|
دمعة على الماغوط عصام عيسى رجب
|
هكذا كان حزن الأديب الصديق الأستاذ عصام عيسى رجب... ونعتذر عن صعوبة رفع الموضوع في مرات سابقة
================
ها أنتَ تطيرُ إلى أُمِّك .... أيُّها العُصفور
(1)
أتخيلُّك الآن، وحدك من تملأُ الضحكة وجهه الكبير .... ترثى لا شك لحزننا على رحيلك، و لا نملك سوى أن نحزنَ مهما ..... لكنك الآن الآن تمسك بيديها .... هنا فقط تبكي كما لم تبكِ من قبل .... تبكي، ولكن فرحاً هذي المرة، أنت يا من صرخت منذ ذلك الزمان الـبعيد "الفرح ليس مهنتي" .... تصالح الفرح الآن إذاً، وكيف لا، ألستَ في حضرة سَنيَّتك الصالحة ....؟! ماذا تراك تفعل سوى أن تمسك بيديها الغيمتين وتغلبك القصيدة .... أجل، هذي المرة فقط تغلبك القصيدة، لتكتُبَك يداها الغيمتان ....
(2)
كانت الساعةُ تجاوزت التاسعة والنصف مساءًَ بقليل .... وأنا أقلبُ "المورد القريب" أبحثُ عن معنىً لكلمةٍ إنجليزية ما سألني عنها إبني ذو السنوات الست، حين قرأتَ مذيعة الأخبار: رحل .... سقط "المورد" من يدي أو سقط قلبي بين يدي، ولفّني الحزن .... كنت أتداعى وأجاهد ألملِمُ نفسي، حتى لا يراني ولدي وأنا أتداعى هكذا و يسألني السؤال الذي يفجعُ أكثر وأكثر / ما بك يا أبي ..؟! هل أقول له: مات محمد الماغوط .....
(3)
أمس ليلاً نظرت إلى رفِّ الكتب، كان أدونيس كعادتِه رابضاً هناك .... تفصحتُ معه كتابه "موسيقى الحوت الأزرق"، ثم شرعت أقرأ الفصل الذي يحملُ الكتابُ عنوانه، كان أدونيس يتكلم عن "قصيدة النثر" وذكر شكلاً آخر (نثراً – شعراً كما أسماه)، مثلما ذكر ما أطلق عليه "قصيدة الوزن"، وقال فيما قال" أحبُّ أن أشير إلى كتابات نثرية – شعرية تأخذ أهميتها من "أصوات" كتّابها، ومن "حضورهم" الفني المتميّز. أذكرُ تمثيلاً لا حصراً (وفيما عدا الرَّعيل الأول الباز الذي لا يحتاج إلى التذكير به، مُستثنياً مع ذلك الشاعرة سَنيَّة صالح، نظراً لغيابها الباكر، ولخصوصيّتها الفريدة المسكوت عنها ..." ولا شك أن أدونيس يشير إليك بأصابعه العشر في هذا "الرعيل الأول البارز"، وهل يجوز الحديث عن "قصيدة النثر"، وعن الشعر وحبر الكتابة إلا بذكرك .... هل تأملت ما قاله أدونيس عن "الخصوصية الفريدة المسكوت عنها" لسَنيَّتك الصالحة ...؟!
(4)
لم أشأ أن أنادي على أحد من أصدقائي الشعراء والغاويين، يحمل معي وأحمل معه جبل الفادحة، أذكر حين ناديت على "لقمان ديركي" ليلةً وقال لي أنه يشارك، وقتذاك، في تأبين "ممدوح عدوان"، فـ .... قلتُ إن ناديتُ على صديقٍ فهل آمنُ أنّه لم يسمع بعد برحيلك، فأكونُ أنا مَنْ .... هل يكون قد سمع وينظرُ من ينادي عليه ليحملَ معه فادحَته، فكيف ...؟!
(5)
إذاً فقد روَّضك الموتُ أخيراً*، أيُّها المتمرِّدُ على الحياة ....
(6)
قبل نحو ثلاثة أشهر من الآن كنت أقرأ "آثارك الكاملة"**، بعد انقطاعٍ عنها ليس بالقصير، لا عليك، فقد وعى القلبُ باكراً أنّ أمر هذي الأرض لا يستقيم، إن كان يستقيم، إلا بالشعر والشعراء الحقيقيين من طينتِك، وإن يكن من بابِ قول صديقك "نزيه أبو عفش": ندفعُ اليأسَ بالإغنيات / ونداري كآبتنا بالجميلِ من الكلمات .... اقتنيت "آثارك الكاملة" بداية التسعينات، أول عهدي بالتشرُّد في عراءات الآخرين، ربما لتكون سنداً لقلبي أو .... كانت ظهيرةً وكنت أقرأ /
"في طفولتي، كنت أحلمُ بجلبابٍ مخطَّطٍ بالذهب وجوادٍ ينهبُ في الكرومِ والتلالِ الحجرية أمّا الآن وأنا أتسكَّعُ تحت نورِ المصابيح انتقلُ كالعواهرِ من شارعٍ إلى شارع أشتهي جريمةً واسعة وسفينةً بيضاء، تُقلِّني بين نهديها المالحين، إلى بلادٍ بعيدة، حيثُ في كلِّ خطوةٍ حانةٌ وشجرةٌ خضراء، وفتاةٌ خلاسية تسهرُ وحيدةً مع نهدها العطشان ...."
ملأتني القصيدة عن آخري، ثمَّ غلبتني غفوتي فشددت لحافي وتهيأت للنوم ..... بغتةً فكّرت: ماذا لو مِت الآن ...؟! وحدي هنا أو /
"إذاً، يُمكِنُ أن تموت وحدَكَ ها هنا وأنتَ مُلتَفٌّ بلِحافِكَ الأزرقِ المُرَّقَط أجل، مثلَ قِطٍّ وحيد ...."
تحسرت في كتابتي*** على صبَوات وشهوات عبرتني ولمَّا ..... وتذكرتُك، تذكرت تحديداً منحك جائزة "العويس" للشعراء، متأخرةً كعادة الجوائز أو فكعادة هِبات الحياة فـ ... /
" ...لستَ سوى شاعِرٍ مسكين لم تقرأ أشعاركَ بعد و لا تعرِف هل يقرأها أحدٌ بعدَك أمْ .... وأمتع من هذا أنَّك لن تفوزَ بجائزةِ الشعر إلا بعد أنْ تشيخَ القصيدةُ في دمِك .... دَعْ عنكَ أنْ تُعلِّقها البنات على أستارِ غُرُفاتِهن ...."
(7)
أمس نهاراً كنتُ في المستشفى .... شيءٌ ما أصاب القلب، أهو الحزن الذي لا يرحل أبداً .... (فقط يرحل الأصدقاء والشعراء و الزمن الجميل بهم ....)، رسموا هناك قلبي، بغير ما ريشةٍ أو ألوان .... واقع الأمر، كانت الأجهزة هي التي ترسم .... قالوا لي عضلة قلبك أكبر مما يجب، وأني وُلِدتُ هكذا و ..... لا يا سادتي الأطباء، ما هكذا جئتُ للدنيا معطوب القلب ولكن أصاب القلب ما أصابه .... كيف لا يتضخم القلب وهو يمتص كل آنٍ وآنٍ مرارة الحزن على رحيل الأحباب شاعراً شاعراً ..... أما بكينا قبل حينٍ رفقيك "ممدوح عدوان" و .... القافلة تطول /
"كلُّ الأحبةِ يرتحلون فترحلُ شيئاً فشيئاً مِن العين أُلفةُ هذا الوطن ...." - أمل دنقل
أجل، كلُّ الأحبةِ يرتحلون ....
* "لا يمكن ترويضي إلا بالموت" هكذا قال الماغوط في حوار "مونولوغ: محمد الماغوط" الذي أجراه يحيى جابر ويوسف بزي في آذار 1991 م، ونشرته مجلة "الناقد" في عددها 36 – حزيران 1991 م. ** محمود الماغوط / الآثار الكاملة صدر عن دار العودة بيروت، ولا تحمل تلك الآثار في طبعتها تلك تاريخ اصدار.
*** كتابة اسميتها "قصة موت معلن" على رواية ماركيز المعروفة.
عصام عيسى رجب [email protected]
الرياض في الأثنين 3 أبريل 2006 م
|
|
|
|
|
|