلك الرسالة بعد ثلاثة أشهر من مغادرته. اكتشافها لهذا الأمر أصابها وجدها الأب سريليو بالذهول. في يوم غائم شعرت ايفا بدوار فظيع وكادت أمعاؤها تخرج من فمها .. نظرت ميري إلى أبيها وضحكت في مرارة وهستيريا، ومن بين مرارتها والهستريا قالت للأب سريليو:
    - ايفا حامل.

    وقع النبأ على مجذوب كالصاعقة، ودواخله المرتجفة أثناء قراءته الرسالة دفعته إلى اتخاذ قرار بالسفر فوراً، ولكن تساؤل كبير ملأ مساحات الفراغ ... لكي يفعل ماذا؟! عوالم متداخلة بارزة على السطح الآن وهو المقيد وسط خطوطه الحمراء، وبدأت قوافل في المسير مجتاحة كل الخديعة. مولود آخر يزيد من طقس الفجيعة بدلاً من إخماد نيرانها كما يشتهي زروق. وما عاد العظم وحده في مجابهة الرمل بل اختلط بالنبيذ .. ذاك النبيذ الساري منذ مولود الأسلاك الشائكة يأتي مفعولاً أقوى الآن. وما عادت القوافل هي القوافل، ولا لصهيل الخيل ذات الصدى المرعب بعد أن صار الرعب اقرب للتوازن منذ اندلاع الحرب الأولى، وبعد أن أطلقت ايفا على مولودها اسم فريد.

    تتبع مجذوب أنباء ايفا في السنوات الأولى بعد انقطاع رسائلها عبر بعض زملائه … وفريد يكبر في مخيلته. لم تكن طائرة تحط رحالها إلاّ وتحمل له أنباء عن إبنه فريد وايفا إلى أن فجع بنبأ وفاة الأب سريليو قبل سنتين وانقطاع ما يتعلق بإبنه وايفا.

    ست سنوات مرت وها هو مجذوب منفتح على أعالي النهر وأبواب الطائرة مشرعة بعد هبوطها إيذاناً بمغادرة الجميع. المدينة مكتسية خضرة، ولكنها هذه المرة خضرة باهتة رغم كثافتها بعد امتلاء ساحات المدينة بالزي العسكري. الحرب قد دقت طبولها من جديد وبضراوة ولكن الموت غيّب الأب سريليو ولم يحالفه الحظ لتأكيد صدق نبوءة الشيب الذي خط رأسه. واختفت ايفا تاركة أمها تعاني أكثر من فقد وصريعة للتصحر في ما تبقى من عمر لها.

    عينا مجذوب القلقتان تبحثان وسط كل شيء وأنفه يحاول استنشاق الهواء، ربما لا تزال رائحة ايفا عالقة فيه وقد تدله إلى طريقها. لكن لا شيء سوى الزي العسكري الذي يملأ ساحة المطار. هنا تبدو الحرب واضحة للعيان وليس كما يتصورها الجالس على كرسيه أسفل النهر، هناك لا يسمع صوتها سوى شذرات تأتي عبر الراديو ولا يسمع لها دويّ سوى في بعض المآتم المنتشرة هنا وهناك. أما هنا فهي حقيقة تسير على قدميها قاصفة بكل شيء مخلفة ضغينة أبعد عمقاً. وجذر الضوء، الراسخ في الأرض والممنوع من شق القشرة بفعل غباء الحارث والمحراث، يتململ داخل سجنه ولكنه مملوء بحياة لا تعرف الفناء.

    ولكن أين ايفا؟! ولا حتى رائحتها العالقة بالذهن طوال الست سنوات راضية بالحضور الآن، ضائعة بين تردده ودخان الحرب المتصاعد الذي يملأ سماء الأشياء. وايفا ضائعة لكن عيناها تطلان عليه من كل الزوايا. لم تمت، فهي الحياة، فقط تلاشى التصاقها وذابت في عوالمها التي تكره التردد وتلك الخطوط الحمراء ليفقد مجذوب عوامل الاستشعار.

    قادته قدماه إلى شاطئ النهر حيث الشجرة الشاهدة على بداية تشكل الإطار الذي جمعهما. وجدها وقد مالت قليلاً وأوراقها اليانعة بادية في الانحسار عن الأغصان، ليست بفعل تبدل الفصول وقوانينها … هي الشيخوخة أو ربما التصحر الذي يضرب أسفل النهر امتدت أياديه إليها. وتلك النسمات ما عادت ذات ندىً يخترق الجفاف، وطقس النهر مليء بدماء ودخان جاف. طقس باعث للضجر والقلق والخوف، لا يراه سوى من عانى مرحلة الترقب والحذر. " ليتك لا تزال بيننا أيها الأب الحكيم "، نطقها مجذوب بأسىً محايد منطلقاً إلى دار الأب سريليو أملاً في أثر لإيفا.

    المدينة ساكنة يكتنفها غموض برغم اتساع عينيها المليئتين بالحقد، شوارعها شبه مقفرة يغطيها الزي الأخضر الباهت … تلك الخضرة لا تنبعث منها حياة وتغطي على تلك الأشجار الضخمة الممتدة على طول الطرقات بعد أن قتلت فيها الروح والندى. السوق يقاوم الحقيقة وينفذ التجار إلى الحرب من زاوية التجارة ... وهذه المرة لا يستسلمون أبداً، ففى ظل الحرب تركبهم روح القوافل الأولى يحميهم الزي العسكري حين قرر بعض ضباط الجيش استغلاله. "لن نخسر مرتين … نحن هنا معرضون للموت وأبناؤنا سيموتون ولا يجدون من يهتم بهم، لماذا لا نستفيد من الفرصة نحن أيضاً". انتفض مجذوب لهذه العبارات الجديدة التي تطرق أذنه. إنه زمن الاختلال الحقيقي خاصة وأن الحرب صارت تنحو في اتجاهات أخرى وأصبح الدمار مهنة للكسب. "ترى كيف يفكر زروق فيما يحدث الآن؟!" ابتسم في جفاف وهو يذكره بعد زمن.

    - سيدة ميري.
    رفعت عينيها ببطء وتعب. جسدها آخذ في التآكل لكنها تقاوم بشراسة بينما تهزمها وحدتها في كثير من الأحيان.
    - ماذا تريد؟
    - سيدة ميري …
    - ماذا تريد؟
    - دليني على أي أثر.

    ضحكت ميري … ضحكة خارجة من عمق آخر ، ارتج لها جسدها المتآكل . ضحكت دون أن ترفع بصرها عنه ، منذ وفاة الأب سريليو وعينيها يبدو عليهما التوتر والانحسار وانتحر داخلهما التحدي .

    - لقد قتلته … قتلت كل أحلامه.
    - وماذا عن ايفا؟
    - بعد مغادرتك، رأيت في أبي حسرة لم أشهدها منذ اختفاء زروق. لم تكن ايفا هي السبب، بل ذاك الأمل العالق في نفسه وظل يداعبهما هو وزروق وجئت أنت لتحييه مرة أخرى. قتله اليأس وأنت السبب.

    قال لها الأب سريليو وهو على فراش المرض إنّ مجذوب أضعف من أن يأتي." إنها رؤية الموت، وهي صافية صادقة ولا تخطئ أبداً". كان الأب سريليو مدركاً لحقيقة الأزمة ويرى بوضوح مخارجها بعد التقائه بزروق، مستغلاً كل قدراته من أجل بلوغها. الكنيسة التي يرعاها وضعت تحت خدمة ما يصلان إليه من رؤى، إلى درجة أزعجت كل الأطراف. لكنهما زرعا بعض من بذور داخل أراض جافة ليختفي بعدها زروق. لكن الأب سريليو واثق من أنّ اختفاء زروق غير ضار، بل سيزرع أراض أخرى بالآمال، وإنما حسرته عليه جاءت من عمق الرابط وقوته.

    - لكنك جبان يا مجذوب ولا تحمل داخلك قدرة على تحقيق كل تلك الأحلام. إن تعلق والدي بك تعلق اليائس لا أكثر، سرعان ما اكتشفه ولكنه تسبب في موته.

    كتبت له ايفا في آخر خطاب لها أنها حامل طالبة منه الحضور. خطاب يشع بالحياة والأمل ويحمل بين طياته توجساً وقلق … قررت ألاّ تكتب له مرة أخرى في انتظار حضوره. الجنين ينمو ويكبر وتتضاءل الآمال في مجذوب ويبدأ تلاشي الحلم، وبموت الأب سريليو استلقت آمال ايفا على فراش الاحتضار. لكنها تشبثت بلقاء زروق … إنه الأمل المتبقي في فضاءاتها التي تشبعت يأساً. قال الأب سريليو لايفا وكأنما هو مدرك لاقتراب موته:-
    - لا يساورني الشك في وجوده، لكني لا اعلم أين طريقه ولكنك حتماً ستجدينه. ابحثي عنه ولا تدعي اليأس يسيطر عليك. إنه إنسان مليء بالخير.

    بعد عامين من وفاته وفي يومٍ غائم حملت ايفا إبنها ومتاع لا يثقل عليها … قلبها يحدثها بأنها ستلتقي زروق في مكان ما مثلما قال لها جدها. لن تستسلم هكذا يقول لها دائماً … ستعثر عليه. إن تعاليمه الراسخة في أعماقها ترفض الهزيمة، زادها اليأس عزيمة على تجاوز مصير مبهم يلوح في الأفق.

    انطلق مجذوب لا يلوي على شيء … القيء يكاد يسد حلقه وضيق يملأ كل المساحات. شعور بالانفجار تملكه ورغبة في تحطيم كل ما يراه. كاد مقود العربة أن ينزلق من بين يديه لولا لحظة انتباه فاجأته. كل حواسه مركزة الآن حول رؤية إبنه فريد وايفا … ساوره شك كبير في ذوبانهما مثلما ذاب عمه زروق. تزايد يأسه عند وصوله مبنى قيادة المنطقة وهو يستدرك الموقف وسط أجواء الحرب الطاغية على كل شيء … لا بد من السيطرة على النفس، إن رتبته لا تسمح له بالظهور ضعيفاً أمام مرءوسيه، ولا أمام قائده المباشر.

    الحرب ماضية بلا هوادة، ويصطلي بجحيمها الجميع دون أن تلوح في الأفق بارقة أمل في توقفها. وعند دوي المدافع تصمت بقية الأشياء ولا تجد من يسمعها، حتى فريد وايفا تلاشيا خلف ذاكرة مجذوب بعد عامين من نقله إلى منطقة مرة أخرى أعالي النهر. واختلّت الموازين بعد نجاح الثوار في فرض واقع جديد بانتصاراتهم العديدة التي حققوها، وتراجع القوات الحكومية إلى مشارف المدن .

    بين المدِّ والجذر وانتصارات هنا وهزائم هناك، كان الخاسر هو الإنسان. ومن جوف تلك المأساة تنطلق آمال لدى البعض، ربما هذه الدماء تروي شجرة الاستقرار يوماً ما. التوق إلى الأمان هاجس يمتلك الجميع، وسط تساؤلات بجدوى ما يجري. لكنهم لا يريدونها أن تتوقف … دواخلهم مسيطرة عليها تلك الأرواح مالكة اللعنة الأبدية. تداهمهم كلما ركنوا للسكينة أو داعبتهم أمانيهم بتحقيق أحلامهم. تتصاعد لحظتها تلك الأرواح باسطة ظلها، متمردة على قمقمها ليبدأ الرمل والعظم فعلهما خلف ظهورهم .

    قال مجذوب لقائده:-
    - لا مبرر لما يحدث سيادة القائد.
    ابتسم في وجهه وعيناه تلمعان ببريق خاطف ثم مال إليه قائلاً:-
    - رغم بلوغك هذه الرتبة لكنك متردد دائماً …
    ابتلعها مجذوب:-
    - سأنفذ الأوامر سيادة القائد لكن هذه مجرد وجهة نظر.
    - دع وجهات النظر للسياسيين فهم أدرى بهذا اللغط، ما علينا سوى التنفيذ.
    - ولكنهم يرموننا في جحيم لا مبرر له، ودائماً ما يسعوا إلى توريطنا في ذلك.
    - سيادة المقدم … لقد استدعيتك لتبليغك بأمر إنذاري. بعد تنفيذ المهمة سنجد متسعاً من الوقت للحديث.
    - وما هي الأوامر؟
    - ستصاحب القوة المتجهة إلى الجبل بقيادة الملازم عثمان، سيكون تحت إمرتك. وعليك الوقوف على التحضيرات اللازمة لزيارة هيئة الأركان إلى المنطقة. لا بد من التأمين اللازم للوفد في تلك المنطقة وأنت مطلع على كل ما يدور هناك.

    ما أن استلقى مجذوب بعد يومٍ مضنٍ من متابعة التحضير للمهمة المكلف بها، حتى جالت في ذاكرته تلك الليلة التي سبقت انطلاقه في أول مهمة عسكرية له. تلك الليلة انتهكها المطر التي وايفا بين أحضانه تتلوى كأفعى محمومة باحثة عن مزيد من الدفء. تنفس بعمق وزفرة حارقة منطلقة ابتلعتها رطوبة الغرفة. ولكن إحساس غريب أطل برأسه وهو مستسلم لنصف إغفاءة عندما أطلت جدته، تحملها عيناها الغائرتان، ترمقه بنظرتها المخيفة حينما كان يداعبها في قسوة.

    لا مجال للتردد الآن سينفذ المهمة كما هو مخطط لها وسيكون في استقبال الوفد في منطقة الجبل. وهو تائه بين كل هذه الهواجس استغرق في نوم عميق دون أن يخلع عنه زيه العسكري.




    انتهت
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de